الأربعاء ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

مقعد أمام البحر

على بحرٍ يرفض أن يكشف اسمه، يرفض أن يُنادى كما تُنادى الأمكنة، بحرٍ يبدو كأنه يتخفّى من الخرائط وينكر كلَّ تاريخٍ يُلصَق به، وُضع مقعدٌ مهترئ. لم يكن المقعد ينتمي إلى الخشب ولا إلى القماش، كان أقرب إلى شظيّةٍ انتُزعت من حلمٍ قديم، أو من مسرحيةٍ توقفت في منتصفها، ثم تُركت هنا لتكون شاهدةً على ما لا يُقال وما لا يُفهم. البحر أمامه كان يكرّر نفسه بلا ملل، وكلُّ موجةٍ تولد من ظلام العمق وكأنها تحمل رسالةً سرّية، ثم تنكسر على الرمل، وتعود لتدفن تلك الرسالة حيث لا يقدر أحد على قراءتها.

جلس على المقعد رجلان لا يُوصَفان: أحدهما كانت عيناه نافذتين على فجرٍ لم يأتِ بعد، عينان تلمعان كحروفٍ لم تُكتب بعد، والآخر وجهه محفور كجدارٍ مرَّ عليه ألفُ عام، تتساقط منه التشققات كأوراقٍ منسيّة. لم يتبادلا التحية، فكأن التحية بينهما شيءٌ زائد، أو عبءٌ لا معنى له. بدا الصمت بينهما أثقل من الكلام، لكنه كان مشبَعًا بما يكفي ليُشعل الأسئلة التي لم تُطرَح بعد.

قال الأول، وهو يحدّق في الأفق الذي يتلوّى مثل حبلٍ ممدودٍ بين سماءٍ مجهولة وبحرٍ أبديّ:

ــ انظر… الأمواج تولد وتموت، لكنها لا تتشابه أبدًا. كلُّ واحدةٍ منها تصرخ بصوتها الخاص، وكأنها ترفض أن تكون نسخةً مما قبلها.

ابتسم الثاني ابتسامةً بطيئة، لا فرحَ فيها ولا استهزاء، ابتسامةَ مَن يعرف ما وراء الكلام. مرّر يده على ذراع المقعد الخشبي، يلامس خشبه كما لو يقرأ نصًّا غير مرئيٍّ محفورًا فيه:

ــ ما تراه مختلفًا يا صديقي ليس إلا القناع ذاته يتبدّل في ألوانٍ لا تُحصى. الولادة التي تراها جديدة ليست سوى استعادةٍ قديمة بأشكالٍ أخرى. كلُّ موجةٍ تُعيدنا إلى النقطة نفسها، وإن بدت لك مختلفة.

ارتفعت الريح فجأة، صفّرت حول المقعد كما لو أرادت أن تشارك في الحوار. عندها التفت الأول إلى وجه الثاني، وفي عينيه بريقُ سؤالٍ لم يستطع كتمانه:

ــ إذن نحن لا نصنع شيئًا؟ لا نمشي إلا فوق آثارٍ تركها آخرون قبلنا؟ ألسنا أكثر من أشباحٍ تتكرّر على مسرحٍ قديم؟

أجابه الثاني بصوتٍ غائرٍ في عمقٍ بعيد، نبرته تشبه سقوط حجرٍ ثقيل في بئرٍ بلا قاع:

ــ نحن آثارٌ نُعيد رسمها، ولسنا أصحاب اللوحة. أنت تظن أنّك أول مَن يخطو، لكن حتى خطواتك تحمل ظلَّ أقدامٍ لم ترها. نحن محكومون بالتكرار، مهما توهّمنا أننا نكسر الدائرة.

ساد صمتٌ ممتدّ، صمتٌ لم يكن خاليًا بل مليئًا بضجيجٍ لا يُسمع. البحر ارتفع فجأةً في موجةٍ ضخمة، ثم انكسر بقوةٍ على الرمل، كأنه يصفّق لهما، أو كأنه يضحك ساخرًا من جدالهما. نظر كلٌّ منهما إلى الآخر طويلًا، وبدت نظراتهما انعكاسًا متقابلًا على مرآة البحر. لم يُعرَف مَن يمثّل البداية ومَن يمثّل النهاية، أو لعلّهما الاثنان معًا: وجهان لعملةٍ لا تُرى.

المقعد ظلّ ثابتًا، لا يهتزّ رغم كل ما دار، مشدودًا إلى الرمل كأنه مرساةٌ تربط المكان باللازمن. البحر ظلّ يبتلع الحوار، يمضغه، ثم يعيده في هيئة زبدٍ مبعثر. الشاطئ نفسه ازداد غموضًا، كأنه يرفض أن ينتمي إلى زمنٍ بعينه، يرفض أن يُحسب على ماضٍ أو يُبشّر بمستقبل.

وفي النهاية، لم يبقَ سوى المشهد: مقعدٌ على حافة الزمن، ورجلان يتهامسان بما لا يُفهم، يتبادلان أنفاسًا محمّلةً بما لا يُقال، والبحر يضحك سرًّا وهو يبتلع ما قالاه ليخفيه في أعماقه، كما أخفى آلاف الحوارات قبلهما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى