السبت ٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

أفكار بالحبر الجاف

عبد الامير الخطيب

صدر في عاصمة القلق السياسي بيروت مؤخرا كتاب /كاتالوك عن أعمال الفنان اللبناني الراحل كمال عبدالصمد الذي توفي العام الماضي، والكتالوك يحتوى على مئة وعشرين عمل تخطيطي قام بتنفيذها الفنان خلال رحلته الفنية الحافلة بالعطاء والمثابرة، والمثير أن هذه التخطيطات نفذت بقلم الحبر الجاف، أقول مثير لأن الحبر الجاف أداة خطيرة للتخطيط لدى الفنان، فاي خطء بسيط يقود الفنان إلى تمزيق العمل الفني وإعادة تخطيطة من جديد.

المعروف عن كمال رحمه الله أنه كان فنان امسرحيا جادا عمل إلى جانب كبار المسرحيين في لبنان وكان من أشهر عشاق المسرح حيث نذر جل عمره للمسرح على الرغم من أنه فنان متعدد المواهب، وهذا الكتالوك الذي استعرضه الآن خير شاهد على مواهبه المتعددة.

مئة وعشرين عمل تخطيطي كانت معظم مساحاتها وجوه لنساء أو بعبارة آخرى احتلت المرأة أكثر من ثلاثة أرباع المساحات التي رسمها الفنان، لا أدري لماذا ولكن الفنان كان كمن يصر على القول: أن عملى للمرأة أو أن المرأة هي عملي وشغلي ولاشئ سوى المرأة، ما كان يشغل الفنان، وكذلك كان الفنان حريص على الموضوعة اللبنانية الشعبية، فبقي من بين أكثر الفنانين من أهتم بأرشفة الفلكلور اللبناني وأذكى الفنانين في استخدام المفردة الفلكلورية فاستخدامة المتكرر للطاقية "غطاء الرأس" التي تضعها المرأة كان ذكيا لأنه سمة مفردة، فلكلورية لبنانية تفرز التراث اللبناني عن غيره.

وهكذا يعالج الفنان كمال أعماله بالطريقة اللبنانية، فالجوالعام للعمل فيه الكثير من الحضارة اللبنانية القديمة فينيقيا، فلبنان كما يريد بعض اللبنانيون أن يعتبروه بلدا فينيقيا، ولا أجزم أنقلت كمال هو واحد من دعات هذه الفكرة، ولكن بلغة البصرية التي تناول بها تخطيطاته موضوع بحثنا.

ليس عبثا أن نرى الخلط السريالي في معالجة الفنان لمواضيعه، فهو يدرك إلى حد ما أن الحرب اللبنانية وتركات الحرب الطويلة التي "تحارب الغرباء فيها على أرض لبنان" لا يمكن معالجتها بالشكل الواقعي، فالتخطيطات واقعية والشخوص/ الفغرات التي نفذها الفنان بالأسلوب الواقعي أيضا دلالة واضحة على ذلك الخلط، رسم الوجه فيه دقة تقليدية وكذلك باقي الوحدات المكونة للوحة، رسمت باتقان قريب إلى الكلاسيكي، لكن بناء اللوحة العام جاء بشكل مقصود ومدروس تماما فوضع وحدات اللوحة بشكلها الهلامي أو اللاشعوري كان عملية شعورية مقصودة لدى الفنان، وهنا استطيع أن اقول أن وضع وجه المرأة مثلا أو وضع وردة بجانبها أو حتى شباك تحت الوردة هي عملية مقصودة أراد بها الفنان أن يكون شاهدا على عصر الانهيار والحروب المجانية التي دمرت لبنان .

تتراوح التخطيطات التي نفذها الفنان كمال بين عامي 1981 وعام وفاته 2006 ودرجت لنا حكايات وقصص عصي على غير الفنان أن يحلها وأن يستلهم منها، وقد لاحظت تطورا هائلا في مسار تطوّر الفكرة لدى الفنان أو الذي سيّر الفنان، لكن الذي يشد الانتباه هوان الأسلوب، الخط العاملم يتغير خلال الخمسة والعشرين سنة التي نفذ بهاالفنان تخطيطاته وكذلك الانشاء فلم يتغير الانشاء الإ ما ندر والحق، حتى هذا الذي ندر لم يكن تغيرا جذريا راديكاليا أبدا إنما كان محاولات للخروجعن المألوف والتذمر عند الفنان الذي يمكن أن نقول بأنه سأم تناول أسلوبه كل يوم.

السؤال الأهم في كل تخطيطاته يبقى هو كيف يبدأ الفنان رسم موضوعاته وكيف ينتهي، فالبداية غير واضحة ابدا، فربما يبدأ بخط أو خربشة بسيطة على الورقة، أو ربما يبدأ كمن يلهو أو يعبث في وقته على الورقة، ثم يستريح، يتوقف ويتأمل، يشاهد أشياء كثيرة وكثيرة في الذي عبث به فتاخذة الغواية ليستعير من فنطازيته حريتها ويحلق في فضاء أرحب ومسافات أوسع ليقول لنا: ها أنا أكمل لكم هذا الذي بدأته وأنا لا أعرف عنه شئ.

هذا في الحقيقة ليس عيبا أو أية مؤاخذة فكل الفنانين يبدأون هكذا عدا النزر القليل منهم من يعرف تمام ما الذي ينوي عمله، وأني إذ أرى في أعمال الفنان كمال عبد الصمد التخطيطية هذا البعد، فأنه إعتراف مني بأن هذه الأعمال عبرت بصدق مرهف عن مرحلة الحرب كما اسلفت وكما اسلفت أيضا فأن الفنان كان أحد أصدق المؤرخين لعصر الحرب اللبنانية، وما معالجته السريالية لموضوعاته الواقعية الإ هو دليل على ما أقول، ولكن لماذا يترك الفنان بعض تخطيطاته دون أن يكملها، ربما هذا جزء من اللعبة الفنية أيضا، ويبقى أن الفضاءات التي يتركهاالفنان عن قصد أعني تلك الفضاءات/ المساحات التي يتركها حرة هائمة في وادي التفكير دون إجابة واضحة للمتلقي فالفضاء أعني المساحة المتروكة عن قصد تنم عن محاولة جادة لبناء شخصية فنية مستقلة أو ربما أسلوب كان يسعى الفنان جاهدا أن يثبته للآخرين.

كمال عبد الصمد شانه شان أي فنان عربي آخر في تاثيره بما اصطلح عليه "بالواقعية الإشتراكية" زمن الرئيس السوفيتى ستالين، فرسم إلينا المفردات الثورية المرتفعة الشامخة وكتب لنا وهذا ما كان في بدية ثمانينات القرن الماضي، كتب لنا صورا كثيرا عن قوة السلاح وايديلوجيات الثورة والحس الثوري، كذلك يتضح التاثير في رسم الجسد الإنساني في تلك المرحلة بالعضلات القوية المفتولة، والتي كانت واضحة عالميا في رسومات " الإشتراكية" الواقعية الإشتراكية والتي انتشرت في كل من العراق وسوريا واليمن في عالمنا العربي، وباقي البلدان التي حلمت بالإشتراكية، فالشخوص في تخطيطاته تدعوا إلى الثورة وتحرض على عدم السكوت فالخوط مستوية مستقيمة حادة، لكنها تتواضع ببساطةالفنان لتنحني وتكون بانحنائاتها رحمة للمتلقي الذي يبقى في استفهام مستمر لماذا وضع الفنان متناقضين في تخطيط واحد.

الفنان الراحل كمال عبد الصمد هو فنان مسرحي درس المسرح في لبنان وكذلك أكمل الدكتوراة في المسرح والسينما من جامعة السوربون، وعمل استاذا لمادتي الإلقاء والأدب المسرحي في الجامعة اللبنانية، كان حريص على ممارسة الرسم وكان يمارس التخطيط ليحتفظ به ليس الإ، على الرغم من أنه شارك بشكل رسمي بأربعة معارض رسم في لبنان، لكن حبه الظاهر والخفي كان مترجما في تخطيطاته التي جمعها له أخية نجاد عبد الصمد وطبعها في كتاب جميل وأنيق يليق برحلة الفنان الراحل في التصميم والتوزيع والطباعة والاخراج.

عبد الامير الخطيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى