الخطاب الأخلاقي في الحكاية الخرافية
في البدء، ينبغي إزالة اللبس حول المقصود بـ «الحكاية الخرافية». فنحن نقصد بها: الحكاية التي ترد على لسان الحيوان أو غيره من مظاهر الطبيعة، من أجل تبليغ رسالة أخلاقية وتعليمية معينة، وليس الحكاية العجيبة ولا حكاية الحيوان التعليلية.
بعد هذا، يمكن أن نجازف بتمييز هذا النوع الأدبي أولا وأخيرا، بأنه خطاب أخلاقي أساسا. فإذا كانت الحكاية العجيبة هي حكاية خوارق بالأساس، والحكاية الشعبية حكاية تعبير موضوعي واقعي، والحكاية المرحة هي حكاية مفارقة، فإن الحكاية الخرافية ترمي من حيث وظيفتها إلى التربية الأخلاقية والوعظية حصرا، وذلك عن طريق تجسيد الحكم والأمثال والمواعظ والأقوال المأثورة.. وما شابه ذلك مما يتطابق مع التجارب الإنسانية المتوارثة، ويكرس القيم المثالية.
إن مثل هذا الغنى هو الذي يسمح للحكاية الخرافية خاصة وللحكاية الشعبية عامة بالامتداد إلى أخص خصوصيات المجتمع، وسبرها بالتشخيص والأسلبة والنقد والسخرية والاعتبار.
فلو تصفحنا «خرافات إيسوب» مثلا وهي تعد من أقدم ما وصلنا من مجموعات هذا النوع الأدبي الشعبي، لأثار اهتمامنا هذا الاحتفاء الملحاح بالمغزى التعليمي والأخلاقي بواسطة الرمز الحيواني وغيره، على صورة مهيمنة تكاد تلهينا عن الالتفات إلى المكونات الجمالية البارعة في نصوص هذه المجموعة. إذ يتوزع الخطاب الأخلاقي فيها إلى كم هائل من الدروس الأخلاقية التي تستهدف تكريس سلوكيات إيجابية للفرد والمجتمع؛ كالتواضع والقناعة والفطنة والصدق والمسؤولية والاتحاد وأشباهها.. مقابل التحذير من كل السلوكيات السلبية من أمثال هذه القيم المنحطة: الطمع والغرور والزيف والأنانية والنفاق والمكر واليأس والخمول وسوء التدبير.. بقصد نفيها عن الواقع تحقيقا لمجتمع مثالي مفتقد. علما بأن معظم نصوص هذا المتن القديم، نستطيع إدراجه فيما يمكن تسميته ب "الحكاية المثل"؛ إذ تقدم للمتلقي التجربة الإنسانية النمطية مكثفة عبر صياغة دقيقة تفصّل مثلا ما من أجل اتخاذ العبرة والدروس الرامية إلى تكييف الفرد داخل المجتمع، وتوريث الخبرات المستحصلة من الحياة في مختلف مجالاتها عبر الأجيال المتوالية، لاسيما في المجتمعات ذات الثقافات الشفاهية، حيث تتضاعف الوظيفة الأخلاقية والتعليمية للحكاية الخرافية.
ولو تمعنا في الكثير من نصوص الحكاية الخرافية المتداولة في المغرب، لما وجدناها تبتعد عن هذه الأهداف التربوية والتحذيرات الأخلاقية. فالقصدية دائما واحدة في هذا النوع الأدبي الشعبي، هي : التوجيه والإرشاد من منظور تعليمي أخلاقي بواسطة التجسيد السلوكي الذي يوضح بالملموس مختلف العواقب الإيجابية والسلبية، ليشجع على التمسك بالأولى ونبذ الثانية. ومن هنا تميزت الحكاية الخرافية بالشمولية؛ فهي لم تترك ميدانا، أو موقفا، أو شريحة، أو غيرها.. دون الخوض فيها وكأنها تضع دستورا عاما على طريقتها الخاصة، يجب احترامه إذا ما أريد للمجتمع أن يسلم من كثير من الأمراض الاجتماعية العويصة كالظلم والانتهازية والنميمة والتواكل..الخ.
ولا غرو، فإن الحكاية الخرافية بطبيعتها الترميزية، تناظر الواقع بنزعاته العدوانية الشرسة، توخيا لتصفيته من هذه النزعات السلبية لصالح النزعات الإنسانية الإيجابية بواسطة عملية التطهير.
لكن، ألا يجب أن نسأل: كيف يستطيع هذا النوع السردي الشعبي المكثف أن يضطلع بهذه المهمة التعليمية الخطيرة وحمل المضامين الأخلاقية المصيرية، على شدة قصره، ومع محدودية أدواته؟.
الحقيقة، إن للحكاية الخرافية تشكلاتها الخاصة بها، كما أنها تشترك مع الأنواع القصصية الأخرى من رسمية وشعبية في أدواتها المتعددة. وكل ذلك يهيئ لها إمكانية أداء وظيفتها بصورة أكثر إمتاعا وأبلغ تأثيرا.
فعلى مستوى البناء، يلاحظ معظم الباحثين أن الحكاية الخرافية عامة تتكون في العادة من بناء بسيط ومحدود، يتوزع هكذا:
أ ـ العرض القصصي للحدث: وهو خاص بسرد الحكاية في تفاصيلها المجسدة للهدف الأخلاقي.
ب ـ المحصول الأخلاقي: ويقتصر على تقرير الهدف الأخلاقي بصورة مركزة تتجسد غالبا في مثل سائر، أو حكمة، أو كلام مأثور، أو ما شابه ذلك، وكأنه الخلاصة الدقيقة للحكاية الخرافية [1].
ونحن نعلم أيضا، أن من مظاهر بساطة الحكاية الخرافية، تركيزها على حدث واحد عينه مجسدا عبر شخصيتين أو ثلاث شخصيات في أحسن الأحوال. ويجب الإشارة فيما يخص بناء هذه الحكاية، إلى ملمح مهم لا يمكن تجاوزه، لأنه من أخص المميزات التقنية القرينة بهذا الفن، ألا وهو دقة التقسيم، التي يمكن عزوها إلى طبيعة الحكاية الخرافية الإيجازية المكثفة. فعادة ما تنتظم في جمل أو فقرات أو أطوال محدودة، يتم عبرها تجسيد الحدث أو تطويره ببراعة.
على أن ما تتميز به الحكاية الخرافية عن الحكايتين العجيبة والشعبية في هذا الشأن، بسبب محدودية مدارها، هو البعد عن التقسيم الثلاثي المعروف ( مقدمة ـ عقدة ـ خاتمة). ومن ثم، فهي لا تبدأ بمقدمة تقليدية منفصلة على غرار ما في الحكاية العجيبة، من مثل (كان الله فكل مكان، حتى كان الحبق أوالسوسان في حجر النبي العدنان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام) [2]. ولا تنتهي بخاتمة مستقلة ومكرورة أمثال هذه الخاتمة التي تنتهي بها الحكاية العجيبة بالمغرب عادة ( مشات خرافتنا الواد الواد، واحنا بقينا مع الجواد) [3]. فالحكاية الخرافية لانشغالها بالوعظ والإرشاد وتلقين الدروس الأخلاقية، تبدو في عجلة من أمرها، حيث تتحول إلى ما يشبه الطلقة السريعة تنقذف دون مقدمات لتستقر عند هدف حكمي محدد. إنها عبارة عن مفارقة متدفقة تتوج بموقف مكثف قار هو لب كوامنها. ولا بأس أن نستدل بهذه الحكاية:
« ذات شتاء، عثر فلاح على أفعى متجمدة، فاقدة الحس من شدة البرد، التقطها شفقا عليها، وأودعها صدره.
ولم تكد تنتعش من الدفء حتى انقلبت إلى منقذها تعضه عضة قاتلة.
وبينما الرجل يلفظ أنفاسه، إذ صاح: هذا جزائي، فقد أخذتني الرأفة بهذا المخلوق الشرير)) [4].
فالمفارقة تتشكل هنا من إشفاق الفلاح على الأفعى، مع ترجمة الشفقة عمليا إلى فعل (التقاط الأفعى وإيداعها صدره)، و عض الأفعى للفلاح عند انتعاشها من الدفء. فكان الموقف الطبيعي هو ندم الفلاح على وضع معروفه في مخلوق شرير غير قمين بأي خير، وكأنه يحيلنا على المثل الأخلاقي المعروف " اتق شر من أحسنت إليه».
ومن ناحية أخرى، فإن الحكاية الخرافية تعمد إلى تقديم دروسها الأخلاقية عبر رموز متنوعة تنوع الحياة، حيث تتشخص عبر فصائل حيوانية وظواهر طبيعية مؤنسنة شاسعة. فهي تتنوع عبر حيوان ونبات وجماد وطيور وحشرات وزواحف، دونما استبعاد للشخصيات البشرية طبعا، علما بأن هذه الحكاية كغيرها من أنواع السرد الشعبي لا تسمي أبطالها، مكتفية بنعتهم بصفاتهم النوعية (رجل، ذئب، عوسج) أو العمرية (عجوز، فتى، طفل…) أو المهنية (دباغ، بحار، فلاح..) أو العلائقية (أب، ابن، زوج، صديق، جار..) أو الطبقية (سيد، ثري، خادم…). فالذي يهم هنا ليس الشخصية في حد ذاتها، بل ما تقوم به من فعل، وما تحمله من دلالات أخلاقية. وربما لهذا السبب كان الأسّ الذي تقوم عليه الحكاية الخرافية في هذا الجانب هو مبدأ التقابل بين الشخصية المعتدية والشخصية الضحية، حيث تهيمن المواجهة بين القوي والضعيف؛ كالقط والفأر، والحطاب والشجرة، والشمس والمصباح، والسيد والعبد. فيسقط ضحايا، أو يفلت ظالمون من الهلاك، أو ينقلب القوي ضعيفا والضعيف قويا.. إلى غير ذلك من تنويعات معادلة القوة والضعف. وإن كانت هذه المعادلة تختل أحيانا في بعض الحكايات الخرافية، فيتبادل المعتدي والضحية المواقع، ليتحول المعتدي إلى ضحية وتنقلب الضحية معتديا، للإيهام بنسبية الحياة والأشياء حتى يتسلح المتلقي بالاحتياط اللازم لمواجهة تقلباتها المفاجئة.
وبالطبع، فإن الحكاية الخرافية لم تهمل الواقعين الزمني والمكاني، وتوظيفهما جماليا ودلاليا للانخراط في الأنظومة التبليغية لخطابها الأخلاقي، بل إنها تحفل بهما أيما احتفال على ضآلة حيزها بالقياس إلى الحكايتين العجيبة والشعبية. فغالبا ما يتعلق الأمر على مستوى الزمن في الحكاية الخرافية بالماضي، باعتباره كنزا غنيا بالخبرات والعبر والدروس. لذلك، فهي تبدأ عادة بالأفعال الماضية من مثل (رأى ثعلب ـ طارد الصيادون ـ أصابت عاصفة…)، مع ملاحظة أن هذا التزمين قد يتنوع بين الماضي الممعن في الإبهام مثل (زعموا أن، يحكى أن، ذات يوم…)، إلى الحاضر المحدد بآنيته (في لحظة، هذا اليوم، في هذه الأثناء…)، أو إلى صيغ الامتداد أمثال هذه الصيغ (طوال النهار، أمدا طويلا، إبان…)، أو إلى صيغ التحول من مثل (وحينما ـ ولم يمض غير قليل حتى ـ وبعد عدة أيام…)، أو إلى صيغ التكرار كـ (عدة أيام ـ يوميا ـ من حين لآخر…)، من غير إهمال لفترات اليوم مثل (في الصباح ـ وفي المساء ـ وقبل العشاء ـ ولما أقبل الليل…)، ولا للفصول الأربعة من مثل (كان الفصل صيفا ـ في يوم من أيام الشتاء ـ في كل خريف…).
وتنجم عن هذه الصيغ كلها وغيرها، ظواهر زمنية معينة بالحكاية الخرافية، تساعد على تجسيد الحكمة، أو المثل، أو العظة، أو غيرها في المساحة الضيقة المحدودة لهذه الحكاية، كما تمكن من توفير السرعة اللازمة لتنامي الحدث واكتماله داخل المدى الضيق الذي تتصف به، من ذلك اللجوء الكثير إلى تقنيات الثغرة [5]، والملخص [6] والمشهد [7] .
ولا يقل الواقع المكاني بهذه الحكاية تشبعا وغنى ودلالة عن الواقع الزمني. غير أن المكان هنا يظل مكانا واقعيا هندسيا معتادا، ليس كما في الحكاية العجيبة التي تدور أحداثها في فضاء أحادي البعد، تجريدي، سحري، مجهول. إن المكان في الحكاية الخرافية شديد التنوع هو الآخر تنوع الحياة. فهو يشمل البيوت ومرافقها، الغابات، الحقول والمزارع والحدائق، البحار والأنهار والمستنقعات والبرك والآبار والوديان والحفر، الأشجار والكروم، المدن والقرى، الأرض والطرق والجسور، والصحاري والكهوف والمقابر، والأسواق، والحارات، والمعابد، والجدران، والأبواب، المدابغ والمطاحن، وأعضاء الإنسان والحيوان…الخ.
وقد اهتمت هذه الحكاية في التشكيل المكاني، بحصر المسافات من قرب وبعد، فوق وتحت، يمين ويسار، طول وعرض، داخل وخارج. كما أنها تستعمل أحيانا لفظ "مكان" دون تحديده من مثل (ولما وصل إلى المكان)، في حين أهملت في عدد من الحالات أي ذكر للمكان أو تعيينه تاركة للتأويل مهمة إخراجه من ضمنيته ثم ضبطه، كأن تقول: (أرسلت الذئاب إلى الأغنام وفدا ـ بدأ البغل الذي كان له طعام كثير ـ أفزع أحد كلاب الصيد أرنبا بريا ـ كان لرجل ما طفلان ولد وبنت…). فيكون المكان الضمني غير المصرح به في هذه الأمثلة على التوالي: الغابة والمرعى ـ الاسطبل ـ مكان الصيد ـ المنزل.
وإذا كان إضفاء الصفات المكانية على الأفكار المجردة يساعد حقا على تجسيدها وتقريبها إلى الأفهام، وأن هذا التجسيد المكاني ينطبق على مختلف المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية والزمنية، وأن ارتباط المعاني الأخلاقية بالإحداثيات المكانية له علاقة بحضارة المجتمع وثقافته [8]، فإن هذه الحقائق تجد نموذجها التطبيقي المثالي بلا شك في فن الحكاية الخرافية. ذلك أن للمكان فيه دورا دلاليا أساسيا، بحيث يتحول معه إلى مؤشر مباشر ملتحم عضويا بالحدث، وحامل للمعنى الأخلاقي المطروح للإقناع في النص الخرافي. ومن هنا ارتباط الغابة، والكهف، والبئر، والحافة، والحفرة، والهوة، والبحر، والنهر، وما أشبهها في هذه الحكاية، بالرعب والهلاك والاستبداد ومختلف الشرور وأنواع الخطر المحذر منها في المتن الحكائي الخرافي، باعتبارها أمكنة دالة على المستوى الرمزي على الوسط الإنساني الذي لا يرحم. بينما يرتبط البيت بالاستقرار والمحبة والولائم والهجر والعودة والحوار؛ والطريق باللقاء والصحبة والسعي والسفر والعودة والتعب والخطر.. إلى غير ذلك من الحالات المشابهة التي تتمكن فيها الحكاية الخرافية من تجسيد القيم المبشر بها عبر شبكة الأمكنة المرمزة الدالة على جدلية الحياة البشرية في مساعيها المختلفة.
وإلى جانب ذلك، فإن الحكاية الخرافية تلعب على عنصر التضاد في تمرير المحمول الأخلاقي للمكان. لذلك كثيرا ما يقع التقابل بين القرية والمدينة، المرعى والغابة، السهل والمرتفع، السطح والعمق..إلخ، مع تدخل العامل النفسي معيارا لقياس نسبية الأبعاد المكانية. فالغابة مكان آمن بالنسبة للأسد وغيره من السباع، لكنه خطير ومميت بالنسبة للماشية والدواجن والإنسان مثلا. والعكس صحيح بالمراعي والحقول والبيوت، ففيها يتوفر الاطمئنان للإنسان ومواشيه وبهائمه من اعتداء الحيوانات المفترسة، بينما هي أماكن مهلكة لهذه الأخيرة.
تأسيسا على كل ما سبق، يمكن القول إن الحكاية الخرافية تدقق بحرص متناه في اختيار شخصياتها وأزمنتها وأمكنتها متقصدة ترميزها، من أجل تعبئة طاقتها التأثيرية، حتى تتمكن من تبليغ خطابها الأخلاقي على أوفق ما يكون الإبداع.
ولتبين بعض ذلك على محك التطبيق، ننتقل إلى استنطاق نص خرافي مغربي في سياق مقارني نظرا لتداول رواياته في معظم لغات العالم، ونقصد به حكاية "عزة ومعيزيزة " . فهذه الحكاية تروي أن عنزة قبل أن تخرج للبحث عن الكلإ والماء ودر الحليب لصغارها، تقوم بتحذيرهم من فتح الباب لأي كان إلا لها.. لكن الذئب سمع أهزوجتها المحذرة، فاحتال على صغارها مدعيا أنه أمهم الحقيقية. وعندما فتحوا الباب التهمهم باستثناء أصغرهم، لأنه اختبأ إلى أن جاءت العنزة، فأطلعها على حقيقة الأمر. وكان أن قصدت الذئب وبقرت بطنه، فخرج صغارها وهم يصارعون الموت. ثم حذرتهم مجددا من الثقة في أي كان، وعاشوا جميعا في هناء.
وقد وقفنا على عدد من الروايات لهذه الحكاية في كل من المغرب وتونس وفلسطين والعراق وفرنسا [9] فوجدنا أنها جميعا تجعل بطليها الرئيسيين منحصرين في العنزة والذئب أو غيره، بمواصفات متضادة؛ العنزة كادحة، مسالمة، شديدة الحذر، حكيمة. والذئب كسول، محتال، معتد، متهور. بل إن عناوين الروايات المتعددة للحكاية لا تخرج عن الإشارة إليهما أو إلى أحدهما إلا نادرا.
كما أن هذه الروايات تتحد في تحميل صغار العنزة شخصية الضحية. بينما يمثل الذئب فيها الشخصية المعتدية، وإن كان الغول في الرواية الفلسطينية، والغولة في الرواية العراقية هما اللذان يضطلعان بمهمة هذه الشخصية وليس الذئب.
وفي الرواية المغربية يلتهم الذئب عزة ومعيزيزة دون خنفوسة الرماد وبولعواد، فقد اختبأت الأولى في الرماد، والثاني تستر بين الأعواد. وفي الرواية التونسية أكل الذئب كل أولاد العنزة. وفي الرواية الفلسطينية يلتهم الغول حمحم ومعمع وحماحم، ولم يفلت إلا سعسع الذي اختفى تحت القش. وفي الرواية العراقية تسرط الغولة جنجل ورباب دون مضغهما استجابة لرغبتهما. أما في الرواية الفرنسية، فإن الذئب لا يتمكن من أكل الجديان أو خطفها ، لكونه اشتغل بأكل المجبنة داخل المعجن أولا، فأغلق عليه الصغار الغطاء ومنعوه من الخروج إليهم.
وغالبا ما يكون الناجون هم عنصر إبلاغ الأم بحقيقة ما وقع، علما بأن المعتدي يتوسل لفتح الباب بالحيلة، إذ ينتحل شخصية الأم بتقليد صوتها، وقد يصطنع قرونا من الطين أو غيره في بعض الروايات، كما قد يطلي رجله بالدقيق وغيره ليزيل لونه الأسود فيصير في لون رجل الأم في بعضها الأخر. كل ذلك ليوهم الصغار أنه أمهم الحقيقية فيندفعوا لفتح الباب.
وباستثناء الروايتين التونسية والفلسطينية، فإن باقي الروايات المقارنة هنا تثبت التحذير الذي تلقيه العنزة على صغارها في شكل وصية مصيرية يجب العمل بها، وذلك قبل انصرافها إلى التزود بالماء والكلإ والحليب لجلبها إلى صغارها في كل الروايات ما عدا الرواية الفرنسية التي تغادر فيها العنزة صغارها قصد إشفاء أرجلها. بيد أن جميع هذه الروايات دون استثناء، تشترك في توظيف شفرة ما، مع اختلاف بسيط في صيغها، وتلك هي الشفرة المتفق عليها بين الأم وصغارها لفتح الباب لها، وهي مصوغة غالبا بصورة موقعّة تقطر رقة وحنانا على شدة بساطتها وإيجازها.
على أن هذا التماثل في كل الروايات المقارنة لحكاية " عزة ومعيزيزة " ، يبلغ أقصى مداه على مستوى المظهر التركيبي؛ إذ أنها جميعا تتمفصل عبر ثلاث بنيات صغرى لا تحيد عن إحداها إلا نادرا، ونريد بها:
أ ـ بنية التحذير: وفيها توصي العنزة صغارها صراحة أو ضمنيا بعدم فتح الباب إلا لها، وتتفق معهم على شفرة محددة، ثم تخرج لجلب الماء والكلإ والحليب لهم. فالاتفاق هنا مشترك على احترام الوصية بين الأم والأبناء.
ب ـ بنية الاحتيال: وهنا يحتال المعتدي لأكل كل الضحايا أو بعضهم بانتحال شخصية الأم، مقلدا صوتها في ترديد الشفرة المتفق عليها، وملونا رجله بلون رجل الأم، حتى يتأكد الصغار من رؤيتها خلال شق الباب أنه أمهم فعلا، فيفتحوا الباب ليلاقوا مصيرهم المحتوم. وهنا أيضا الاتفاق وارد بين المعتدي والضحايا؛ الأول بالفعل والآخرون بالاستجابة.
ج ـ بنية الانتقام: وتتكون من الصراع المميت الذي قام بين الذئب المعتدي والأم المنتقمة، يغذيه غضب الثانية الشديد وتشفي الأول واغتراره بقوته. وطبعا ينتهي الصراع ببقر بطنه. مع ملاحظة أن عناصر موت المعتدي مشتركة بينه وبين العنزة المنتقمة أيضا.
إن كل بنية من هذه البنى المتتابعة سياقيا في متتالية جدلية ترتبط بوظائف معينة؛ الأولى بالمنع (الناتج من الخوف)، وبالخروج (بسبب معاناة النقص)، الثانية بتلقي المعتدي خبرا عن ضحاياه، وتعرفه على الشفرة، ثم خداعه الضحايا المستجيبين للخدعة، فأكله لهم أو لبعضهم. والثالثة بانتصار البطلة وانهزام المعتدي، مع إصلاح الإساءة في معظم الروايات حيث ينزل الضحايا سالمين من بطن المعتدي المبقورة.
والحق، إن هذه الروايات المتعددة للحكاية الخرافية لا تخرج معماريا عن الثنائية البنيوية التي تميز بديناميتها فن الحكاية الخرافية إطلاقا وفق ما سبق شرحه، ونقصد بها: العرض القصصي للحدث، والمحمول الأخلاقي. وإذا كان بعض تلك الروايات قد فعل ذلك صراحة مثلما هو الأمر في " عزة ومعيزيزة " المغربية، حيث تنغلق بعد تشخيص الحدث بهذه النهاية المباشرة: «كالت ليهم هاني هنيتكم من هاد الذيب، إيوا لا باقي عمركم تتيقوا فشي حد» [10] . وكذلك في الرواية العراقية؛ إذ تحذر أولادها في الخاتمة من الوقوع في نفس الخطأ، استجابوا متعظين: «نعم يا أمي سوف لن نفتح الباب لغيرك. وعاشوا جميعا في سعادة واطمئنان» [11] . فإن البعض الآخر لابس بين طرفي الثنائية في شفافية يند فيها الدرس الأخلاقي عن الشكل المادي بصورة متداخلة، كما في الرواية التونسية والفلسطينية والفرنسية التي تلح على تشخيص هذا الدرس الأخلاقي أساسا.
هنا نصل إلى القصدية المشتركة بين كل تلك الروايات. فالبنى الثلاث الصغرى، والوظائف المرتبطة بها، والثنائية البنيوية الملازمة للحكاية الخرافية، كلها تندمج في بنية جوهرية واحدة متكاملة تعد نقطة ارتكاز بالنسبة إليها، وهي بنية الطاعة. فطاعة الأبناء للآباء هي الرسالة التي تحملها هذه الحكاية إلى الأبناء؛ إذ بالطاعة يستطيع الأبناء تحاشي السقوط في المخاطر. وهكذا تقدم حكاية " عزة ومعيزيزة " درسا اختباريا هادفا تتضافر بنيات التحذير والاحتيال والانتقام لتجسيده للأطفال على كيفية عملية أشد تأثيرا وترسيخا ومدعاة إلى الالتزام بوصايا الآباء وطاعة أوامرهم. وهنا تتكشف الطاقة الرمزية الهائلة التي تختزنها الحكاية في سعيها لضبط جوهر الواقع البشري المنفلت.
وبذلك تتأكد فرضية تميز الحكاية الخرافية عن غيرها من أنواع القصص الشعبي، بخطابها الأخلاقي والتربوي الملحاح بكل تجلياته الموضوعاتية والبلاغية بالمعنى الشامل، التي تخدع القارئ العابر بسهولتها، في حين تعجز القارئ المتمعن بأسرارها العميقة على مستوى الرسالة والتشكل معا، مما يحولها من السطحية والساذجة إلى الدخول في السهل الممتنع عن جدارة.