الأربعاء ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

من كفر قاسم إلى حاضرنا المنكوب

من كفر قاسم إلى حاضرنا المنكوب: حين تتكرّر المأساة بثوبٍ جديد

في مساءٍ خريفيٍّ من تشرين الأول عام 1956، عاد عمّال كفر قاسم إلى بيوتهم منهكين، يحملون في أكفّهم الخبز والعرق، وفي صدورهم حلمًا صغيرًا بالراحة. لم يكن أحدٌ منهم يعلم أن ساعةَ الحظر تغيّرت، وأن الرصاص ينتظرهم على مشارف القرية.

في تلك اللحظة التي انطفأت فيها الشمس، انطفأت أيضًا 49 شمعة من أرواح بشرية بريئة.

كانت المجزرة التي هزّت فلسطين والعالم — لا لأنّها الأكبر عددًا، بل لأنها الأكثر وضوحًا في قسوتها، وفي تجرّدها من كل مبررٍ إنساني.

منذ ذلك المساء، لم تتوقف كفر قاسم عن النزف — لا لأن الدم ما زال على الأرض، بل لأن المعنى ما زال معلقًا في الهواء:

من يملك الحق في أن يقرر حياة الآخر أو موته؟

من يملك أن يُعلن قانونًا في غياب العدالة، وأن يُفلت من العقاب بدعوى “الأوامر العليا”؟

التاريخ لا يموت... إنه يتنكر فقط

بعد تسعة وستين عامًا ونيف، يبدو أن الزمن لم يمضِ حقًا.

الوجوه تغيّرت، لكن الآلية ذاتها تتكرّر: حظر، تقييد، حصار، قمعٌ باسم الأمن، ورصاصٌ لا يعرف الفرق بين من خاف ومن لم يسمع.

كأننا في مسرحٍ عبثيٍّ لا تنتهي فصوله، نرى الجندي ذاته في كل مكان، بزيٍّ مختلف لكن بذات الذهنية: “نفّذ ولا تسأل.”
وكأنّ مجزرة كفر قاسم لم تكن صرخة، بل تمرينًا أوليًا لعالمٍ تعلّم كيف يُغتال الإنسان قانونيًا ثم يُبرَّأ القاتل إداريًا.

اليوم، ونحن نعيش زمن الحروب المتعددة على فلسطين والعرب، نشهد كيف تُعاد صياغة المأساة بطرقٍ أكثر حداثة:
بطائراتٍ مسيّرة بدل البنادق، وبـ “بيانات رسمية” بدل إطلاق النار المباشر، لكن الجوهر واحد — الإنسان العربي لا يزال هدفًا مشروعًا حين يريد أن يعيش.

كفر قاسم ليست ذكرى... بل تحذير

كل عام، نحمل صور الشهداء ونُضيء الشموع، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الدم لم يتحوّل بعدُ إلى وعيٍ سياسيٍّ عادل.

إنّ كفر قاسم لا تريد منّا بكاءً، بل مراجعةً: كيف يمكن أن يتكرّر الوجع بأشكالٍ مختلفة دون أن نتعلم؟

كيف يمكن لأمةٍ أن تنجو من التكرار إن كانت ذاكرتها تُحتفى بها يومًا وتُهمَّش في الغد؟

إنّ ذكرى المجزرة لا تخصّ الفلسطينيين وحدهم.

إنها مرآة العالم كله حين يفقد إنسانيته أمام “القانون”، وحين تتحول الدولة إلى آلةٍ تنفّذ، لا كيانٍ يفكر.

هي درسٌ في الفلسفة السياسية، وليست مجرد حدثٍ في كتاب التاريخ.

بين الأمس واليوم: الخوف نفسه، والأسئلة نفسها

حين ننظر إلى صور كفر قاسم القديمة، نرى في وجوه الشهداء ملامح من وجوه الغزيين اليوم، ومن لاجئي المخيمات، ومن الشباب الذين يُقتلون على الحواجز.

كأنّ التاريخ لم يتقدّم، بل دار حول نفسه.

كأنّ الرصاصة ذاتها عبرت سبعين عامًا لتستقرّ في صدر الحاضر.

في عالمٍ يزداد قسوة، نحتاج إلى أن نفهم أنّ مجزرة كفر قاسم لم تنتهِ فعلاً —

هي تحدث كلّ يوم، في مكانٍ آخر، عندما يصمت العالم عن الظلم،

وعندما يصبح الخوفُ قانونًا، والعدالةُ رفاهيةً، والذاكرةُ تهمةً.

لا خلاص إلا بالذاكرة

قد لا نستطيع تغيير الماضي، لكننا نستطيع أن نحفظه كي لا يتكرر.
كفر قاسم ليست قرية في الأطلس، بل ضميرٌ فلسطينيٌّ مفتوح.
هي الذاكرة التي تحرس ما تبقّى من معنى العدالة.
وحين يُسأل الطفل الفلسطيني: لماذا تحفظ أسماء الشهداء؟
ليقل: لأنّ الأسماء هي ما يبقى حين يحاولون محو الحكاية.

في زمنٍ تتشابه فيه المآسي وتتعقّد فيه الخطابات، تبقى مجزرة كفر قاسم نقطة اختبارٍ أخلاقي لكلّ دولةٍ وكلّ إنسان.
هل نختار أن ننسى لأنها تُزعجنا؟

أم نواجهها لأنها تذكّرنا بأنّ الدم الذي يُسفك دون حساب يجعلنا جميعًا مسؤولين؟

كلمة أخيرة

كفر قاسم لم تكن حدثًا عابرًا في جغرافيا الاحتلال،
بل لحظةً كاشفةً في تاريخ البشرية.
هي الجرح الذي أعاد تعريف معنى الطاعة، وحدود السلطة، ومكانة الإنسان.

واليوم، بعد كلّ هذا الخراب الممتدّ، أقول:
ما زال فينا من يؤمن أن الذاكرة مقاومة،
وأنّ الكتابة — كما كانت الشهادة — شكلٌ من أشكال البقاء.

فليكن هذا المقال شمعة أخرى تُضاء في وجه العتمة،
لا لتبكي الماضي، بل لتوقظ الحاضر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى