الأحد ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم رمزي حلمي لوقا

كُومباوند

كان لابد لنا من عودةٍ .. السُّورُ يبدو أكثرَ ارتفاعًا عَمَّا بَنيناهُ.. الكاميراتُ ما زالت في أماكنِها.. تراقبُ الأحراشَ الممتدة إلى ما لا نهاية.. بعد أن تركناها كجناتِ اللهِ في أرضه.

تحسستُ حفنةً من الطمي المتحجرِ المجلوبة من الوادي.. وبعضَ النباتات الجافةِ .. الأرضُ لم ترَ الرطوبةَ منذ فترةٍ طويلةٍ .. النباتاتُ شديدةُ الجفافِ.. تحتاجُ لمزيدٍ من حرارةِ الصيفِ كي تشتعلَ ذاتيًا.. فماذا لو ……؟

كان علينا أن ننتظر حتى يحلّ الظلامُ .. فافترشنا الرمالَ الملتهبة.. وبدأنا الزَحفَ نحو السّورِ بعد غروبِ الشمسِ.. كانت السماءُ بلا قمرٍ إلا من هلالٍ يُرسِلُ بالكاد صورَتَهُ البَاهِتةَ إلى قلوبنا المُرتَعشَةِ الغَاضبة.

على مسافةِ رميةِ حجرٍ وقفنا.. نظرتُ نحوهم.. رفعت يدي أحثهم على الثباتِ.. لم أكن قائدهم ولكنَّي كنتُ أكثرهم معرفة بالمكان.. فقد بنيناه بسواعدنا.. بالجهدِ والدَّمِ والعرقِ .. بنياهُ كالأبناء وطُردنا كالعبيد.

أشرت بيدي جهة اليمين.. حيث يكمنُ مخزنُ المؤنِ والغذاء.. فاتجهوا نحوه في هدوءٍ وحذر.. جريت بخِفةٍ نحو السورِ العالي.. حيث الحراس المرتزقة مُدججي السلاح.. يترنحون فوق السور في أبراجهم المحصنة.

وقفت في بقعة يلفها الظلامُ الدامسُ.. و بعيدًا عن تيار الهواء.. أشعلت الفتيل.. ألقيت بأول زجاجة مولوتوف نحو الجهة المعاكسة حتى أشتتَ انتباه الحراس.. إذ لم يكن في نيتنا استعمال العنف علي الرغم مما سقط منا علي أيديهم على مدار السنوات.. كنا ننفق كالأنعام تحت سياط الظلم والقسوة واستلاب الحقوق.. فلا نهنأ سوي بحفرة نائية في رمال الصحراء الشاسعة التي تفصلهم عن العمار دون شاهد قبر أو ملمح للاستدلال.

ما أن عبرت كتلة اللهب .. حتى امتلأ الفضاءُ الساكنُ.. بوابلٍ من الرصاص الحي.. بينما اندفع الآخرون كطوفانٍ من البقرِ الوحشي الثائر.. نحو مخازن الغذاء بعد أن اقتحموا البوابة الأمامية.. يسبقهم جحيمٌ من المشاعلِ الطائرة .. حيث بدأت النيران في إلتهام السرايات القريبة بسرعة مرعبة.

كان يدفعهم الجوع .. و تحصدهم الرصاصات الطائشة.. يتساقطون.. فيأتي من خلفهم من يطأ على أجسادهم المنهزمة غير عابئٍ بشئٍ ليواصل الهجومَ في جنونٍ مطبق.

كانت تحصيناتهم في مواجهة قسوة الجوع الذي يلتهم أحشاءنا و كبرياءنا و كرامتنا.. كنا ندرك أن خسائرنا ستكون فادحة.. لكن كان الموت حتميًا.. فإن لم يكن برصاصاتهم المذعورة.. فبالفناء جوعًا بعد أن حرمونا الزاد والماء والمأوى

كان لابد من التحرك نحو المجهول.. عسى أن يتبقى من جحافلنا من يستطيع أن يصل لمخازن الغذاء.. و يقتنص منه بعض المؤن.. كانت المعادلة: قوتهم الغاشمة مقابل استهانتنا بالموت.. لذا كان لابد أن ننتصر.

كان انهيار ساكني القصور.. و حراسهم.. مفاجأة غير متوقعة.. كان نظامًا هشًا فيما يبدو .. حتى أن الحراس فروا تاركين سلاحهم بعد أول إلتحام حقيقي بين فريقنا و فريقهم.. الجوع جعلنا نتعامل بوحشية و قسوة لم تخطر لنا على بال.. لم نكن مدربين.. و لم يكن الأمر مخططاً له.. بل كان حتميًا بالضرورة .. حاولت السيطرة على الأمر .. ولكن كانت الأحداث قد أصبحت خارج نطاق السيطرة.

النار أشعلت في كل أركان الكمبوند ذو السور العالي.. كانت القصور الفاخرة المتناثرة بين الحدائق تتلألأ كالمشاعل .. بينما الأجساد المشتعلة تجري نحو الخارج تسبقها صرخات مجنونة .. حيث كان يلقى عليها مزيدًا من البنزين.. كان طقسًا إنتقاميًا بشعًا

أخرجت أوراق المظالم التي قدمتها وقائمة بأسماء العذارى اللائي ذُبِحَ شرفهن على موائد الأسياد وأسماء الرجال الذين اختفوا خلف قضبان سجونهم وألقيتها في الوهج المحيط

حاولت التماسك ولكني انهرت باكيًا قسوة ما ارتكبت أيدينا..
تركت المنظر خلفي متجهًا لعمق المجهول بينما صوت أحدهم يصرخ:
ألا تأخذ شيئًا من الغنائم؟

من بعيد كانت أصوات سيارات الشرطة و الإسعاف والحماية المدنية تقترب بكثافة عالية بينما صوت انفجارات خزانات الوقود والسيارات تضج من خلفي كالألعاب النارية في سماء المدينة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى