الأحد ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
رُؤى ثقافيّة «290»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

موسوعات (رؤية تحليلية)!

ــ 1 ــ

هذه ورقة بحثٍ قُدِّمت في ندوة «موسوعات سُعوديَّة: قراءة تحليليَّة»، ضمن فعاليَّات معرض الرِّياض الدولي للكتاب 2007م، مساء الأحد 14 صفر 1428هـ= 4 مارس 2007م.

وبادئ ذي بدء، لا بُدَّ من التفريق بين مفهوم «التأليف الموسوعي»، ومفهوم «الموسوعة، أو دائرة المعارف Encyclopedia»- بمعاييرها المدرسيَّة، المحفوظة عن الغرب- من جهة، ثمَّ بينهما وبين «المسرد Bibliography» من جهةٍ أخرى. ولا بُدَّ كذلك، حين النظر إلى المفهوم الشامل للتأليف الموسوعي، من التخلُّص من جموديَّة النمط، وَفق قوالب تقليديَّة، منتزعة عن التركيبة الموسوعيَّة الغربيَّة، في صورتها الكُبرى وهيئتها النهائيَّة. ذلك لأن الجمود على معايير ثابتة لما يُسمَّى «موسوعة» فيه حرقٌ للمراحل السابقة لتطوُّر الموسوعة في القرن العشرين، وسيقف في وجه تطوُّرات الموسوعة الحديثة، بتشعُّبها، واختلاف آفاقها، واهتماماتها، وتقنياتها. ومن ثَمَّ فربما ألغت تلك النمطيَّةُ الجامدة- في المقابل- الموسوعةَ الإلكترونيَّةَ، احتكامًا إلى طرائق التأليف في ما سلف من موسوعات ورقيَّة.

وعليه، فإن ضروبًا من التأليف الموسوعي يجب أن تندرج تحت مظلَّة عامَّة باسم (موسوعة)، شريطة أن تلتزم بمنهاجٍ علميٍّ، سنذكر اشتراطاته لاحقًا.

أمَّا «المسارد»- وهي تلك المتعلِّقة بالتعريف بالكتب أو المخطوطات ووصفها، يُعِدُّها مؤلِّفٌ أو مؤلِّفون أو دار نشر- فلا علاقة لها بمفهوم الموسوعة، إنْ هي وقفت عند هذا الحد من المحتوى. لكنها حين تشمل تراجم مؤلِّفين، وتفصيلات في جهودهم، وإثباتًا لنماذج من إنتاجهم، وعرض صورٍ متعلِّقة بالموضوعات، مع إحالاتٍ إلى مراجع بحثيَّة، مراعيةً الشموليَّة في موادِّها، فإنها تُغدو عندئذ ضربًا من التأليف الموسوعي، لا من «الببليوجرافيا».

ــ 2 ــ

وينشأ التأليف الموسوعي عادةً في ظِلِّ حاجات قوميَّة مُلِحَّة، دِينيَّة، أو تاريخيَّة، أو وطنيَّة، أو ثقافيَّة، تدعو إلى لَمِّ شتاتٍ يُخشَى أن يضيع. فقد بدأ هذا الاحتفاء الموسوعي في تراثنا العربي- على نحوٍ لافت- عقب انهيارات تاريخيَّة وحضاريَّة وسياسيَّة عظمى، ولاسيما إثر الغزو المغولي والصليبي للعالم الإسلامي. وهو ما جعل القرن السابع للهجرة والقرن الثامن قرنَي الموسوعات العربيَّة القديمة. فظهرت المعاجم اللغويَّة ذات الطابع الموسوعي، مثل «لسان العرب المحيط»، لابن منظور (-711هـ= 1311م)، وظهرت موسوعات التراجم المتعدِّدة، في المشرق الإسلامي والأندلس، وظهرت كُتب الثقافة الموسوعيَّة، كـ«نهاية الأرب في فنون العرب»، لشهاب الدِّين النويري (-733هـ= 1332م)، و«صُبح الأعشى»، لأبي العباس القلقشندي (-821هـ= 1418م). وصارت المكتبة العربيَّة، إلى وقت قريب، من أغنى مكتبات العالم في هذا الضرب من التأليف.(1)

ولقد كان المؤلِّف الواحد في تلك الحِقَب هو من يحمل عبء ما اضطلع به من تأليف، محسوبًا له التميُّز ومحسوبًا عليه التقصير. واستمرَّ ذلك إلى القرن التاسع عشر والعشرين الميلاديَّين. ومن نماذج ذلك، على سبيل التمثيل: «دائرة المعارف»، للمعلِّم بطرس البستاني (-1300هـ= 1883م)، و«الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين»، لخير الدِّين الزركلي (-1396هـ= 1976م)، و«موسوعة المستشرقين»، لعبدالرحمن بدوي (-1423هـ= 2002م)، ونحوها من ضروب الموسوعات. حتى إذا آذن نجم أولئك المؤلِّفين المجتهدين بالأفول، اتَّجه العمل الموسوعي العربي- محاكاة لأساليب التأليف الموسوعي الغربي الحديث- إلى تكوين فِرَقٍ لإعداد الموسوعات بمواصفاتها الحديثة. في عصرٍ لم يعد من سبيلٍ إلى اضطلاع الفرد بإعداد موسوعة، بما يحمله هذا المصطلح من معنى، والمعلومات تتفجَّر من بين يديه ومن خلفه، وقنوات الاتصال تتسع بصور شتَّى، وتتعدَّد آفاق التعبير، والإنتاج، بدرجةٍ لم يسبق لها مثيل في التاريخ.

ــ 3 ــ

في هذا العصر- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- بات من المُفترض في العمل الموسوعيِّ أن يتصف بالحصافةُ العلميَّة التامَّة، من حيث الإحاطة والموضوعيَّة. وعلى محكِّ هذين المعيارَين، يتحتَّم أن تبرأ الموسوعة من داءين خطيرين مزمنين: داءِ التحيُّز، وداءِ القصور عن الإحاطة. ولقد يتداخلان في موسوعةٍ رديئةٍ واحدة. على أنها لم تخل موسوعة في العالم من أن تعتورها ملامح قصورٍ من قِبَل أحد هذين المعيارَين، أو من كليهما. ذلك أن لكلِّ عملٍ موسوعيٍّ أهدافًا معلنة، وأخرى ضِمْنية. وفوق هذا وذاك يبقَى تحدِّي التأليف الموسوعيِّ تحدِّيًا ضخمًا، لا يقوم إلَّا على كاهل فريقٍ واسع من المتخصِّصين. ولعلَّ أهم الشروط لإعداد موسوعةٍ علميَّةٍ معاصرةٍ تُجْمَل في الآتي:

1-العمل بروح فريقٍ علميٍّ واحدٍ متكامل.

2-قيام جهازٍ إشرافيٍّ عِلْميٍّ دقيق، يحتكم إلى معايير عِلْميَّة، لها صفة الحياد (النِّسبي)؛ لكيلا تطغَى توجُّهاتٌ خاصَّة أو ميولاتٌ صارخة، تُفسِد مصداقيَّة العمل لدَى جمهرة المتلقِّين.

3-توافُر المحرِّرين الأكفياء، من أصحاب الخبرات الواسعة في هذا المجال.

4-تحديد معايير ثابتة صارمة، تُطبَّق على جميع الموادِّ في الموسوعة؛ كي لا تخضع للارتجال، أو التشكُّل بأمزجة الباحثين الثقافيَّة، أو اتجاهاتهم العِلْميَّة، أو أهوائهم الاعتقاديَّة أو الفكريَّة.

5-تصنيف المواد في أحجام متكافئة، وبمقاييس متوازنة، دون إسرافٍ في الإطالة، ولا إخلالٍ في الإيجاز.

6-تدقيقُ المعلومات، مع تحديثها، في زمنٍ المعلومةُ فيه متجدِّدةٌ كلَّ صباح أو مساء، بل ربما كلَّ ساعة.

ولا ريب أن الموسوعات في مجالات العلوم البحتة، أو ذات الطبيعة المعلوماتيَّة، هي أقرب إلى تحقُّق تلك الاشتراطات والتزام تلك الحدود من الموسوعات الثقافيَّة والأدبيَّة.

[وللحديث بقيَّة].


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى