الثلاثاء ٢ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم رافي مصالحة

مأساة بائع العلكة

أسدل الليل ستار ظلمتهِ فاكْتنف الكونَ غموضٌ رهيب. وما أن أسندتُ رأسي إلى وسادتي حتى تسارعت في مخيلتي الأفكارُ كأنها المَرَدةُ انفتحَت قَماقِمُها فانبعثت من محْبسها بعد طول الأمَد، ولاحقتني صورةُ صَبيٍ كان يبيع العلكة في ظهيرةٍ يُوقِدُ هجيرُها اللافحُ مَفْرقاً تزاحمت فيه السّياراتُ على أسفلتٍ يكادُ لهيبهُ أن يفورَ كالتّنور.

ما أن انقشعت الظّلمةُ وسكبت الشّمسُ فيضَ نورِها، حيث انسَلت حبِالُ النّور الذّهبية عبر نوافذ العبادِ وهي تبثّ الحياةَ في أرجاءِ المدينة التي عَلا صَخبُها مع نبضِ عقارب الزّمن، حتّى سارَع الغُلامُ ليعرِضَ بضاعتَهُ المُفرِطة الوَضاعةِ على المارة وفي عينيه فيضٌ من التّوسُلِ، ينبعثُ من خِلال خُطوطٍ من القذارةِ التي ارتسمَت على وجنتيهِ لتُغَطِي كلّ سِمات الطّفولة التي ما كانت يوماً إلا جُوعاً وهَوناً وضيق حالٍ. كانت ملامح الفتى تنطق ببُؤسه وقد علا غُبار الشّارِع المخلوط بالعرق جبينَهُ كأنها سطورٌ كتبها الزمنُ ليُخلِدَ في طيّاتها أمجاد معارِكِه مع نوائب الحياة. لقد اتّسمت ملامحُ الفتى بحُزنٍ مَشحونٍ بتفاصيلِ سيرةٍ دفينةٍ من الفاقةِ والتعاسةِ لم يُدرِك كُنهَها خَلَدي. لقد انبعثَت من عَينيهِ إيحاءاتٌ دافئةٌ صامتة، وارتسمت على مُحيّاهُ تعابيرُ الطُهر والبَراءةِ وكانَ شعرُهُ المُنسدلُ يُداعبُ النَسمات الحارِقة برقةٍ ودلال.

كانت الخرق التي اكتسى بها جسده النّحيل تكاد تكون ملابساً، إلا أنه بدا جلياً أن الزمن داعَبها أحوالاً فسلبها لونها وقرَضَها بنَواجِذهِ من قُبلٍ ودُبُر، فأضحت تنطق سيرة شقاء البشرية. والحذاءُ الذي انتعلَه طعن في السنِ هو الآخر فانسلخ لحمه وبقي من الجسد نصفه أو دون ذلك. أما السائقون فكانوا يمرون عنه وكأنه جمادٌ خالٍ من إنسانيتهِ. صنمٌ آخر لا يعني أحداً، تماما كشارة المرور التي يقف في ظلها, ليس له طموحٌ أو آمال، لا أمس له ولا غدٍ، ولا مُتسعَ له في اعتباراتهم أو همومهم أو ذاكرتهم.

كنت أراقب المشهد، والولد ينتقل من سّيارة إلى أخرى يستجدي عطف الناس أملاً بزهيد الثمن، وكان الزّمن إذ ذاك يتحرك وهو يتمطّى كأنه يمشي الهوينا. أحسْستُ عقربيّ السّاعة القابعة على معصمي كأنهما يحفران للنهار قبره ببطءٍ وتثاقلٍ عجيب، ولكنّ عزم الفتى لم يكِلّ، وما أن طالَ قُرصُ الشمسِ قلب السّماء حتّى طفقَ يعرضُ علكته على المارةِ باندفاعٍ غيرِ مُبرّر، وسِماتُ التوسُلِ لا تُفارقُ وجهاً هجرته الطفولة لحظة خروجه إلى نور الحياة.

كنت في ضيافة صديقٍ لي، عندما جاءَنا ابنُهُ يندِبُ حظَّهُ الحالكُ الظّلمة، لأنّ هاتفَهُ المحمول بات "أثرا تاريخيا" يجعلهُ عرضةً لسخرية أترابه اللذين تبرَجوا بهواتف (الجيل الخامس). تزعزع كياني لفرط المصيبة !!. كيف يمكن لهذا المسكين أن يمشي في الشّارع أو يرْتادَ مدرسته وهو يتسلّح بهاتفٍ بَصَقتهُ الموضة منذ أسابيع ؟!. ارتسمت بسمةٌ سخيفةٌ تنِمُ عن بَلادَةٍ وغباءٍ غيرِ قليل على مُحيّا صاحبي، واعِداً خليفته المدلل بأفضل محمولٍ في السوق، يعيد له هيبته المسلوبة ويكيد به رفاقه. كانت سعادة الإبن تتخطى حدود الوصف ولا تدركها المعاني او الإستعارات. أحسّ وكأنه يحلّق في فضاء من النشوة وكأنه سيمد يده ليقطف عناقيد الثّريا من صفحة السماء.

عندها بالذات، عاد بائع العلكة ليغزو فكريَ من جديد ...

ذات مساء، كنت في طريق عودتي من عملي في المدينة الموحشة الزاخرة بالحكايا. أمّا السماء في تلك اللحظة فقد كانت تنزف عند الأفق لتغزو حُمرةُ الشّفق زُرقتها الرّائعة والشّمس المحتضرة تذوي في لحدها رُويداً رُويداً لتعلن فيالِقُ العتمة سطوتها على الكون المستسلم بهدوء مطلق. شرَعتُ أبحث بعفويتي المعهودة عن بائع العلكة، الذي بات من معالم طريقي اليوميّ والذي احتل مساحةً من اهتماماتي، لا لعلّةٍ إلا لشغفي المحموم بمآسي البشر. علمتُ ساعتها أنّ سيارةً داستهُ وهو يُزاوِلُ تجارته اليومية. شعرتُ انّ الصّدمة كانت عظيمةً كما لو أنّ الجبال من حولي قد تزلزلت. كان وقعُ الخبر على مسامعي قاصِماً لكاهلي ووَددْتُ ساعتها أن يكونَ ذلك كابوساً سرعانَ ما سأصحو منهُ، بيدَ أنّ الخبرَ كانَ شديد الصّلة بالواقع.

فكرتُ ملياً، وفطنت أن بائع العلكةِ داسته الحياةُ منذ سنين قبل أن تدوسه تيكَ السّيارة العابرة، وأيقنت أنه كان ميتاً وهو يمشي على رجليه يتوسّلُ السائقين ليشتروا علكته.

ضحِكتُ ضحِكاً هستيرياً جلبَ أنظارَ السّائقين إلى من بدا كمخبولٍ هاربٍ من مشفى الأمراض العقلية، كما لم يجلب اهتمامهم لكائنٍ تسمّر على المفرقِ شُهوراً في فيض المطر وفي لهيب الشمس، ومضيتُ في طريقي لأذوبَ في سيلٍ عارمٍ من السّيارات، وأنا أنظرُ إلى فتىً غضٍّ، احتلّ المفرق، وشرع لتوِهِ يتوسّلُ الناس ليبيع علكته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى