الثلاثاء ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠٢٤
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

من حيث ندري ولا ندري!

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

يقول (ابن عبدربِّه)، في «عِقْده الفَريد»(1): «وكانوا يتمادحون بالموت قَعْصًا، ويتهاجون بالموت على الفِراش، ويقولون فيه: مات فلانٌ حَتْفَ أَنْفِه، وأوَّل من قال ذلك النبيُّ، عليه الصَّلاة والسَّلام...». ثم أَعْقَبَ هذا بقوله: «وقال (السَّمَوْأَل بن عادياء):

ما مات مِنَّا سَيِّدٌ (حَتْفَ أَنْفِهِ)
ولا طُلَّ مِنَّا حَيثُ كانَ قَتيلُ.»

فانظر كيف نقضَ غزله أنكاثًا من فوره، بعد ثلاثة أسطر.

هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) مساقنا هذا. فسألته:

 مَن الأوَّل؟ وكيف لنا أن نعرف أوَّل من قال قولًا؟!

 ثمَّ إنَّ هذه العبارات التي تجري مجرى الأمثال لا تأتي تأليفًا فرديًّا، بل هي مأثورات شَعبيَّة متداولة، لا يُعرَف قائلها الأوَّل غالبًا؛ فإمَّا أن تكون الرواية الأُولى، التي تَنسِب إلى الرسول أنَّه أوَّل من قال «مات حَتْفَ أَنْفِه» غير صحيحة، وهو الراجح، وإمَّا أنَّ بيت (السَّمَوْأَل) غير صحيح النِّسبة. وبالرغم من هذا فإنَّ المؤلِّف، ومحقِّقي كتابه بعده، يَمضون هنا بلا توقُّفٍ أو تعليق!
 لكن...
 وكان ممَّن زعمَ أيضًا أنَّ تلك العبارة أوَّل من قالها الرسولُ: (الجاحظ)(2)، و(الثعالبي)(3).
 ثلاثة شهود عدول، «وشهادة كلِّ قضيَّة اثنان»! أتزعم، يا (ذا القُروح)، أنَّ هؤلاء لم يتنبَّهوا إلى ما تنبَّهتَ أنت إليه؟
 هؤلاء، يا صديقي، صُحفيُّون، غالبًا، حاطبو ليل، كما وصفهم (المسعودي)؛ لا يفكِّرون تفكيرًا نقديًّا في ما يروون ويتناقلون. على أنِّي وجدتُ- بعد تسجيل هذه الملحوظة- (الزَّبيديَّ)(4) قد تنبَّه إلى هذا، حيث قال: «قلتُ: وقد جاءَ في بَيْتِ السَّمَوْأَلِ أَيضًا، وهو يُخَالِفُ ما سبَقَ مِن قَوْلِ رَاوِي الحَدِيثِ: إِنَّهَا كلمةٌ لم يَسْمَعْها مِن أَحَدٍ مِن العَرَب قَطُّ قَبْلَ رسولِ الله، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم. وأَجابُوا بأَنَّه لم يَسْمَعْهَا، أَو أَنَّ الرِّوَايَةَ ليْسَتْ كذلكَ، كما نَقَلَهُ شَيْخُنا، وفيه نَظَرٌ وتَأَمُّلٌ.»
 فالمسألة بدأت، إذن، بقائلٍ قال: «ما سمعتُ بهذا التعبير قبل سماعي إيَّاه من رسول الله»، فتناقلوا هذا، وإنْ أوردوا ما ينقضه على الصفحة نفسها، كما فعل (ابن عبدربِّه)!
 وطبيعيٌّ أن لا يكون أحدٌ قد سمع كلام العَرَب كلَّه. ثمَّ دار قول القائل بين الرُّواة على أنَّه تأريخ لمنشأ تلك العبارة! والشاهد أنَّ مَن تأمَّل شأن الرواية في تراثنا العَرَبي، وغفلةَ الناقلين، وجدَ العَجَبَ العُجاب، واقتضى منه ذلك التحرُّزَ كثيرًا قبل الأخذ من سُوقها المزجاة بشيءٍ ذي قيمة أو موثوقيَّة.
 وإشكال هذه «السوالف» التراثيَّة عامٌّ طامٌّ، في المراجع الدِّينيَّة، والتاريخيَّة، والأدبيَّة.
 نعم؛ لأنها، غالبًا، حكاياتٌ، وسوالف مجالس، وروايات رُكبان، دُوِّنت، وتوارثها الناس، ومن ثَمَّ دُرِّست لنا على أنها وقائع، وحقائق، ودرَّسناها لطلبتنا، وبُنِيت عليها الأحكام، والأطاريح. وتدور بنا تلك الدوائر إلى يوم الدِّين!
 ستُتَّهم بأنك تُشكِّك في علماء التراث، وعنهم أخذنا تراثنا، وإذا شككنا فيهم لم نعد نثق في شيء!
 من حَسَبَ لكلام الناس حسبانًا، فليعشْ شيطانًا أخرس! ولا عِلم حقيقيًّا بلا شك، بل هو حينئذٍ الاجترار والتقليد؛ فالشكُّ مفتاح الحقيقة، والعِلم، والعقل!
 الأغلاط الفرديَّة واردة في كلِّ زمان ومكان، وكُلٌّ يؤخَذ من كلامه ويُرد، والتعميم خطيئة!
 صحيح! غير أنَّ السؤال: لِـمَ يضطلع محقِّقٌ بتحقيق كتاب، ثمَّ لا تجد له إلَّا المقارنة بين ما ورد في نُسخ المخطوطات من اختلافات؟
 يقولون: إنَّ هذا هو الأصل في التحقيق؛ أن تُخرِج المخطوط في صورته الأقرب لوضع صاحبه، بلا تدخُّل؛ فالمحقِّق غير الدارس.
 لا تتدخل في المتن، لكن عليك التدخُّل في الحاشية. وإلَّا فإنَّ هذا يعني الإسهام في نشر الضَّلالات! تلك مدرسة العَجَزة والكُسالى من المحقِّقين، أمَّا مدرسة التحقيق الحقيقي، فهي (مدرسة التحقيق النقدي)، التي يتوقَّف فيها المحقِّق، ويناقش، ويحلِّل، ويعلِّق، ولاسيما حينما تبدو المزالق أمامه من الوضوح بمكان. خذ مثالًا آخَر شاهدًا من مجال الأدب: فلقد نقل (مُحْيي الدِّين بن عَرَبي، -638هـ= 1240م) في كتابه «محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، في الأدبيَّات والنوادر والأخبار»(5) قوله: «حكَى لنا بعض الأدباء عن ابن الجهم، وكان بدويًّا جافيًا، لمَّا قَدِم على المتوكِّل، وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها، يخاطب الخليفة:

أَنتَ كالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُ ::: دِّ، وكالتَّيْسِ في قِرَاع الخُطُوبِ
أَنتَ كالدَّلْو، لا عَدِمتُكَ دَلْـوًا ::: مِن كِبَارِ الدِّلا كَـثيرِ الذنُـوبِ!

فعرفَ المتوكِّلُ قُوَّته، ورِقَّة قَصده [كذا!]، وخُشونة لفظه، فعرفَ أنه ما رأى سِوَى ما شبَّهه به لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدارٍ حَسَنةٍ على شاطئ الدجلة، فيها بستان حَسَن، يتخلَّله نسيمٌ لطيف، يغذِّي الأرواح، والجِسر قريب منه، وأمر بالغذاء اللَّطيف أن يُتعاهَد به، وكان يركب في أكثر الأوقات فيخرج إلى محلَّات بغداد، فيرى حركة الناس ولطافة الخضر [كذا! ولعلَّ الصواب: الحَضَر]، ويرجع إلى بيته، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء والفضلاء يتعهَّدون مجالسته ومحاضرته، فاستدعاه الخليفة بعد مدَّة ليُنشِده، فحضرَ وأنشد:

عُيُوْنُ المَهَا بَيْنَ الرُّصافةِ والجِسْرِ ::: جَلَبْنَ الهَوَى من حيثُ أدري ولا أدري

فقال المتوكِّل: لقد خشيتُ عليه أن يذوب رِقَّةً ولَطافة.

 حكاية لطيفة!
 وما أفسد تراثنا شيءٌ كما أفسدته الحكايات المستلطفة والأقاصيص المستعذبة، الفارغة من حذق القَصِّ أصلًا! وقد فَشَتْ منذ ازدهار الأقاصيص على ألسنة الوُعَّاظ والإخباريِّين ومن شابههم في العصر الأموي. وتلقَّف هذه الأقصوصة بعض المتأخِّرين، ومنهم (عبدالملك بن حسين بن عبدالملك العصامي، -1111هـ= 1699م)، في كتابه «سِمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي»(6). وهي- كما أرى- حكايةٌ واضحة الاختلاق من وجوه:

1- مهما قيل في بداوة الشاعر، فلن يبلغ به الأمر ذلك المبلغ من الفجاجة في الخِطاب في مقام المديح. ودُونك شِعر الجاهليِّين، ففي معظمه من اللَّباقة ما ليس في شِعر بعض الإسلاميِّين. لكنَّه التصوُّر المبالغ فيه عن البداوة وجفائها. وإنَّما قد يقع الخروج ممَّا يناسب المديح إلى ما هو بالهجاء أشبه، جرَّاءَ فجاجة الطبع في الشاعر نفسه لا في بيئته، أو لتكلُّف الصنعة عند بعض الشُّعراء، لا بسبب البداوة وجفائها. ومن هذا، على سبيل النموذج، قول الشاعر الحَضَري المعتَّق (البحتري)(7)، في مدح الوزير (إسماعيل بن بُلبُل):
أَتعَبْـتَ شُـكْرِي فأَضـحَى مِنكَ في نَصَبِ ::: فـاذهَبْ! فمـالِيَ فـي جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ!
فكيف لشاعرٍ- يفطن إلى أنَّ لكلِّ مقامٍ مقالًا- أن يخاطب ممدوحه: بـ«اذهبْ!»، ثمَّ يقول له: «فمالِيَ في جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ»؟! هذا ما لا يليق بمقام المديح، مهما كان من بَعْدُ من تأويل. وممَّا يؤكِّد جفاء (البحتري) في أمدوحته هذه إتْباعه ما سبق ببيته:
لَأَشْـــكُرَنَّكَ إِنَّ الشُّـــكْرَ نَـــائِلُهُ ::: أَبقَـى عَلـى حالَـةٍ مِن نَائِلِ النَّشَبِ
ممتنًّا على الممدوح بشُكره إيَّاه! ذاهبًا إلى أنَّ شُكره شِعرًا أبقَى من معروفه إليه.
 قوله صحيح، لكنه لا يليق بالمديح.
 حتى كاد الشاعر أن يخرج من مقام المديح إلى التعريض بالوزير، بل إلى هجائه! ومهما يكن، فإنَّ من يوازن خِطاب البحتري الشِّعري بخطاب صنوَيه في الثلاثيِّ العباسي، أعني (أبا تمَّام) و(المتنبِّي)، يخيَّل إليه أنَّه كمن يوازن ثَمِلًا يترنَّح بعقلَين راجحَين! أو قل: إنَّما هو «عَبَثُ الوَليد»، على حدِّ نعت (المَعَرِّي). وتلك مسألةٌ أخرى.

2- لا يمكن أن يتحوَّل أسلوب المرء اللُّغويُّ ذلك التحوُّل النقيض، الذي زعموه لدَى (ابن الجهم)، على كِبَر، وبالطعام، والنسيم العليل، والعيش في حاضرة، لمدة ستة أشهر! هذا تصوُّر ساذج حقًّا! كما أنَّ عامل البيئة ليس إلَّا أحد العوامل في الأسلوب. واقرأ شِعر (أبي تمَّام) أو شِعر (المتنبِّي)، لتلحظ ما في بعضه من حُزونةٍ وتوعُّر؛ لأسباب من الطبع والذِّهن، لا من البيئة وحدها.

3- إنَّ لُغة الشِّعر أوسع وأعقد من أن تقاس بمقياس لغة الحياة اليوميَّة المتباينة بين لغة المجتمع الحَضَري والمجتمع البدوي. فبعيدًا عن حكاية (الكلب) و(التيس) و(المها)، وعن مسطرة اللائق وغير اللائق، فإنَّ الشاعر الحاذق مصوِّرٌ لآفاق الحياة، ومشاعر النفس البَشَريَّة، المتلوِّنة المتقلِّبة، وليس بناطقٍ رسميٍّ باسم مجتمع بعينة. ومَن قاسَ بهذا المقياس، لا يفرِّق بين لغة الأدب- فضلًا عن لغة الشِّعر- وغيرها من اللُّغات.

(1) (1983)، تحقيق: أحمد أمين؛ أحمد الزين؛ إبراهيم الإبياري، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 1: 101.
(2) يُنظَر: (1975)، البيان والتبيين، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 15.
(3) يُنظَر: (1983)، التمثيل والمحاضرة، تحقيق: عبدالفتَّاح محمَّد الحلو، (القاهرة: الدار العَرَبيَّة للكتاب)، 1: 22.
(4) يُنظَر: تاج العروس، (حتف).
(5) (مصر: مطبعة السعادة، 1906)، 2: 3- 4.
(6) (1998)، باعتناء: عادل أحمد عبدالموجود، وعلي محمَّد معوَّض، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 3: 469. وللباحث (غازي بن أحمد الفقيه) مقالٌ حول المؤلِّف والكتاب وطبعاته، بعنوان «سمط النجوم العوالي: هل تعرَّض للتزوير؟!»، صحيفة "الجزيرة"، السُّعوديَّة، الاثنين 21 سبتمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/2Rg76Fp
(7) (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 120/ 10.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى