الكاهن… معنى يتأرجح
كان المساء ينسحب ببطء بين جدران الغرفة، كما لو أنه يجرّ خلفه ذيولًا من وقتٍ متردّد، ويلقي ظلاله الطويلة على الكتب والأوراق المبعثرة، بينما كان صوت ساعة الحائط يتردّد كنبضٍ خافت في قلب المكان. جلست أراقب إحسان، صامتًا، وهو يلعب بالدمى: رجلٌ يرتقي صهوة حصانٍ صغير، في هيئة راكضٍ مسرع، كأنه يحاول اجتياز المسافات الطويلة بأسرع ما يستطيع؛ كأن شيئًا لا يُقال يطارده.
ولم يكن سبب سؤال إحسان الصغير سوى ما ظهر على شاشة التلفاز: مشهدٌ من فيلمٍ لكاهنٍ يتحدّث إلى ناسٍ يقفون أمامه، كأن الصورة نفسها كانت تهيّئ سؤالًا قبل أن ينطق به لسانه.
ثم جاء السؤال بلا مقدمات، كما لو أنه قفز من عمقٍ بعيد: "ماذا يعني الكاهن؟"
لم يكن السؤال غريبًا، لكنّ الغرابة كانت في أنه خرج من طفلٍ لم يتجاوز التاسعة؛ طفلٍ يلامس منطقة لا يصلها عادةً إلا من تراكمت أعمارهم فوق الخديعة.
الكاهن… ماذا أقول له عن الكاهن؟
وكيف أشرح له معنى من يخدع البشر؟
هل أكون صادقًا في الإجابة؟
وهل يمكن لسنّه، وهو بهذه الرهافة، أن يتحمّل ما قد ينكشف من ظلال في العالم؟
اقترب مني إحسان، وعيناه لامعتان كنجمتين في سماءٍ مظلمة؛ عينان لا تزالان تُجرّبان معرفة العالم بلا أقنعة.
"هل الكاهن يعرف كل شيء؟" سأل بصوتٍ خافتٍ لكنه حاد، كأنه يختبر حدود الحقيقة.
ترددت… فالحقيقة ليست بريئة، والكلمات مهما لطفناها تبقى قادرة على جرح الطفل من الداخل.
كان لابد من جوابٍ يلائم إحسانه. فقلت: "ليس كل ما يقال صحيحًا يا إحسان. بعض الكهنة يبحثون عن الحقيقة… وبعضهم يختبئون خلف الكلمات ليُخفوا ما يريدون."
ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها تلك التي تسبق السؤال الأكبر، لا تلك التي تُطفئه.
"وكيف نعرف الصادق؟"
التفتُّ إليه، وأدركت أن كل كلمة ستكون اختبارًا، وأن الحقيقة لا تأتي بلا ثمن.
قلت: "ستعرف مع الوقت، حين ترى أفعال الناس قبل كلماتهم. الصادق يظهر في صمته، في قدرته على ألّا يخدع نفسه قبل الآخرين."
صمتنا قليلًا، وكان الصمت هذه المرّة أشبه بممرٍّ ضيّق يفضي إلى عالمٍ آخر… عالمٍ يدرك فيه الطفل أن الأشياء ليست كما تبدو، وأن وراء الوجوه دومًا أقنعة تتحرّك ببطء.
كان ذلك أول درسٍ له: درسًا عن الحقيقة والخداع؛ عن الشجاعة في أن نميّز قبل أن تبتلعنا الخدع الكبيرة.
وفي الزاوية، ظلّت الساعة تراقبنا، كأنها تعرف أن إحسانًا صغيرًا بدأ يقرأ علامات الخطر… قبل أن يضيع بين وجوه الكبار، وقبل أن يتعلّم أن الأسئلة ليست مجرد كلمات، بل طرقٌ صغيرة تقوده نحو الوعي.
