ولأرباب النون والقلم إشراقة إلهام وأمل
كلمتان تتراودان ذهن أصحاب القلم كلما شرعوا بكتابة مقالة أو بحث أو دراسة أو كتاب، ويزداد الامر التصاقا مع سَفَن البحار والقوافي، وهما: الإلهام والإيحاء، وكلاهما أمران غير ماديين، يأتيان للإنسان على حين غفلة أو بالتخاطر أو بالتفكير المستفيض في أمر ما، عصي على الفهم، وقد تكون للمادة دخل في بعضها على نحو الواسطة.
بالطبع لا تتوقف مسألة الإلهام أو الإيحاء أو كلاهما على أرباب النون والقلم، فكل مخلوق يتنفس، له إلهامه وايحاؤه في الحقل الذي فيه ومدار اهتمامه، وكل منا إذا رجع إلى المفاصل المهمة من حياته سيكتشف أن كل نقلة جديدة في حياته جاءت بشكل عام من خلال غيث إلهام نزل على جديب ذهنه او سحابة إيحاء مرت فوق عصيب تفكيره، أو نتيجة حدث وقع أمامه أو طائف من خيال لفَّ دماغه، دغدغ حبيس تفكيره وإبداعه، فالكبير يلهم والصغير يلهم، وكل حيوان ناطق أو غير ناطق بتعبير المناطقة له مسارب للإلهام والإيحاء.
ولأن العلم المقيد بالكتابة يبقى أثره ويجري نهره، فإن أرباب القلم في كل نواحي العلم والثقافة والأدب والسياسة والإقتصاد والإجتماع وغيرها، لهم إلهاماتهم وإيحاءاتهم جعلتهم ينتجون نثراً أو نظماً، فبعض يشير إلى من ألهمه وأوحى له بالتصريح، وبعض يتجلبب بالتمليح تاركاً التصريح لنباهة القارئ.
وقد تأتي المعرفة بفعل إيحاء غيبي دون أن تكون للمادة دخل فيما أوحي لمن أبدع شيئاً جديداً لم يأت به من سبقه، وقد تأتي المعرفة بفعل إيحاء قائم على أصل مادي، فالذين قالوا بكروية الأرض انتبه قائلهم إلى شراع سامق فوق ناصية سفينة يبدأ بالغياب عن الأنظار كلما مخرت السفينة عباب البحر، فألهم غياب الشراع استحالة استواء الأرض وحتمية كرويتها، ونيوتن الذي نُسب إليه قوله بالجاذبية ألهمته سقوط تفاحة، ومن قبل أخبرنا القرآن الكريم: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) سورة الرعد: 2، أو قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) سورة لقمان: 10، والعالم عباس بن فرناس الذي حاول الطيران ألهمه الطير بذلك، ربما مستلهماً من قول الباري: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سورة النحل: 79، ومن قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) سورة الملك: 19، ولعلَّ أول إيحاء يسجله القرآن لبني البشر هو قتل قابيل لأخيه هابيل، ولم يدر ماذا يفعل بجثمانه فأرسل الله غراباً يواري في باطن الأرض غراباً ميتاً وقيل اقتتلا فحفر الغراب القاتل الأرض ودفن المقتول وهال عليه التراب، فانتبه لذلك قابيل ودفن أخاه والندم يعصره، وهو حدث وإيحاء ينبؤنا به القرآن الكريم: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ) سورة المائدة: 30 و31.
هذه المقدمة ألهمني بها الكم الهائل من المؤلفات والكتب التي تناولت شخصية عظيمة مثل شخصية سيد شباب أهل الجنَّة الإمام حسين عليه السلام المستشهد في كربلاء المقدسة يوم عاشوراء 61 للهجرة، إلهام بسط جناحيه على أناملي وأنا أتصفح الجزء الخامس من كتاب "معجم المصنفات الحسينية" فراحت الأنامل تحت وطأة بلسم الإلهام تضرب بالعشرة على أبواب حروف لوحة الحاسوب إيذاناً بقراءة موضوعية من هذا الجزء من أجزاء دائرة المعارف الحسينية للمحقق الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 462 صفحة من القطع الوزيري.
الدائرة وما حولها
معجم المصنفات الحسينية .. عنوان يدل على معناه فهو تبويب مشروح للمؤلفات التي كتبها أصحابها في شخص الإمام الحسين (ع) وما يتعلق بسيرته وليداً وصغيراً وشاباً وكهلاً وشهيداً، وما أعقب واقعة الطف حتى يومنا هذا وإلى ما شاء الله من الزمن حتى يأذن الله لإسرافيل باستخدام صوره والنفخ به إيذاناً بانتهاء الحياة الدنيا والبدء بالحياة الأخرى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) سورة الزمر: 68.
اعتمد المؤلف في الأجزاء الأربعة الماضية توثيق المؤلفات الحسينية وفق الحروف الأبجدية، فجاءت الأجزاء الأربعة التي ضمت 938 مؤلفاً كلها في حرف الألف ولم تتجاوزه إلى حرف الباء حيث ضم الجزء الأول المؤلفات: (1- 165)، والثاني: (166- 402هـ)، والثالث: (403- 643)، والرابع: (644- 938)، فيما جاءت أرقام الجزء الخامس: (939- 1058).
ولكن ما يميز الخامس عن بقية الأجزاء الأربعة، أمران:
الأول: كل المؤلفات الحسينية الواردة في الجزء الخامس خاصة بما صدر من أجزاء دائرة المعارف الحسينية حتى مطلع العام 2021م لمؤلفها المحقق الكرباسي، وما صدر من مؤلفات أخرى لمثقفين وأدباء وشعراء تتناول دائرة المعارف الحسينية ومؤلفها.
الثاني: تجاوز المؤلف نهجه القديم بتتبع المؤلفات وفق حروف الأبجدية لأننا كما رأينا فإن حرف الألف لوحده استنفذ أربع أجزاء من معجم المصنفات، وهو تغيير طرأ هو الآخر على معجم المقالات الحسينية، ومعجم المنشدين، وربما في المستقبل غيره من معاجم دائرة المعارف الحسينية، وبتعبير المؤلف وهو يقدم لهذا الجزء: (الإحاطة بعدد أكبر من المصنفات من جميع الحروف الهجائية دون الإنتظار إلى تكميل الحرف الواحد) لأن العمل بهذا المنهج سيطول قبل أن يصل قطار الطبع إلى محطات الحروف المتأخرة، ثم إنَّ عجلة التأليف فاعلة ومستمرة وكلما انتهى التبويب والمعجم من حرف صدرت مؤلفات حسينية أخرى من ذات الحرف وهكذا دواليك، ولتلافي هذا الأمر كان اختيار المنهج الجديد بحيث يضم كل جزء من المؤلفات كامل الحروف الهجائية، وهو ما عليه هذه الجزء بلحاظ تتبعه لمؤلفات الموسوعة الحسينية وما حولها حيث ضم 189 مؤلفا وليس 119 كما هو ظاهر الأرقام، لأن بعض الأرقام متكونة من أجزاء عدة من عنوان ذلك الكتاب مثل كتاب: الحسين والتشريع الإسلامي الذي صدر منه حتى مطلع العام 2021م ستة أجزاء أو معجم المقالات الحسينية الذي صدر منه 7 أجزاء، وسيظهر بوضوح في الجزء السادس من معجم المصنفات الذي سيتناول مؤلفات الآخرين بجميع الحروف الهجائية.
خلف سور البلد
إذا كان مؤلف دائرة المعارف الحسينية من مواليد العراق في مدينة الحسين (ع) كربلاء المقدسة سنة 1947م، فإن المؤلفات الأخرى التي أوردها الكتاب هي لمؤلفين بعضهم من داخل سور البلد وبعضهم من خارجه، وإذا كانت لغة المؤلف هي العربية، فبعضهم كتب بلغة بلده، وإذا كانت الموسوعة قد بدأ التأليف بها في لندن منذ سنة 1987م فإن من كتب عنها وورد ذكره في الجزء الخامس هو من هذا العصر والعهد، بيد أن بعضهم غادرنا إلى دار الأجداث تاركاً وراءه مؤلفاً ينتفع به في برزخه وعالم الحَيَوان.
فممن كتب عن دائرة المعارف الحسينية من داخل سور البلد المؤرخ والأديب الدكتور سلمان هادي طعمة المولود في كربلاء المقدسة سنة 1935م وكتابه: "الموال في دراسة معمَّقة" وهو إعداد وتقديم لـ "ديوان الموال" أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية للكرباسي.
وأول من ألَّف عن الدائرة من داخل سور مدينة كربلاء كاتب هذه القراءة (نضير الخزرجي) المولود في كربلاء المقدسة سنة 1961م وكتابه: "تعريف عام .. دائرة المعارف الحسينية" الصادر عام 1993م وترجم إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والأردوية والفارسية.
وممن كتب من خارج أسوار المدينة المقدسة الأديب العراقي علاء الزيدي المولود في قضاء الشطرة بمحافظة الناصرية (ذي قار) وكتابه: "معالم دائرة المعارف الحسينية" الصادر سنة 2000م وترجم إلى اللغة الفارسية والتركية والأردوية والإنكليزية.
ومن خارج أسوار القطر العراقي، الأديب الفلسطيني البروفيسور خالد السنداوي المولود في الجليل الأعلى سنة 1963م وكتابه: "التشريع الإسلامي في مناهله" الصادر سنة 2004م وهو إعداد وتقديم وتعليق على الجزء الأول من كتاب: "الحسين والتشريع الإسلامي" للكرباسي.
ومن الأردن الأديب محمود عبده فريحات وكتابه: "الأدلة القرآنية في الشعر الحسيني" الصادر سنة 2004م وبها تتبع المؤلف الآيات القرآنية التي وردت في دواوين الشعر الحسيني من الموسوعة في القرن الأول الهجري حتى نهاية القرن التاسع الهجري.
