وقفة على قبر الأعشى
يُرْوَى أَنَّ الأَعْشَى (مَيْمُوْنَ بْنَ قَيْسٍ) عَزَمَ عَلَى الدُّخُوْلِ فِي الإِسْلامِ؛ وَرَحَلَ لِمُلاقَاةِ الرَّسُوْلِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِيْنَةِ قَابَلَتْهُ قُرَيْشٌ، وَأَخْبَرَتْهُ بِعِدَّةِ أُمُوْرٍ مِنْهَا أَنَّ الإِسْلامَ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ، وَلِشِدَّةِ حُبِّهِ لِلْخَمْرِ قَرَّرَ أَنْ يُؤَجِّلَ إِسْلامَهُ لِلْعَامِ التَّالِي؛ حَتَّى يَشْبَعَ مِنْهَا، وَفِي طَرِيْقِ عَوْدَتِهِ سَقَطَ مِنْ عَلَى نَاقَتِهِ فَمَاتَ وَهُوَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَانَ النُّدْمَانُ مِنْ أَهْلِ بَلْدَتِهِ يَجْتَمِعُوْنَ لِلشَّرَابِ عَلَى قَبْرِهِ، فَإِذَا جَاءَ دَوْرُهُ سَكَبُوا الْكَأْسَ عَلَى قَبْرِهِ؛ لِتَرْتَوِيَ عِظَامُهُ مِنَ الْخَمْرِ، وَعَلَىْ لِسَانِ أَحَدِ هَؤُلاءِ النُّدْمَانِ كَتَبْتُ هَذِهِ الْقَصِيْدَةَ.
| عَرَفْنَاكَ يا أَعْشَى بِعِشْقِكَ لِلْخَمْرِ | فَهَلْ حِدْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ عَنْ ذَلِكَ الأَمْرِ |
| عَهِدْنَاكَ يَا مَيْمُـوْنُ [1] فِي كُلِّ مَوْطِنٍ | وَفِـيًّا لَهَا فِي حَالَـةِ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ |
| كَأَنِّي بِكَ الآنَ اتَّـخَذْتَ كُؤُوْسَهَا | جَمَاجِمَ رَبَّـاتِ الدَّمَالِجِ [2] وَالْخِدْرِ |
| وَعَلَّكَ حَطَّمْتَ الأَبَارِيْـقَ كُلَّهَـا | لِتَسْبَحَ فِي الصَّهْبَاءِ [3] كَالْحُوْتِ فِي البَحْرِ |
| فَيَالَكَ عِرْبِـيْداً تَسَرْبَـلَ بِالطِّـلاَ [4] | وَخَضَّبَ مِنْ أَقْدَاحِهَا أَبْيَضَ الشَّعْرِ |
| بِرَبِّكَ يَا صَنَّاجَـةَ الْعَرَبِ [5] اسْتَفِـقْ | وَقُمْ حَدِّثِ السُّمَّارَ عَنْ لَذَّةِ السُّكْرِ |
| فَمَا رَاعَـنِي فِي الصَّحْـوِ إِلاَّخَيَالُهُ | يُوَلْوِلُ مَطْرُوْحاً عَلَى بُسُطِ الْجَمْرِ |
| يُعَالِـجُ أَغْـلالاً بِرَغْـمِ اتِّقَادِهَـا | أَشَـدَّ مِنَ الأَوْتَادِ فِي يَابِسِ الصَّخْرِ |
| يُحَدِّثُـنِي وَالْقَـبْرُ يَرْتَـجُّ كُلُّـهُ | كَأَنَّ بِـهِ جِـنًّا تُزَمْـجِرُ فِي ذُعْرِ |
| فَخُـيِّلَ لِي أنَّ الْـمَقَابِرَ بُعْثِـرَتْ | وَأَنَّ الَّذِي أَبْصَرْتُ مِنْ صِوَرِ النَّشْرِ |
| يَقُوْلُ لَكَ الْوَيْلاتُ فِـيْمَ تُرِيْدُنِـي | أَلَمْ يَكْفِ مَا أَلْقَى لِتَهْتِكَ مِنْ سَتْرِي؟ |
| وَكَيْفَ حَسِبْتَ الْقَبْرَ مَوْضِعَ لَـذَّةٍ | لِمَنْ بَاعَ أُخْـرَاهُ بِكَأْسٍ مِنَ الْخَمْرِ؟ |
| سَكِرْتُ وَلَكِنْ لَيْسَ سُكْرَ مُدَامَـةٍ | وَلَكِنَّـهُ سُكْرُ الْـمَقَامِعِ وَالْقَهْـرِ |
| فَدَعْ عَنْكَ قَوْلِي فِي الشَّمُوْلِ [6] وَوَصْفِهَا | فَمَا كُنْتُ إِلاَّ غَاوِياً لَجَّ فِي الْكُفْرِ |
| وَمَا سَرَّنِي حُبُّ الْوَرَى لِقَصَائِـدِي | وَقَوْلُـهُمُ الأَعْشَـى تَفَـوَّهَ بِالدُّرِّ |
| فَمَا أَزْيَفَ الأَمْـجَادَ حِيْنَ نَنَالُهَـا | بَمَا نَتَمَـنَّى مَحْوَهُ سَاعَـةَ الْحَشْرِ! |
| تَنَاقَـلَ أَخْبَـارِي الرُّوَاةُ وَلَيْتَـنِي | نُسِيْتُ فَلَمْ أَخْطُرْ لِرَاوٍ عَلَى فِكْرِ |
| فَأَجْـدَرُ شِعْـرٍ بِالْبَقَـاءِ قَصِيْـدَةٌ | إِلَى الطُّهْرِ تَدْعُو لاَ إِلَى الْعَهْرِ وَالْفَجْرِ |
| تُغَـنَّى عَلَى مَـرِّ الْعُصُوْرِ قَصَائِدِي | وَأُؤْجَرُ عَنْهَا بِالْـمَزِيْدِ مِنَ الْخُسْرِ |
| فَمَا أَنَا مَتْرُوْكٌ وَلاَ الْمَوْتُ مُدْرِكِي | وَأَخْرُجُ مِنْ عُسْرٍ لِأَدْخُلَ فِي عُسْرِ |
| تَمَـنَّيْتُ لَوْ أَنِّي اتَّبَعْتُ مُـحَمَّداً | وَنَهْنَهْتُ [7] نَفْسِي عَنْ مُقَارَفَـةِ الْوِزْرِ |
