السبت ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧

التجسس التكنولوجى.. وسرقة الأسرار

الكتاب: التجسس التكنولوجي (سرقة الأسرار الاقتصادية والتقنية) دراسة في المجتمع ما بعد الصناعي
المؤلف: ممدوح الشيخ
الناشر: مكتبة بيروت (سلطنة عمان)
الحجم: 220 صفحة من القطع الكبير
تاريخ الصدور: 2007

الجاسوسية ظاهرة قديمة قدم التاريخ الإنساني، عرفها الإنسان في صراعاته المتعددة [دينية – قومية – اقتصادية] وتطورت الجاسوسية في كل مجتمع بشرى بقدر يناسب ما لديه من وسائل لجمع المعلومات ونقلها وتحليلها، وتكاد الحقب المنصرمة من القرن العشرين تكون أحفل الحقب في التاريخ الإنساني بهذا النشاط الحيوي المثير، المحوط في وعى الناس بكثير من الغموض والإبداع والتفرد، وقد كان المناخ السياسي العالمي الذي دأب على الانتقال من توتر إلى توتر سبباً من أسباب تضخم الظاهرة، وبالتالي تضخم الأجهزة التي تقوم بها، وازدياد نفوذها.

فخلال هذه العقود التسعة اشتعلت حربان ضاريتان اكتوى العالم كله تقريباً بنيرانهما ولم تتوقف الحروب الإقليمية، ومع تتابع ما يسمى "الحرب الباردة"بين المعسكرين الشرقي والغربي، وهى الحرب التي انتهت بسقوط ما كان يسمى "الاتحاد السوفيتي"ظهرت جاسوسية جديدة - أو ازدادت أهميتها - هي الجاسوسية الاقتصادية والتقنية، هي لا تقل شراسة ولا أهمية عن الجاسوسية العسكرية والسياسية.

وثمة عوامل عديدة تزيد أهمية هذا النشاط التجسسي في مقدمتها ما يشهده العالم من تقدم تقني هائل أصبح العنصر الحاسم في الصراعات، وهو التقدم الذي وفر وسائل لجمع المعلومات وتحليلها أكثر دقة واصغر حجماً وأوسع مدى....... إلى غير ذلك من الصفات التي جعلت هذه الظاهرة تدخل عهداً جديداً في تاريخها الذي يمتد مع امتداد التاريخ الإنساني تقريباً. وفي القرن الحادي والعشرين يدخل العالم عصراً جديداً تسوده مفاهيم تختلف عن المفاهيم التي ارتبطت بالدولة القومية، وتشمل المفاهيم التي طالها التغير مفهوم القوة كطريق لتحقيق الأمن ويأتي ضمن هذا التغير صعود قيمة الاقتصاد بين عوامل القوة لينافس على الموقع الأول، بعد أن اعتمدت القوة فيما مضى على القوة البشرية ثم القوة العسكرية، ولما كانت الجاسوسية توأم الصراع فإنها بتطور أشكاله تتطور.

وقد ارتبط الاقتصاد بالحرب من قديم الزمان، وتعد حركة التوسع العسكري التي قام الغرب خلالها باقتسام العالم بين دوله أوضح علامات هذا الارتباط، إذ كانت المناطق المحتلة تقوم بدور مزدوج لخدمة الاقتصاد الأوروبي، إذ تخرج منها المواد الخام بأسعار رخيصة واليها تعود المنتجات المصنعة من الغرب بأسعار مرتفعة، فهي منجم وسوق في آن واحد. ومع ازدياد أهمية التقنية على حساب المواد الخام أصبح التجسس يستهدف الحصول على أسرار الآخرين في هذا المجال، وأصبح الاختراق الأخطر هو ما يستهدف معامل البحث والتطوير العلمي والمصانع بعد أن تخلت قصور الحكم والمواقع العسكرية عن هذا الموقع المتقدم.

الفصل الأول من الكتاب عنوانه "الجاسوسية الاقتصادية والتقنية بين قرنين"ويؤرخ للحقبة التي تبلورت فيها الظاهرة التي ترجع إلى ما قبل التاريخ المكتوب حيث مارسها وأشرف عليها ملوك الفراعنة وكهنة المعابد والصياغ والتجار، وقد شهد القرن السادس عشر أول عمليات التجسس الاقتصادي المنظم، وقد مارستها عائلة فاجرز التي كانت تعيش في أوجسبيرج وكانت تقرض الملوك والدول الفقيرة، وقد امتلكت هذه الأسرة جهاز مخابرات مكون من مجموعة من العملاء زرعتهم في القصور الملكية وكانت تصل منهم المعلومات التي مكنت هذه العائلة من بناء إمبراطورية مالية واستثمارية ضخمة في أوربا كلها. ومع الثورة الصناعية ولدت الجاسوسية التقنية، ففي عام 1783 أقام رجل الأعمال الألماني جوهان جونفريد بروكلمن أول منشآت الثورة الصناعية في القارة الأوربية، وكانت الثورة الصناعية قد بقيت وفقاً على بريطانيا إلى أن قام هذا الرجل بإنشاء مصنع لحلج القطن سرق فكرته من مصنع غزل في بريطانيا، وتعد هذه أول عمليات التجسس التقني المعروفة. وإذا أخذنا في الاعتبار عامل الزمن فإنها تعد بغير شك عملية مثيرة.

وتعد عمليات الجاسوسية الاقتصادية التي شهدتها الحرب العالمية الثانية درساً قيماً في هذا المجال، فقد بعث جاسوس ألماني عمل في اليابان لحساب الاتحاد السوفيتي يدعي ريتشارد سيرج رسالة قصيرة تضمنت معلومات عن بعض أوجه النشاط الاقتصادي غيرت مسار الحرب بل كان لها أثر حاسم في هزيمة ألمانيا. تقول رسالة سيرج "إن مصانع الملابس تنتج ملابس صيفية خفيفة ومصانع الثلج في اليابان تعمل بكامل طاقتها وتتوسع في إنتاج الثلج"ومن هذه الكلمات تأكد السوفيت أن اليابان لن تهاجم حدودهم كما كان معتقداً من قبل، وأن العمليات العسكرية اليابانية سوف تتجه إلى جنوب آسيا حيث الجو شديد الحرارة والرطوبة، وبهذه المعلومة المستنتجة استطاع السوفيت أن يوحدوا جيشهم علي الجبهة الألمانية ليسجلوا انتصاراً حاسماً على الجيش النازي الذي كان يعتمد على انقسام الجيش السوفيتي على جبهتين: في الشرق لمواجهة اليابان وفى الغرب لمواجهته.

وشهدت الحرب العالمية الثانية اهتماماً بطرق للحصول على المعلومات تعد من وسائل التجسس الصناعي، إذ قامت أجهزة مخابرات الحلفاء بتحليل العلامات والأرقام المسلسلة على المعدات الصناعية التي استولت عليها قواتهم، وبدراسة الأرقام المسلسلة والعلامات الأخرى على حوالي 13 ألفاً من الإطارات الألمانية استطاع ضباط المخابرات الاقتصادية في الولايات الأمريكية أن يحسبوا عدد الإطارات التي ينتجها الألمان شهرياً. فمن خلال دراسة الأرقام المصبوبة على الإطارات أمكن معرفة عدد القوالب المستخدمة في الإنتاج وبدراسة العلامات التي تبين النسبة المئوية للمطاط المستعمل عرفوا معدلات استهلاك مخزون المطاط الخام لدى الألمان، وبحساب إنتاج إطارات الطائرات تمت مراجعة تقديرات إنتاج الطائرات. وقد كشفت هذه العمليات في مجال الدبابات أن الأرقام المسجلة عليها تعنى أن إنتاج ألمانيا من الدبابات يزيد كثيراً عن تقديرات الحلفاء لها، إذ تبين أنها أنتجت 8 1ألفاً عام 1942 وليس 3400 كما كان يعتقد، وكانت العلامات على صندوق التروس والمدفع وأجهزة التبريد ومحركات إدارة الأبراج معلومات إضافية، كما خضعت منتجات ألمانية أخرى عديدة لهذه العملية منها: السيارات والمدافع والذخيرة والقنابل الطائرات والصواريخ، وقد أكدت المقارنة بالمعلومات التي أمكن الحصول عليها بعد الحرب ضرورة الاعتماد على التقديرات المستخلصة من تحليل العلامات. وقد أفاقت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1945 على فضيحة خطيرة اتهم فيها بعض المسئولين بتبديد 20 مليون دولار في مشروع فاشل لبناء طائرة ضخمة. وكان المشروع الذي أسند إلى رجل صناعة أمريكي فاستمر أربعة أعوام وانتهى إلى الفشل موضوع تحقيق تبين منه عدداً من كبار المسئولين في سلاح الطيران رفضوا مشروع الطائرة لأنه غير عملي فتخطاهم المسئولون الحكوميون اتجهوا مباشرة للرئيس روزفلت وراجت شائعة مفادها أن النساء وحفلات الترفيه والخمر كان لها دور كبير في الحصول على الموافقة. ولأسباب عديدة أصبحت القضية موضع اهتمام أجهزة الأعلام الأمريكية، وبدأ حجم الظاهرة يتضح فإذا هي ظاهرة ضخمة تضرب بجذورها في معظم مجالات الاقتصاد الأمريكي، وقد بلغت قوتها حد أن أحد الناشرين قرر أن يقوم بفضح انتشار تجارة الجنس في الشركات الأمريكية الكبيرة خلال عمليات البيع والتجسس الصناعي فلقي مقاومة شديدة ليس فقط من ممولي الإعلانات الأغنياء بل من زملائه في ميدان النشر.

ورغم أن الضجة ثارت بسبب استخدام الجنس بشكل واسع في الاقتصاد الأمريكي لزيادة المبيعات أو التأثير في قرارات بعض المسئولين، إلا أن التجسس الاقتصادي والتقني احتلا موقع الصدارة وأصبحا أخطر ما يخشاه الأمريكيون على اقتصادهم. وتحفل سجلات التجسس الاقتصادي والصناعي بعمليات تجسس كثيرة شهدتها الولايات المتحدة خلال تلك الفترة، ففي مدينة لوس انجلوس التي توصف بأنها حافلة بأنشطة التجسس الصناعي أرسلت شركة صناعات إليكترونية أحد أمهر عمالها الموثوق بهم ليعمل في شركة منافسة مستهدفاً سرقة أحد الأجزاء المعقدة التي أنتجتها الشركة المنافسة بعد أبحاث كلفتها مبالغ طائلة، وعندما حصلت الشركة على الجزء المسروق نسخت منه نسخاً مطابقة بتكاليف تقل عن تكاليف إنتاجه في الشركة التي اخترعته.

وقد خسر أحد المديرين قضية اعتداء قانوني خطيرة على حق الاختراع فلخص كارثة التجسس بقوله: "لقد أثبتت المحاكم أنها لا تستطيع مساعدتنا ولهذا السبب نعتمد أكثر وأكثر على الأسرار التجارية لنحمى أنفسنا.... إن أعمالنا معرضة للخطر وظهورنا للحائط". ولقد أنفقت الشركة التي يديرها مليوني دولار على أبحاث التطوير وجاءت شركة منافسة وسرقت نتائج الأبحاث دون أن يكلفها ذلك سوى 52.500 دولار وزعت بين الرشاوى و...... وبادرت الشركة التي سرقت الاختراع بتنفيذ المشروع فأضاعت على شركته 5 ملايين دولار سنوياً لمدة 17 عاماً، وهو العائد الذي كان متوقعاً للمشروع وقد أقامت الشركة الضحية نظاماً لحماية السرية لا مثيل له يقوم في جزء كبير منه على التجسس المضاد.

والتجسس التكنولوجي وبخاصة الموجه إلى المنتجات العسكرية والمصنوعات حقيقة من حقائق السياسية الدولية لقرون مضت من القوس والسهم إلى الصواريخ، الوحدة العسكرية جيدة التجهيز هي التي تكسب المعركة، وقد انتبهت الولايات المتحدة الأمريكية مبكراً إلى ضرورة الحفاظ على الأسرار التقنية الغربية من التسرب للاتحاد السوفيتي وحلفائه فأنشأت بعد الحرب العالمية الثانية منظمة (كوكوم). وهى لجنة سرية عن طريقها كانت تتم مراقبة التجارة مع الكتلة الشرقية وتتكون اللجنة من خمسة عشر عضواً من حلف شمال الأطلنطي (ناتو) بالإضافة لليابان وكانت إدارتها في مقر السفارة الأمريكية في باريس، وفى اجتماعاها كان الخبراء الذين يجتمعون بانتظام يحددون المنتجات التي يجب أن يشملها الحظر وتخضع للرقابة على الصادرات، وكانت اللجنة تنظر كل عام طلبات استثناء منتجات وفى معظم الحالات كانت هذه الطلبات تجاب، فرغم الإجراءات المعقدة التي تهدف نظرياً للتأكد من أن المنتجات الحساسة لا تصل للمكان الخطأ على الجانب الآخر من الستار الحديدي فإن الخبراء الغربيين يسلمون بأن النظام ليس آمناً تماماً بسبب عجزه عن الإلزام.

وقد شهدت إجراءات الرقابة على تسرب التقنية الغربية للكتلة الشرقية زيادة كبيرة في الثمانينات وتعد "حادثة توشيبا"علامة فارقة في تاريخ هذه الظاهرة. ففي مارس 1987 اكتشف أن شركة توشيبا اليابانية عقدت بالتعاون مع شركة نرويجية كبيرة صفقة قيمتها 18 مليون جنيه استرلينى باعت بمقتضاها معدات إلكترونية للاتحاد السوفيتي يصفها مراقب ياباني بأنها روبوت دنياصوري بارتفاع 30 قدماً واتساع 60 قدماً. وبفضل هذه المعدات أصبح الاتحاد السوفيتي قادراً على بناء غواصات أقل ضوضاء تستطيع الهرب من أجهزة الرصد البحرية والنتيجة أن الغرب سيتكلف 30 مليار دولار لإنتاج أجهزة لرصد الغواصات أكثر فاعلية. ولم تكن هذه الحادثة الإنذار الوحيد ففي وقت ما من الثمانينات علمت الولايات المتحدة من خلال عميل لها في الاتحاد السوفيتي هو الجنرال ديمترى بولياكوف الذي عمل لحساب المخابرات الأمريكية (961 إلى 1988) أن السوفيت لديهم 5000 برنامج منفصل لسرقة التقنية الغربية لرفع مستوى معداتهم العسكرية، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي ريجان إلى فرض مزيد من القيود على صادرات التقنية العسكرية الأمريكية. وفجأة أصبحت قصص التجسس على التقنية المتقدمة تمثل العناوين بشكل يومي لأن القصص بدأت تتكشف قصة وراء أخرى موضحة الجهود التي يبذلها الاتحاد السوفيتي لفتح ثغرة للوصول للتقنية الغربية المتقدمة وبخاصة الأمريكية وقد حثت البعثات رفيعة المستوى التي أرسلتها إدارة ريجان إلى حلفاء الولايات المتحدة بطريقة ودية على أن يكونوا أكثر يقظة وعلى تدقيق الضوابط على صادرات المواد الحساسة.

وفي نهاية الفصل الأول يطرح المؤلف تساؤلا عما إذا الهندسة العكسية مشروعة أم ممنوعة؟

الفصل الثاني عنوانه: "القوى الكبرى من التحالف للصراع"ويتناول ما شهدته تسعينات القرن العشرين من التحذيرات والتصريحات والدراسات من كل عواصم الدول الصناعية تقريباً تتحدث عن الجاسوسية الاقتصادية والتقنية محذرة من خطرها ومعلنة بداية عصرها الذهبي، وحسب تقرير منتصف 1993 فإن أكثر دول العالم ممارسة للتجسس الاقتصادي في العالم هي:

1- الولايات المتحدة الأمريكية التي نقلت اهتمامها بعد نهاية الحرب البارة إلى التجسس الاقتصادي.

2- فرنسا التي أصبحت في موقف حرج بعد أن أتهمتها الولايات المتحدة بممارسة عمليات تجسس صناعي واسعة ضدها.

3- الصين وقد تركزت اهتمامات مخابراتها على جمهوريات الاتحاد السوفيتي مع تكريس جزء كبير من جهودها لممارسة التجسس الصناعي والاقتصادي في الولايات المتحدة، وهي في الوقت نفسه هدف جذاب لعمليات التجسس الصناعي والاقتصادي بسبب معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي تحققها.

4- اليابان ويقدر الخبراء أنها توجه 80% من إمكانات جهاز مخابراتها نحو التجسس الصناعي لكونها هدفاً لعمليات صناعي واقتصادي على مستوى الحكومات والشركات على السواء.

5- إسرائيل فحسب تقرير أصدره الكونجرس الأمريكي نشرته الواشنطن تايمز في فبراير 1996 فإنها تمارس عمليات تجسس اقتصادي وتقني ضخمة على الولايات المتحدة الأمريكية.

الفصل الثالث عنوانه: جاسوسية القرن الحادي والعشرين حيث يذهب البعض إلى أن القرن الحادي والعشرين بدأ فعليا قبل العام 2000 مع حدوث مجموعة من المتغيرات السياسية والاقتصادية المتشابكة، وتعد حقبة التسعينات من القرن الماضي مصغرة لما ينتظر أن يستقر عليه توازن القوى الدولية مع دخول العالم مرحلة جديدة، لا يعلم إلا الله وحده، إلى متى تستمر. ولما كان الصراع الدولي يتجه أساساً نحو المغالبة والتنافس في ساحة الإنجازات الاقتصادية والنجاحات التجارية من فوز بتعاقدات وزيادة صادرات وانتزاع أسواق جديدة، فإن هذا يعنى بالضرورة أن تسعى الأمم الظافرة بكل السبل للسطو على الأسرار الاقتصادية والتقنية وليس أسهل لاختصار الطريق من سرقة الأسرار العلمية والتقنية والتجارية للدول الأخرى. وبالتالي مع انتهاء الحرب الباردة وتغير أساليب الصراع الدولي والعالمي وغلبة الصراع التقني والتجاري والاقتصادي على الصراع العسكري تغيرت أولويات التجسس بين الدول فتنازل التجسس العسكري والسياسي عن عرشه وحل محله التجسس الاقتصادي، وأصبحت كل دول العالم تحاول سرقة الأسرار التقنية المتطورة رفيعة المستوى من بعضها البعض وأصبحت كل دولة تسعى لحماية أسرارها التقنية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً في مناخ ينتشر فيه السطو المتبادل.

وبعد الحرب الباردة دخلت ظاهرة التجسس الاقتصادي والتقني مرحلة جديدة بعد الحرب الباردة ففي الولايات المتحدة انتقلت المخابرات الأمريكية لمرحلة جديدة في أنشطتها عندما انهمك عملاؤها في جمع المعلومات المتعلقة بأوضاع الحكومة الأجنبية التي تدخل في مفاوضات تجارية معها، كما أصبحت تجمع بانتظام المعلومات الخاصة باحتمالات حدوث انطلاقة علمية أو فتوحات واكتشافات جوهرية في معامل الدول الأجنبية، وكذلك القرارات التي تمس مصالح الولايات المتحدة. وفى محاضرة له قال جيمس ولسي إن المخابرات الأمريكية تراقب عن كثب الأوضاع الاقتصادية للدول الكبرى كإنتاجها الزراعي والنفطي على سبيل المثال، وأشار إلى أن مسألة مثل نسبة التضخم يمكن أن تؤثر كثيراً في استقرار دولة كروسيا، وأضاف أن الوكالة تراقب عن كثب أيضاً التقنية التي يمكن استخدامها في المجالين المدني والعسكري. ولم تقتصر التغيرات في موقف الولايات المتحدة على ازدياد الاهتمام بنشاط بعينه بل شهدت نخبة التجسس فيها تقلبات عميقة فأصبحت قضية التجسس الاقتصادي والتقني مطروحة للنقاش بشكل ملح، ومع تولى ولسي رئاسة المخابرات المركزية صرح رئيس لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ بأن على المخابرات الأمريكية أن تضطلع بدور أكبر في جمع المعلومات عن الشركات الأجنبية لمساعدة الشركات الأمريكية على المنافسة في الأسواق العالمية، وهو ما أكده المتحدث باسم البيت الأبيض، إذ صرح بعد ذلك بأيام أن كلينتون يرغب في أن تركز المخابرات المركزية جهودها على حماية المصالح الاقتصادية الأمريكية والتجسس الاقتصادي على الدول المنافسة للولايات المتحدة، وقد جاء اختيار ولسي نفسه لرئاسة المخابرات مؤشراً على هذا الاتجاه، فمن بين المؤهلات التي رجحت كفته في هذه المرحلة أنه سبق له العمل في عدة شركات أمريكية، كما تولى منصباً بشركة الصناعات الفضائية البريطانية.

ونظراً لكون التجسس الاقتصادي يستهدف في المقام الأول شركات في تجارية فإن خدمات التجسس والتجسس المضاد أصبحت سلعة رائجة، وكما كانت الولايات المتحدة أول مكان تتبلور فيه الظاهرة كانت أول مكان تظهر فيه وكالات تجسس خاصة تقدم خدماتها للشركات تحت اسم "الاستخبارات التنافسية"ويقصد بها "جمع المعلومات الصناعية وتحليلها وتوزيعها"، وتضم العاملين في هذا المجال جمعية محترفي التجسس الصناعي التي تأسست عام 1986، ويبلغ عدد أعضائها نحو 2800 رجل (80% منهم أمريكيون) موزعون في 31 بلداً، وتنظم الجمعية ندوات تبحث فيها عن أعضاء متقاعدين في أجهزة المخابرات وفى الإطار نفسه أعلنت إحدى الشركات الأمريكية استعدادها لإطلاق قمر صناعي للتجسس الشخصي يمكن من خلاله التجسس على شخص أو أكثر ومراقبة كل تحركاته.

ومن ناحية أخرى نشأت علاقات بين الشركات التجارية وأجهزة المخابرات، وقد حدث أن تلقت المخابرات السوفيتية معلومات تفيد وجود حاوية سكة حديد من بين مائة ألف حاوية تجوب روسيا تحتوى أجهزة تنصت زرعها الأمريكيون واضطر الروس لتفتيش كل الحاويات التي كانت قادمة من اليابان إلى شرق روسيا متجهة إلى لنيننجراد ثم هامبورج، وكانت الحاويات تنقل فازات يابانية وقامت المخابرات السوفيتية بتفتيش صناديق الفازات فاكتشفت حائطاً مزيفاً يخفى وراءه كاميرات وأجهزة اتصال وبطاريات ومجسات لتحليل الهواء، وثبت أن الحاويات صممتها المخابرات الأمريكية لتكون نظاماً متحركاً لكشف المواقع النووية سواء كانت أسلحة أو مصانع أو قطارات تنقل هذه الأسلحة كما ثبت أن الكاميرات تستطيع التقاط صور للمساحات التي تمر بها الحاوية لمسافة أميال وبواسطة أجهزة إرسال تنقل الصور محدداً عليها مواقع التقاطها إلى الأقمار الصناعية الأمريكية. وبعد أن اكتشف السوفيت أمر تلك الحاوية توجهوا للشركة اليابانية التي قبلت أن تكون واجهة للمخابرات الأمريكية ودفعت هذه الشركة نصف مليون دولار للمخابرات السوفيتية مقابل سكوتها.

ولم تقتصر العلاقة بين الشركات وأجهزة المخابرات على قبول بعض الشركات أن تكون واجهة لنشاط جهاز مخابرات بل تعدت ذلك إلى تبادل المعلومات، ورغم أن المخابرات الأمريكية تنفى تزويد الشركات الأمريكية بالأسرار التجارية المسروقة وتؤكد أنها فقط تحذر الشركات الأمريكية عندما تكون مستهدفة، وتمتنع عن تزويدها بالمعلومات التي تفيدها في عمليات تجارية هجومية، فإن فضيحة قيام المخابرات الأمريكية بالتجسس على المفاوضين اليابانيين من صانعي السيارات دفع بعض المتخصصين إلى التساؤل عما إذا كانت نتائج مثل العملية تؤول إلى صانعي السيارات الأمريكيين.

وقد أوصى جيمس ولسي بإعداد دراسة لمعرفة ما إذا كان من المفيد تزويد الشركات الأمريكية بمعلومات سرية لمساعدتها على المنافسة الأجنبية، وهو تساؤل يعنى إخراج هذه العلاقة إلى العلن وتطويرها إلى صيغة كانت المخابرات الأمريكية حتى وقت قريب تنفى وجودها. وقد كشفت فضيحـة "عراق جيت"التي تفجرت في بريطانيا منذ سنوات عن تشابك العلاقات بين الطرفين، فالشركة التي فجرت الفضيحة "ماتركس تشرشل"كان بعض مسئوليها متورطين في أعمال مخابرات حيث ثبت أن مديرها السابق تربطه علاقة بجهاز المخابرات البريطانى الخارجى (M.i. 6) أما مدير مبيعاتها فأمد جهاز المخابرات البريطاني الداخلي (M.i.5) بمعلومات تفصيلية عن مشتريات العراق. ويعد هذا الوجه الآخر للعملية، فمع تزايد أهمية التجسس الاقتصادي أصبح بعض رجال الأعمال يقومون بالتجسس لصالح بعض أجهزة المخابرات والعكس بالعكس.

وفى إطار التغيرات أيضاً يأتي الاهتمام بمؤسسات اقتصادية لم تكن قبلاً موضع اهتمام أساسي من أجهزة المخابرات، فالبورصات مثلاً أصبحت موضع مراقبة دقيقة تقوم بها أجهزة أمنية متخصصة، ففي نيويورك حيث توجد أكبر بورصات العالم يوجد جهاز أمنى يعمل فيه ثلاثة آلاف خبير في مباحث المال يعملون بصفة دائمة لمراقبة البورصة وحركة سوق المال وتنقسم "لجنة الأمن والتعاملات المالية"(S.I.C.) إلى خمس لجان لديها صلاحيات كبيرة في إجراء التحريات وأعمال المتابعة. وتنقسم فروع اللجنة التي يقع مقرها الرئيس في واشنطن إلى 12 فرعاً يضمون خبراء تحليلات مالية واقتصادية ورجال قانون ومحاسبون ورجال مباحث متخصصون. ونظراً لأهمية هذا العمل وخطورته فإن رؤساء اللجان الخمسة يعينهم الرئيس الأمريكي بعد موافقة الكونجرس. وتشمل ضوابط التعيين ألا يزيد عدد المنتمين إلى أي حزب بين هؤلاء الخمسة عن ثلاثة لضمان الحياد والأمن التام. ولا يقتصر عمل اللجنة على الرقابة بل تصدر تقريراً سنوياً تفصيلياً يتضمن كل ما يمكن اعتباره استغلالا غير قانوني للمعلومات في تجارة الأسهم. وعلى سبيل المثال نجحت الحكومة الأمريكية - بعد صدور تقرير اللجنة لعام 1996 – في رد 325 مليون دولار لأصحابها بعد ثبوت استغلال معلومات سرية في شرائها بشكل غير قانوني.

ومن مكافحة سرقة الأسرار الاقتصادية والتقنية أمتد نطاق عمل المخابرات إلى مقاومة سرقة الصفقات، وتعد الأزمة التي حدثت بين الولايات المتحدة وفرنسا عام 1995 مثالاً جيداً لهذا التطور، ففي منافسة على صفقة طائرات نجحت فرنسا في عقد اتفاق مع إحدى الدول عام 1994 على صفقة لتجديد أسطول طائراتها المدنية بشراء طائرات ايرباص بقيمة 6 مليار دولار وقد قام الأمريكيون بكشف ما شاب الصفقة من عمليات رشوه ودفعوا الدولة المشتري إلى إلغائها وفازت بها شركة بوينج الأمريكية. وقد أدى إفشال الصفقة الذي حدث بتدخل مباشر من الرئيس كلينتون إلى طرح قضية الرشاوى ودورها في التجارة الدولية، وفى 1997 أعلن رئيس المخابرات المركزية الأمريكية أن الوكالة تقوم بمراقبة الدول التي تدفع رشاوى للفوز بعقود في الخارج لمصلحة مؤسساتها والتشهير بها. وهاجم حلفاء الولايات المتحدة الذي يدفعون الرشاوى على نطاق واسع وأكد أن جهود الوكالة للتصدي لهذه الممارسات تدر سنوياً مليارات الدولارات على الشركات الأمريكية. أما طريقة التدخل فهي بسيطة وتتمثل في إبلاغ الخارجية عندما يتوفر دليل على وجود مناورة لاستبعاد شركة أمريكية وبدورها ترسل الخارجية سفيراً إلى العميل ليوضح له حقيقة الأمر.

