

من الطين إلى النور: رحلة البراءة في قصيدة رند الرفاعي

في قصيدتها "لطفلةٍ غزية"، الفائزة بالمرتبة الثالثة فرع الشعر في مسابقة ديوان العرب الأدبية ٢٠٢٥ (دورة أدب الصمود والمقاومة)، تنسج الشاعرة الأردنية د. رند الرفاعي، مرثية ملتهبة لبراءة تُسحق تحت ركام عالم مجنون. لا تقف القصيدة عند حدود الرثاء، بل تتجاوز ذلك إلى مساءلة القيم، وفضح ازدواجية الإنسانية في زمن الحرب، عبر بناء شعري محكم تتضافر فيه اللغة، والصورة، والرمز، لتحوّل الجرح الفردي إلى مأساة كونية.
منذ المطلع، تضعنا الشاعرة أمام مفارقة وجودية حادة: طفولة لم تكتمل، لم تعرف اللعب، ولا الحقول، ولا البحر، ولا أغنيات العشاق:
"ما زالتْ ضفيرتُكِ الرقيقةُ لم تُسابقْ في الحقولِ فراشةً
لم ترسُمْ الخطواتُ فوقَ الرملِ أجنِحَةً يُراقصُها النسيمْ"
بهذه اللغة الشفيفة، ترسم الرفاعي صورة البراءة المغدورة قبل اكتمالها، وتستدعي عبر التفاصيل الحسية (الضفيرة، الحقول، النسيم) عالما كان من المفترض أن يكون، لكنه لم يُمنح للطفلة.
ثم يأتي التحوّل الدرامي في القصيدة، إذ لا تكتفي الشاعرة بوصف الفقد، بل تمنحه مفارقة أملٍ صادم: الموت كخلاص، كتحرر من الألم، من التشتت، من الفزع:
"أبُنيتي.. لا خوفَ بعدَ اليومِ
لن يأتيَ ملاكُ الموتِ ثانيةً ولن تتألَّمي أبدا"
هنا يتبدى الصوت الأمومي أو الوجودي، الذي يهمس للطفلة بأن معاناتها انتهت، وأن موتها أفضل من عالم لا يليق ببراءتها. في هذه اللحظة، يتحوّل الموت من نهاية مأساوية إلى خلاص رمزي من ظلم العالم.
وفي القسم التالي، تصعد القصيدة إلى ذروة رمزية بالغة التأثير، حين تضع "الطين" مقابل "النور"، و"العتمة" مقابل "براءة الأطفال". الطين هنا ليس مجرد عنصر ترابي، بل رمز لواقع دنيوي دنّس البراءة:
"في الطينِ معصيةٌ تشوِّهُ قلبَنا
لا حُرمةٌ للموتِ تصفعُ عجزَنا"
إنها إدانة شعرية مزدوجة: للنظام العالمي المتواطئ، وللمجتمع العربي العاجز عن حماية الطفولة. ففي هذا العالم "لا حميةٌ تجتاحُنا"، ولا حزن يتجاوز حدود الحسرات المؤقتة. وحتى حين تصرخ الطفلة في آخر لحظاتها: "وااااااا إخوتي!"، فإن الرد يكون:
"سكتَ الكلامُ صغيرتي
سكتَ الكلامْ"
وهنا تبلغ القصيدة ذروتها الرمزية: فالصمت لا يدل فقط على الذهول أو العجز، بل هو علامة انهيارٍ أخلاقي شامل، حيث سقوط اللغة يعني سقوط المعنى، وسقوط القيم.
في القسم الختامي، تفضح الشاعرة النفاق العالمي، حين يتحوّل القصف والمجازر إلى مشهد عابر في "قناة" يُمكن تغييرها:
"ينظرون بحسرةٍ فيغيّرون قناتَهُمْ
وكأنّما كلّ الذي قد شاهدوه محض أفلامْ"
لكن القصيدة لا تنتهي بالبكاء، بل بالفعل الرمزي المقاوم. ففي مقابل موت الطفلة، تبقى "أصابع مرفوعة بالنصر" تحت الركام، لتعلن أن الذاكرة لم تُمحَ، وأن الشهادة ليست نهاية، بل وعدٌ بالعودة والانتقام:
"ولم يزلْ تحت الرُّكامِ أصابعٌ
مرفوعةٌ بالنصرِ تشهدُ أنّها ستعودُ ألفًا"
شهادة ورمز
بهذه البنية المحكمة، تنجح د. رند الرفاعي في تقديم قصيدة تتمازج فيها الرثائية بالغنائية، والرمز بالسرد، والحنين بالغضب. لا تتحدث القصيدة عن "طفلةٍ غزية" فقط، بل عن كل براءة مسحوقة، وعن العالم الذي فقد قدرته على الغضب. إنها قصيدة تُنقذ المعنى من الردم، وتضع الشهادة في مقام أعلى من الحياة، حين تكون الحياة مرادفًا للذل.
مشاركة منتدى
٣ آب (أغسطس), ١٤:٣٠, بقلم رند الرفاعي
أشكرك بعمق أستاذ أشرف شهاب على هذه القراءة الجادة والعميقة.
وكل الشكر لموقع ديوان العرب على ما يرفد به الثقافة العربية من مواضيع ملتزمة وهادفة.