ومن خارج أسوار اللغة العربية، الأديب الشيخ ميرزا محمد جواد شبير المولود في مدينة حيدر آباد الهند، حيث ترجم إلى اللغة الأردوية فصولاً من كتاب: "العامل لسياسي لنهضة الحسين" أحد أجزاء الموسوعة الحسينية، وجاء عنوان الكتاب: "إنقلاب حسيني كى سياسي عوامل".
ومنهم الأديب هدايت كوشاجا المولود في استانبول حيث ترجم إلى اللغة التركية الإستامبولية كتاب الأستاذ الزيدي: "معالم دائرة المعارف الحسينية للكرباسي" وعنوانه: "إمام حسين انسكلوپيدپسي فهرستي".
ومن خارج أسوار الحياة الدنيا، الدكتور عبد الحسين مهدي عواد الظالمي، المولود في قضاء المناذرة بمحافظة النجف الأشرف بالعراق سنة 1944م والمتوفى في إسلام آباد بباكستان سنة 2022م وفيها مدفنه، وكتابه: "الظواهر التربوية في أشعار دائرة المعارف الحسينية" الصادر سنة 2007م تتبع فيها المؤلف الظواهر التربوية التي تضمنتها القصائد الحسينية التي أوردها الكرباسي في دواوين القرون الأولى.
وممن غادرنا إلى عالم القبر الأديب سعيد بن هادي الصفار المولود في مدينة كربلاء المقدسة بالعراق سنة 1931م وفيها مدفنه والمتوفى في ألمانيا سنة 2022م وكتابه: "الروضة الحسينية وإسهامات المبدعين الجليلة".
قطب ومدار
من الطبيعي عندما يتجول الواحد منا في مكتبة عامة، شخصية كانت أو عامة، تشده أنظاره إلى كتاب بعينه جذبه عنوانه أو مؤلفه، وينعقد لسانه بالدهشة وقسمات وجه بالتوثب عندما تغوص عيناه برفوف طويلة كثيرة عموديا وأفقيا وهي مزدحمة بمصنفات تتناول شخصية واحدة، وهذا ما عليه شخصية الإمام الحسين (ع) الذي كتبت فيه آلاف الكتب والمصنفات وبجميع لغات الأرض.
الأديب اللبناني الشاعر عبد الحسن دهيني وهو يقدم كلمة الناشر لهذا الجزء من معجم المصنفات الحسينية يلتفت إلى هذا الأمر ويرى أن استغراب الناظر وتساؤله سيذوب في ماء الحقيقة إذا نظر إلى ثلاثة أمور: أهمية موضوع الكتاب، ولأن الموضع موضع اهتمام الطلاب والدارسين والقرّاء والكتاب والباحثين معاً، ولأن الشخصية المكتوب عنها تميّزت بدور كبير في مجال العلم أو الجهاد، أو لأنها تركت آثاراً جمّة استفادت منها البشرية في مجال العلم أو الجهاد والتضحية في سبيل الدين أو الوطن.
هذه الرؤية الصائبة يؤكدها القس النيوزيلندي بروس آر كيلي (Reverend Bruce R Keeley)
وهو يقدم لهذا الكتاب باللغة الإنكليزية متحدثاً عن جوهر الأديان السماوية الداعية إلى قيم الصدق والعدالة والحرية ومواجهة الظلم، وهي قيم مشتركة ينشدها بنو البشر.
وأضاف الرئيس المشارك والمؤسس لـ "مجلس نيوزيلندا للمسيحيين والمسلمين" في مدينة أوكلاند (Auckland): إن الإمام الحسين يمثل في كل العصور نصيراً شجاعاً لقيم الخير، وهو معروف لكل من قرأ سيرته، مؤكداً أن الإمام الحسين رفض الظلم والكراهية والباطل فمات وأهل بيته مضحياً دون هذه القيم.
ووجد القس كيلي وجه شبه بين تضحية الإمام الحسين (ع) والنبي عيسى عليه السلام الذي رفض الظلم ونادى بالعدالة فتحمل الشتائم والإتهامات الباطلة وضحى براحته وأمنه من أجل المجتمع.
وفي الوقت الذي أبدى القس كيلي دهشته للإنتاج الغزير الذي عليه المحقق الكرباسي في موسوعته المعرفية التي بلغ المطبوع منها 121 مجلداً في نحو ألف مجلد بين مطبوع ومخطوط، وجد في مشروع الموسوعة الحسينية وطموح المؤلف وهمته مصدر الهام مستمر لعدد لا يحصى من العلماء والأدباء والمثقفين وهم يخطون القلم ويؤلفون المصنفات.
وهي حقيقة لا غبار فيها، لإنَّ الإمام الحسين (ع) هو قطب رحى التضحيات ومدار الخير الذي يحاول الضد النوعي طمسه رسالته الإصلاحية التحررية!