ورغم جدتها النسبية تعد حرب المعلومات أخطر أشكال التجسس على الإطلاق فهي من الشمول والخطورة بحيث يمكن أن تصبح خلال سنوات قليلة أهم أشكال الصراع في العالم. ومع الانتشار الضخم الذي حققته شبكة إنترنت تبلور مفهوم حرب المعلومات، فهو كما يعرفه وين تشوارتو في كتابه "حرب المعلومات: الفوضى في الخطوط الإلكترونية المتفوقة"، بأنها: "صدام إلكتروني تكون فيه المعلومات الاستراتيجية أصولا تستحق الاستيلاء عليها أو تدميرها وتصبح الحواسب وأنظمة الاتصال والمعلومات الأخرى أهدافاً جذابة للضربة الأولى". وينص تعريف أرفق بتقرير صادر عن اللجنة العلمية لحلف شمال الأطلسي على أن حرب المعلومات أو الاتصال هي: "العمليات التي تستهدف تحقيق تفوق في مجال المعلومات عن طريق شل أو تعطيل أو تدمير أنظمة اتصال الخصم وشبكة معلوماته والدفاع عن النظام الذاتي لإبقائه فاعلاً".

وطبقاً لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية فإن أعداء الولايات المتحدة المحتملين في 120 بلداً يجمعون بيانات من خلال شبكة الإنترنت عن شبكات حواسيب وزارة الدفاع الأمريكية ويطورون أساليب للهجوم لا يمكن تتبع مصادرها وذلك لإحداث شلل بها أو تحييدها. وتشير بيانات تقرير صادر عن مكتب المحاسبة الأمريكي العام التابع للكونجرس الأمريكي إلى أن حاسبات وزارة الدفاع غالباً تكون هدفاً للصوص الذين تعودوا على سرقة وتدمير بيانات حساسة وبرامج معلومات وتمكنوا من تركيب "أبواب"خلفية في أنظمة الحواسيب تمكنهم من العودة للدخول خفية، استطاعوا بذلك تدمير أنظمة وشبكات كاملة، وفى الحد الأدنى تكلف هذه الهجمات وزارة الدفاع عدة ملايين من الدولارات وفى الحد الأقصى تشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي الأمريكي، وتتعرض الحاسبات التي تحوى بيانات حساسة لم تصنف في خانة السرية للهجوم بمعدل ربع مليون مرة في العام الواحد طبقاً لإحصاء وكالة أنظمة معلومات الدفاع وهى وحدة لأمن الحاسبات يتبعها مركز متابعة معلومات في لويزيانا، وللبنتاجون وحدة عسكرية أخرى هي فريق مساندة الحوادث للأنظمة الأمنية الآلية وهو مخصص للتعامل مع الهجمات على مجموعة أنظمة الحاسب الآلي للعسكرية الأمريكية، وقد تلقت هذه الوحدة خلال فترة 18 شهراً 28 ألف مكالمة استغاثة وتم حفظ آلاف من برامج السطو المعلوماتي لإخضاعها للأبحاث.

وفى أعقاب حرب الخليج بدأ التفكير بجدية في سيناريو كارثة شاملة مفترضة مثل ذعر يصيب الأسواق والبورصات العالمية أو اندفاع على البنوك التجارية بعد سلب الأرصدة آلياً من قبل لصوص المعلومات وقامت بعض المؤسسات بدراسات على مستوى عال من بينها دراسة قامت بها مؤسسة راند الأمريكية. جربت خلالها القيام بتدريبات على حرب الفضاء الإلكترونية وانتهت إلى تقرير عنـوانه "حرب المعلومات الإستراتيجية: وجه جديد للحرب"والنتيجة الأساسية التي تضمنها هي أن الافتراضات (المدخلات) التي تقوم عليها الإستراتيجية العسكرية القومية قديمة وغير مناسبة لمواجهة تهديدات حرب معلومات إستراتيجية. ودفعت مثل هذه التحذيرات الأجنحة الثلاثة للعسكرية الأمريكية لإنشاء مكاتب معلومات مؤهلة بخرجين من الجامعة الدفاع القومية في واشنطن، وهم مدربون على كل المهارات اللازمة من مكافحة هجمات الحواسيب إلى استخدام الواقع الافتراضي في تخطيط مناورات المعارك.

وقد بدأت صيحات التحذير تنتقل من عاصمة غربية لأخرى فأصدرت اللجنة العلمية التابعة لحلف شمال الأطلسي في مطلع 1998 تقريراً ذهب إلى أن تقنية الاتصال ستكون من أخطر التحديات التي تواجه الحلف والدول الصناعية في القرن المقبل، ويفرق التقرير بين الحروب التي يخوضها أفراد والحروب التي تخوضها شركات، فالأولى تشمل الدخول إلى بنوك معلومات شخصية أما حروب الشركات فتعنى استخدام التقنية لمعرفة الأسرار التجارية والصناعية لشركة منافسة، وأعطى التقرير مثالاً شركة محتالة تنفق مليون دولار للدخول إلى بنك معلومات شركة مناقشة أنجزت بحثاً قيمته 15 مليون دولار فتقوم بنسخ البيانات وتعطيل الجهاز عبر إدخال فيروسات غير معروفة ثم تتولى الشـركة "القرصان"تسويق المعلومات المسروقة على أساس ملكيتها لها فتجنى من ذلك أرباحاً كبيرة.

وتشمل هذه القرصنة مجالات: صناعة الطائرات، السيارات، أنظمة الرادار، البحوث الطبية، الكيماوية، النووية، وإستراتيجية الشركات المنافسة، وغالباً يستعان في إنجاز هذه العمليات بخبراء المعلومات. أما حروب المعلومات الدولية فتشمل: التجسس والتنصت والدخول إلى مواقع خاصة في المؤسسات الإستراتيجية، وعرض التقرير لحالات ضبطتها الشرطة الفيدرالية الأمريكية منها شركة أجنبية كانت تسعى للحصول على الخصائص التقنية لصناعة طرازات جديدة من السيارات الأمريكية، وأخرى سعت لنسخ أسرار تتعلق بتقنية أنظمة الرادار الأمريكية، وأورد التقرير حالة شركة أعلنت أنها فقدت نسخاً "سرية جداً"من تقنية نظام تشغيل الكومبيوتر. ومن بين الحالات التي أوردها التقرير أيضاً مجموعة إيطالية ضبطتهم المباحث الفيدرالية الأمريكية في نيويورك يقومون بنسخ كلمات الدخول إلى أجهزة حاسوب خاصة بالمعلومات السرية، ومراهق بريطاني تمكن من سرقة معلومات سرية من حاسوب للبحث العلمي في معهد الأبحاث النووية بكورياً الجنوبية.

الفصل الرابع عنوانه: كيف تخرب دولة من الداخل، فعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين يواجه العالم الإسلامي تحديات في مجال الاقتصاد تبلغ الغاية في الخطورة، وتطرح هذه التحديات الماثلة على صانع القرار مسئولية جسمية تتمثل في ضرورة حماية ما أمكن إنجازه على صعيد التنمية في مختلف أقطار العالم الإسلامي من غوائل التجسس والتخريب. وإذا كان ديننا الحنيف ينهى كل مسلم عن الأعداء على حقوق الآخرين سواء كان ذلك مستطاعاً أم لا فإن التجسس التقني بمفهوم التقليدي الشائع من حيث هو سطو على نتاج جهد الآخرين يكون على رأس قائمة الممنوعات التي يجب علينا الالتزام بها، وإن كان الوجه الآخر لهذا الموقف أن نعد لأعدائنا ما استطعنا من القوة وأن نتسلح بالفطنة والكياسة فهما من أسلحة المؤمن. وأن نغلق كل ثغرة يمكن أن ينفذ منها عدو للإضرار بحقوق أمتنا أو سرقة نتاج جهد أبنائها.

والجاسوسية الاقتصادية والتقنية نشاط مزدوج إذ تهدف إلى السعي للحصول على أسرار العدو، وفى الوقت نفسه، تامين حماية أسرار الدولة ضد الاختراقات المتحملة، فهي "ذلك النشاط الذي يعمل على تأمين الذات بالحصول على البيانات والوقائع والأحداث والسلوك المستقبلي للكيانات المختلفة التي قد تؤثر سلباً وإيجاباً في أمننا الاقتصادي". ويتخذ لفظ العدو معنى خاصاً في مجالي التجسس الاقتصادي والتقني، فإلى جانب العدو هناك العدو المحتمل ويقصد به الأصدقاء، بل إن الخبراء يذهبون إلى أن جمع المعلومات عن الأصدقاء يفوق جمع المعلومات عن الأعداء.

وترتبط ظاهرة التجسس عموماً بالمجتمع، ولكن التجسس الاقتصادي والتقني يرتبطان بالمجتمع أكثر من التجسس في المجالين السياسي والعسكري، فأية معلومة عن البناء الاجتماعي وسلوك شرائح المجتمع المختلفة تفيد جاسوس الاقتصاد في عمله، وتعد اليابان رائد هذا الاتجاه في التجسس الاقتصادي، وقد دأبت على إرسال عملائها إلى مختلف دول العالم لدراسة أساليب حياة الفئات والشرائح المختلفة للاستفادة بها في غزو أسواقها، وقد ضبط في كاليفورنيا منذ سنوات طالب ياباني استأجر غرفة لدى إحدى الأسر الأمريكية في كاليفورنيا وتبين أنه يقوم بتحليل أسلوب حياة الطبقة المتوسطة الأمريكية لحساب أكبر الشركات اليابانية.

ولكونها تقوم على مراقبة الأحداث للإحاطة بشكل فوري وبصفة دائمة بالاتجاهات والتطورات وإيقاعها فإن الجاسوسية الاقتصادية تحتاج إلى صبر شديد ودقة تامة في رصد السلوكيات، فمعرفة سلوك المستهلكين في منطقة ما وعاداتهم الشرائية والأنماط الاستهلاكية السائدة بينهم له مردوده الاقتصادي. وتعد معرفة اللغات الأجنبية مؤهلاً أساسيا ينبغي أن يتسلح به من يعمل في التجسس خارج الوطن فهي من أهم أسلحة العمل في المخابرات، وقد أولت الولايات المتحدة هذه المسألة اهتماما بارزاً بعد أن منيت سياستها الخارجية بنكسات حادة كان سببها الرئيس عجزها عن الحصول على معلومات في اللغات الأجنبية وتفسيرها، ففي التجربة الفيتنامية كانت الاستخبارات المركزية تعتمد على معلومات تزودها بها المصادر الفرنسية والمجرية. وكانت هذه المعلومات تؤدي إلى ترجيح أن الفيتناميين الشماليين لا يعتزمون مهاجمة سايجون، وفي أثناء العمليات في فيتنام الجنوبية اكتشف الأمريكيون أن المعلومات التي كانوا يحصلون عليها لم تكن صحيحة تماماً وكانت تترجم ترجمة غير دقيقة لأن الفيتناميين الذين تم استخدامهم للترجمة كانوا يريدون تجنب إغضاب الأمريكيين فكانوا يحرفون أية معلومات يعتقدون أن الأمريكيين لا يريدون سماعها وهو ما تكرر في إندونيسيا. فمثلا في التاسع والعشرين من ديسمبر بثت وكالة الصحافة المشتركة تقريراً جاء فيه: "كانت أعمال الترجمة التي تتم في السفارة الأمريكية يقوم بها موظفون من سكان المنطقة حتى 1949عندما أرسل أول مترجم أمريكي مدرب للعمل هناك، حيث كان المترجمون يقومون بترجمة كل شىء بصورة تتبنى وجهه النظر الأمريكية إرضاء لرؤسائهم الأمريكيين". وقد تكرر أمر مشابه خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان. وقد أوصت لجنة أمريكية شكلت لتقييم تنظيم النشاطات الاستخبارية في: المخابرات المركزية، الجيش، البحرية، والقوات الجوية بضرورة تطوير برنامج شامل للتوسع في التدريب اللغوي للأمريكيين.

وتتجاوز الجاسوسية الاقتصادية إطار الموجودات المادية من مصانع وشركات ومنشآت وإنتاج واستهلاك…. الخ إلى إطار القيم والمبادئ والمثل والعقائد التي تحكم سلوك الأفراد والجماعات في المجتمع، وهو بعد مهم يربط الجاسوسية الاقتصادية بالمجتمع الذي تعمل فيه والمجتمع الذي تعمل لحسابه. فإحساس المواطن بينه العلاقة بين وبين المجتمع الذي يعيش فيه علاقة عادلة وأن السياسيات التي تتبعها دولته تعبر عن قناعات الأمة وتدافع عن مصالحها يجعل إقناعه بالعمل ضد مصلحة بلاده مستحيلاً، فضلاً عن أن اتصاف سياسة بلاده بالقدر الأكبر من التزام الحق والعدل مع الدول الأخرى يجعله شاعراً بالانتماء إلى المجتمع متناغماً مع سياساته، وقد كان الانتماء السياسي والشعور بأن السياسات الخارجية للبلاد لا تقوم على العدل دافع بعض عمليات التجسس الشهيرة التي شهدها الغرب، فمثلاً خماسي كامبردج المثاليون المنحدرون من عائلات بريطانية ثرية عملوا لصالح الاتحاد السوفيتي السابق بعد أن كرهوا ديمقراطيات الغرب، ويؤكد الكثيرون أنهم كانوا يقومون بهذا العمل من منطلق قناعاهم الشخصية. فمثلا بلانت الذي أصبح مستشار ملكة بريطانيا للفنون يؤكد أنه لم يخن ضميره وأن تصرفاته تساير مبادئه، وهو بذلك يمثل موقف العشرات من رجال المخابرات البريطانية الذين كانوا يرون أن من حق الاتحاد السوفيتي السابق أن يستفيد من المعرفة العلمية المتوفرة لأمريكا.

وتشكل الأقليات العرقية والدينية ثغرة محتملة في كل مجتمع يمكن أن ينفذ منها أعداؤه لتهديد أمنه من خلال تجنيد عملاء من هذه الأقليات، سواء من خلال علاقة هذه الأقليات بوطن أم أو شعورها بالاضطهاد في وطنها. ويعد كثير من أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرون في العالم قاعدة تعتمد عليها إسرائيل للحصول على الجواسيس في كثير من أقطار العالم، وقد ظهر هذا البعد جلياً في قضية جوناثان بولارد اليهودي الأمريكي الذي حكم عليه بالسجن لقيامة بالتجسس لصالح إسرائيل فقد وصف علاقته برجال المخابرات الإسرائيلية قائلا: "أظن أن خير طريقة لوصف حقيقة إحساسي آنئذ كانت بغيضة للغاية ولا تتفق مع الشعور الذي تخيلته نتيجة مساعدتي إسرائيل. كانت عملية أيديولوجية حولها رفائيل إيتان شيئاً فشيئاً إلى بيع وشراء".

وتشمل عمليات التجسس الاقتصادي والتقني ثلاثة أنشطة رئيسة تتم منفردة أو مجتمعة حسبما تملى الحاجة وهذه الأنشطة هي:

1 - جمع المعلومات.

2 - تخريب النظم.

3 - تحليل المعلومات.

الفصل الخامس عنوانه: "نحو مفهوم جديد للأمن الاقتصادي العربي"

أما الفصل السادس فعنوانه: "كيف نقاوم التجسس الاقتصادي والتقني"؟

ومقاومة التجسس الاقتصادي والتقني مهمة شاقة لكون الظاهرة شاملة متشعبة وفى الوقت نفسه جديدة على كثير من الأجهزة الأمنية، وإذا كانت هذه الدراسة قد استعرضت تاريخ الظاهرة فإن تكوين تصور شامل محدد القسمات لمواجهتها يعد طموحاً كبيراً، ومن المفيد أن يكون هذا الفصل توصيات محددة مستفادة من الفصول السابقة بحيث يستطيع أي مسئول أن يجد فيه قدراً من المقترحات المفيدة له دون إغراق في مناقشات نظرية قد تأتى فيما بعد عندما تصبح الظاهرة في محيطنا العربي الإسلامي أكثر وضوحاً.

صالة العرض


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى