

وُلِدتُ فِي النّار.. لكنّي لا أَحتَرِق
استفاق جهاد على صوت الريح، تلامس زجاج نافذته المهشّمة، لم يكن ثمة ما ينذر بالصباح، سوى خيط الضوء الذي تسلل خجولا بين شقوق الجدران، وحفيف أقدام أمه وهي توقدُ النّار تحت إبريق الشاي.
كان في العاشر من عمره، لكنه بدا كهلا من فرط ما عاش. لم يعرف لعبة اسمها "الأرجوحة" ولا ساحة اسمها الحديقة، كان ملعبه تراب الزقاق، وألعابه لم تكن سوى حجر، وأقرب أصدقائه... ظلّه.
دخلت أمه، وابتسامة تعب ترتسم على وجهها قالت له:" قم يا بني، اليوم خميس، ربما يُفتح الحاجز ويُسمح لك بالذهاب للمدرسة". هزّ رأسه، لم يقل شيئا، صمت طويل يسكنه. كانت الكلمات كثيرة في صدره، لكنه تعلم أن ينطق بعينيه.
أخذ جهاد حقيبته المدرسية وخرج. في الزقاق، مرّ على جدار كُتبت عليه عبارة:" نحن باقون كشجرة الزيتون". مدّ يده ولمس الكلمات كمن يلمس قلبا يعرفه.
في الطريق الى المدرسة، كان الجنود واقفين على طرف الحيّ، يراقبون، يصرخون، يّلوّحون. ومع ذلك مضى جهاد، بخطى واثقة، لا تزعزعها فوهات البنادق. كان يعرف أن الخوف لا يرهبُ من وُلد تحت القصف. لم يصل الى المدرسة في ذلك اليوم، لكنها لم تكن المرة الأولى، ما وصله هو درس جديد:" أن الوصول الى العلم في وطنه يمر عير دروب الخوف والتفتيش، وأن الحروف لا تنتزع من الكتب بل من أفواه البنادق والحواجز".
إنه الواقع القاسي الذي يعيشه الأطفال في فلسطين، حيث الذهاب الى المدرسة ليس طريقا آمنا كما هو في باقي البلدان، بل هو طريق محفوف بالخطر والمذلة أحيانا، بسبب وجود الجنود، والحواجز، والتفتيش، والاعتقالات، وحتى اطلاق النار أحيانا.
وقف جهاد عند الزاوية واختبأ خلف برميل حديدي، ومع أول زخة غاز، جفا أرضا، ثم زحف كمن تمرن ألف مرة. حين عاد الى البيت لم يتكلم. فقد خلع حذاءه الممزق، ووضع الحجر الذي كان يحمله في جيب قميصه بزاوية الغرفة ، ونام... وعيناه لا تزالان مفتوحتين. تتكرر هذه الصباحات الرمادية المعبأة بغبار ودخان البنادق، حتى اعتاد جهاد على هذا الوضع المزري.
ها هي أمه توقظه كعادتها وتهمس في أذنه:" انهض يا بني، ففي العلم نجاة من هذا الخراب، فأنت أمل لوطن تليق به الحياة.
في طريقه الى المدرسة.. سار حافيا ومتلفتا دائما. ليس لأن الطريق وعر، بل لأن الحواجز كثيرة، والخوف مسيطر على القلوب والعقول. كان الطريق الى فصله يمر بين الجدران المتهدمة، وبين جنود لا يجيدون غير لغة التصويب.
في قلب الصف، جلس جهاد وكله خوف وارتباك، لكن ما أن أمسك بالقلم حتى عاد إليه يقينه. قال في قرارة نفسه:" سأرسم الوطن في دفتر الرياضيات، وأكتب الحرية في حصة التعبير،وسأظل أَعُدُّ شهداء حينا في دروس الحساب".
وفي الاستراحة، جلس جهاد رفقة أصدقائه:" نضال الصبي الذي يحلم أن يصبح طبيبا يعالج جراح غزة بلا مقابل. فدوى التي تخبّئ تحت ثيابها كتاب شعر ومجموعة من قصاصات رسائل أبيها الأسير. وفادي، الذي يصنع الطائرات الورقية من أوراقٍ قديمةٍ ويرسلها في السماء، كأنها رسائل حنين لا تعرف حدودا. قال جهاد وهو ينظر إلى جدار كتب عليه أبطال المقاومة عبارة ملفتة:" هم يملكون البنادق ونحن نملك الحق... والحق لا يهزم". أضاف فادي قائلا:" حتى الطائرات الورقية تطير فوقهم عاليا، فوق رصاصهم وحقدهم... الحرية أعلى وأكبر من سلاحهم".
في المساء، عاد جهاد ليجد الحي مظلما والكهرباء قُطعت مجددا لكن أمه أخرجت شمعة من بين كتب قديمة وقالت له:" كن شعلة، فنحن أبناء النور الذي لا يسرق ولا ينطفئ".
مرّ على جهاد ليل ثقيل، عمّه السكون، إنه الهدوء الذي يسبق الانفجار، كان جهاد يذاكر على ضوء الشمعة، تجاوره أمه تدفئ يديها على فنجان شاي بارد، حين دوّى الانفجار الأول، ثم الثاني، فارتجّ البيت رجا.
ركضت الأم نحو النافذة، ومن بين شقوق الجدار، كانت ألسنة النار تبتلع البيوت واحدًا تلو الآخر. ارتج قلبها:"يا الله... بيت نضال!"
خرج جهاد قبل أن تمنعه، ركض يتغلب الخوف مع كل خطوة، وتسبق دموعه وجهه. رأى الناس يركضون، الصراخ يملأ الأزقّة، والغبار حجب حتى السماء. لم يرَ نضال، ولا فدوى، فقط رأى حقيبة مدرسية محروقة، وطائرة ورقية عالقة على عمود مكسور.
عاد جهاد مع الفجر، يغطيه الرماد، ويختلط التراب بدموعه. سألته أمّه وقد خنقها الحزن: "رأيتهم؟"
هزّ رأسه، وقال بصوتٍ منكسر مرتعش: "رأيت الوطن وهو يُحرق يا أمي، لكن الحلم ما زال حيًا في قلبي."
مرّت أيام، وكان الصمت ثقيلاً في المدرسة. نصف الكراسي فارغة، واللوحة السوداء حزينة. لكن جهاد أصرّ أن يذهب كل صباح، أن يفتح النوافذ، ويكتب على اللوح :" نحن هنا.. لن نغيب."
في ذكرى القصف، أقاموا معرضًا صغيرًا للذكريات. علّقوا صورة فدوى بابتسامتها، وعلّق نبيل طائرته الأخيرة وقد كتب عليها: "لا تنسوا، أن الأجنحة لا تحترق." وقف جهاد وألقى كلمته، لا كخطيب، بل كابنٍ يُحدّث أمته: "نحن لا نبحث عن حرب، بل نزرع في كل زاوية من الألم زهرة. لم يمت نضال، ولا غابت فدوى، هم صاروا فينا.. كلّما كتبنا، زرعنا، ضحكنا، أحببنا، هم معنا."
وصمت، ثم أضاف: "ربما لا نملك كل شيء، لكننا نملك ما لا يُؤخذ بالسلاح: الكرامة، والحب، والإيمان."
وانتهت كلماته على تصفيق دافئ، لم يكن صاخبًا، بل شبيهًا بقلوب تنبض بصمت.. وفي المساء، كتب في مذكرته:" في فلسطين، لا نموت حين تُقصف بيوتنا... نموت فقط إن نسينا من كنا."
وذات يوم من الأيام الثقيلة التي يحياها أهل غزة وفي زقاق ضيّق، كان جهاد يسيرُ بخطًى واثقةٍ، يحمل في يده الصغيرة دفترًا ممزّق الحواف، كتَبَ عليه بقلمٍ أزرق: "سنكتب حريتنا". لم يكن ما يحمله بين دفّتيه سوى دروسٍ مبتورة من المدرسة التي قُصفت، وخواطرَ كتبها في العتمة، ورسومات لأعلامٍ ترتفع من بين الدمار.
كان كل ما يملكه، وكل ما يريد الاحتفاظ به.
قابلته "ندى"، صديقته التي كانت تحمل شالًا مطرّزًا بخيطٍ أحمر، هدية من أمّها قبل أن تُعتقل. كانت عيناها تتّقدان بالحزن، لكن في أعماقها جذوة لا تنطفئ.
قالت له:" جهاد، هل نرسم اليوم؟" ردّ مبتسمًا: "بل نرسم الغد، لا اليوم." جلسا على حجارة البيت المهدم، وأخذا يرسمان بالطبشور على الجدران: وجه أمّ، ضوء قمر، مفاتيحَ صدئة، ومئذنةً تلوح من بعيد، وأحلامًا لا يعرفها إلا الأطفال.
مرّ جندي، رمق الرسومات بازدراء، ثم داس بقدمه على أحدها. تراجع جهاد، لكن ندى أمسكت بيده وقالت بهمس: "دعنا نعيد رسمه من جديد، لكن أكبر… وعلى حجر لا يُكسر!"
في تلك اللحظة، لم يكن الطفلان يرسمان فحسب، بل كانا يقاومان بريشةٍ أضعف من الرصاص، لكن أثرها أبقى.
في إحدى الليالي، اقتحم الجنود الحيّ، كانوا يبحثون عن فتًى يُقال إنه وزّع منشورات تحثّ على التمسك بالأرض. كان جهاد. أخذه الجنود من بين يدي أمّه، التي حاولت التمسك به كمن يتمسك بعمره كلّه. صرخت:" هذا طفل! لم يحمل سلاحًا… لم يقتل أحدًا!" لكن السلاح لم يكن شرطًا، يكفي أن يكون صوته عاليًا.
سُجن جهاد، وداخل الزنزانة تعلم أن الجدران تحفظ الحكايات أكثر من الرفوف. علّم نفسه كتابة القصائد على جدران المعتقل بحافة الملعقة، وغنّى للوطن بصوتٍ خافت، حتى بات صدى صوته يوقظ الأسرى النائمين في قلوبهم.
ها هي الأيام والشهور والسنين تمر وبعد عامين بالضبط أطلق سراحه، خرج نحيل الجسد، لكنه أقوى من ذي قبل. سأله مراسل ذات يوم:" هل كنت خائفًا؟" أجاب بهدوء: "كنت طفلًا… نعم خفت، لكن الخوف لم يمنعني من أن أكون حرًا."
عاد جهاد إلى حيّه. وجد ندى قد صارت فتاةً تكتب المقالات في صحيفة المدرسة. أنشأ معًا نادٍ اسمه "غدُنا لنا"، يعلّمون فيه الأطفال كيف يُحكون الحكاية، لا كيف تُحكى لهم. كانوا يرسمون، يغنّون، ويزرعون شتلات الزيتون في الأماكن التي قُطعت منها الجذور. كل شجرةٍ يزرعونها كانت تقول بصمت: "نحن هنا… رغم كلّ شيء."
كبر جهاد، وصار معلمًا. لم يغادر الوطن رغم العروض الكثيرة. كان يردّد دومًا:" لا أريد أن أروي حكاية من بعيد… بل أن أعيشها، وأكتبها من قلب النار."
وكان إذا سُئل: "ما معنى المقاومة؟" أجاب ببساطة:" أن تستيقظ كل صباح، وتحبّ وطنك أكثر، رغم كل ما يفعله بك". وفي آخر دفاتر طلابه، كتب بخطّه:" ربما لا ننتصر غدًا، وربما نموت دون أن نرى شمس الحرية، لكننا حتمًا نكون أوفياء للضوء، وكلّ من يصادق النور… لا يخسر أبدًا."