الكاتب المصري خيري عبد الجواد لماذارحلت؟
تلقينا ببالغ الأسى والحزن نبأ وفاة واحد من أهم كتاب السرد الحديث
بالعالم العربي ، الكاتب المصري خيري عبد الجواد ،العضو شرفي بمختبر
السرديات، وذلك بعد غيبوبة لعدة أيام بسبب مضاعفات مرض السكر حيث توفي
يوم الثلاثاء 24 يناير 2008 بمستشفى بالقاهرة عن 47 عاما.
وقد كان الفقيد صديقا حميما للمبدعين فاتحا مكتبته بما تحتويه ومن
كتب نادرة للمثقفين والباحثين ، وفي مرات عديدة أسعفنا وساعدنا في انجاز
لقاءات وندوات.
خلف الفقيد أكثر من عشرة أعمال في القصة والرواية إضافة إلى تحقيقه
سيرة الظاهر بيبرس وسيرة شعبية نادرة للفيلسوف ابن سينا، وقد أخلص
للتراث العربي الشفاهي الذي استلهم منه روح الحكايات الشعبية في نسيج
معاصر منذ مجموعته القصصية الأولى (حكايات الديب رماح) في نهاية
الثمانينيات وبعدها أصدر مجموعات قصصية وروايات منها (كتاب التوهمات)
و(حرب أطاليا) و(العاشق والمعشوق) و(كيد النساء) و(يومية هروب).
وحظي باهتمام نقدي داخل مصر وخارجها ، من بينها الندوة التي عقدها
مختبر السرديات ونادي القلم المغربي بالدار البيضاء يوم الخامس من دسمبر
2006 في محور بعنوان( المتخيل السردي عند خيري عبد الجواد) وكان لقاء
نقديا رفيع المستوى كشف فيه النقد المغربي من خلال نقاد وباحثين عن
الخصوصيات الجمالية والدلالية في أعمال خيري ، والتجديد الذي حققته
مؤلفاته في الرؤية والأسلوب.
وكما لم يسعفه القدر المحتوم لإتمام مسيرته ، لم يتمكن الفقيد من الحضور
معنا في اللقاء حوله فأرسل إلينا كلمة قيمة نعيد قراءتها..محبة في المبدع
والإبداع ..وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وعزاؤنا واحد نتقدم به إلى
عائلته الصغيرة وعائلته الكبيرة في كل الوطن العربي.
شهادة خيري عبد الجواد: هذا زمن القابض فيه على حكاياته كالقابض على
الجمر:قرئت في نهاية هذا اللقاء الشهادة التي بعث خيري عبد الجواد وقد
جاء فيها:
الأخوة والأصدقاء والأساتذة الأعزاء ، تحية عطرة أرسلها إليكم من القاهرة
التي تتشوف دائما لرؤياكم ، فأنتم منها في القلب ، تأكدوا من هذا ، ولعل
بعضكم قد لمس ذلك عند زيارته للقاهرة وعرف مدى الحب الذي نكنه نحن أدباء
مصر وكتابها للمغرب والمغاربة أخوتنا وزملاء المهنة الواحدة ، فلا فضل
لمغاربى على مصري إلا بالفن والإبداع الجيد وهانحن نلتقي ونتجمع عن طريق
الفن ، فوحده يجمع ما فرقته السياسة والحدود والملل والنحل المختلفة .
لقد شعرت بسعادة طاغية حين علمت باجتماعكم على دراسة بعض ما اجتهدت في
كتابته على مدى ربع قرن من روايات وقصص ، واني على أمل ألا يخيب ظنكم
فيما كتبت ، وأن تجدوا فيه ما يستحق عناء بحثكم ، وألا تكونوا قد أضعتم
وقتكم فيما لا يستحق .
الأخوة الكرام ، لقد بدأت الكتابة في فترة مبكرة جدا من حياتي ، كان ذلك
في بداية السبعينيات من القرن الماضي ، وكان عندي وقتها عشر سنوات ، فقد
ولدت في ( 24/7/1960) وكانت أول قصة كتبتها آنذاك هي قصة بوليسية تشبه
تماما القصص البوليسية والألغاز التي أدمنت قراءتها في تلك الفترة ـ
ومازلت حتى الآن ـ لكن البداية الحقيقية جاءت مع نشر أول قصة قصيرة لي في
مجلة الجديد والتي كان يشرف عليها الناقد والمسرحي د . رشاد رشدي ، كان
ذلك في أكتوبر 1980 ومنذ ذلك التاريخ وحتى ظهور أول مجموعة قصصية لي وهى
" حكايات الديب رماح" عام 1987، كنت قد نشرت أكثر من ثلاثين قصة في الصحف
والمجلات المصرية والعربية ، والغريب أنني لم أختر من بين هذه القصص التي
نشرتها ما يكون مجموعتي الأولى ، بل أنني كتبتها كلها خصيصا كي تكون
كتابي الأول .
ولدت في أحد الأحياء الشعبية الموجودة في قلب العاصمة القاهرة ، وهو حي
بولاق الدكرور ، وقد يحدثكم الدكتور شعيب حليفي عن بعض انطباعاته عن هذا
الحي فقد شاهده معي ، وقد أطلق عليه البعض اسم " الصين الشعبية" نظرا
لازدحامه الشديد ، في هذا الحي عشت كل عمري وتشبعت بهذا الخليط من البشر
بما يحمله من ثقافات شعبية مختلفة بعضها ينتمي للجنوب ، والآخر ينتمي
للشمال ودلتا النيل ، وبينهما ثقافة العاصمة ، لقد رضعت من تلك الثقافة ـ
العشوائية ـ وعبرت عنها في كل كتاباتي ، كانت " حكايات الديب رماح " هي
حجر الزاوية في كل ما سوف أكتبه بعد ذلك ، ولقد تساءل الروائي والناقد
الكبير " ادوار الخراط " في دراسته التي قدم بها كتابي الأول : هل هذه
الكتابة حكايات شعبية أم قصص حداثية ؟ وخلص في نهاية الدراسة إلى أنها
قصصا حداثية تمتح من بئر الخرافة الشعبية . لن أقول بالطبع ، أو أدعى ،
أنني كنت على وعى كامل بما أكتبه في تلك الفترة ، بل على العكس من ذلك
،لم أكن منتبها لذلك الكنز الذي بين يدي والذي نبهتني إليه كتابات ادوار
الخراط والكثير من النقاد الذين تناولوا أعمالي فيما بعد ، لقد كتبت هذه
المجموعة بالفطرة وحدها وبوعي ضئيل بأنني أريد أن أكتب هذه الكتابة
بالذات والتي تحمل ثقافتي الوحيدة التي أعرفها آنذاك ، فأنا ابن لهذه
الطبقة الشعبية ولست ذلك المثقف الذي يكتب عنها ، بل منها وفيها ، بهذا
التصور كتبت مجموعتي الثانية " حرب أطاليا" على إن الوعي كان قد تطور
قليلا وبدأ ينظر إلى أبعد من ذلك ، كانت ألف ليلة وليلة ، والسير الشعبية
، وحكايات الجان ، وكتب السحر ، وأهازيج الأطفال ، وكتب الأخبار والرحالة
العرب ، والأساطير ، سواء كانت شفهية أم كتابية ، وتراث المحكي العربي
على اتساعه وامتداده ، هي مجال تجوالي فيما بعد بحثا عن أشكال عربية
للقصة والرواية ، وبالفعل فقد وجدت بعض الأشكال والتقنيات التراثية
القديمة والتي تصلح لإثارة الدهشة الآن ، فمثلا بهرني استخدام " الحارث
المحاسبي" وهو متصوف من القرن الثالث الهجري لشكل التوهم للجنة والنار
وللحياة الأخروية ، وقد قررت استخدام هذا الشكل ، أي شكل التوهم ، في
روايتي الأولى " كتاب التوهمات" التي صدرت عام 1992 ، وفيها طوعت هذا
الشكل التراثي القديم لشروط الحداثة كما أفهمها ، ثم بعد ذلك جاءت رواية
" العاشق والمعشوق" والتي أحدثت بعض التفاعل الايجابي في الأوساط الأدبية
المصرية والعربية على السواء ، وقد لفتت الانتباه ـ وبشدة ـ لكتاباتي .
الأساتذة الأجلاء ، لا أريد الإطالة عليكم ، لكنى فقط أردت استجلاء بعض
الخطوط العريضة والتي تحركت من خلالها عبرعملى خلال ربع قرن في محاولة
لكتابة جادة لا تقلد كتابة أخرى ، لكنها كتابة مسكونة بما ومن سبقها ،
ومرة أخرى فان اجتماعكم اليوم من أجل النظر فيما كتبت هو فى حد ذاته شرف
لي وتاج أضعه فوق رأسي
أشكركم مرة أخرى على ما قدمتموه من أجلى ، والى أن نلتقى ، لكم محبتي .