

بوابة السراب
ضبابٌ متثاقل يلفّ القرية، كأن الأزمنة كلها تجمّعت لتنسج طوقًا خانقًا فوق أسطحها. وفي قلب الضباب، ينتصب بيت يتهامس الناس باسمه: بيت السراب. جدرانه لا تُسكن، بل تتنفس، كما لو أن داخله لا يقبل الحدود.
فقد ظلّ هذا البيت لغزًا معلّقًا في وجدان القرية، يتحدّثون عنه وكأن له إرادة خاصة تفوق حجارة البيوت الأخرى.
أمين، بملامحه التي غسلتها الليالي، كان يمشي في الظلال كما لو أنه يجرّ وراءه ظلالًا تتكلم. عيناه تبرقان بما يشبه رماد الذاكرة، وصوته سرابٌ يتشظى بين النجوم. القرويون يجتمعون حول نارٍ واهنة، يتداولون حكاياته، كأنهم ينسجون منه أسطورة لم تكتمل.
كان الرجل غامضًا في حضوره، لكن حضوره كان حقيقيًا بما يكفي ليزرع في قلوبهم خوفًا وإيمانًا بوجود سرّ لا يُفصح عنه.
غير بعيد عنهم، كان سعيد يبتلع الحكايات كعطشٍ لم يجد ماءه. وفي ليلة بلا قمر، تسرّب إلى بيت السراب. انفتحت الأبواب ببطء، لا على خشب، بل على ارتجاف داخلي، كما لو أن البيت يوافق على دخوله.
لقد استسلم لفضوله، مدفوعًا برغبة في كسر جدار الخرافة، ليتأكد إن كان البيت مجرد وهم أم حقيقة تنبض في قلب الضباب.
الأروقة تتلألأ، لا بضوء بل بموسيقىٍ صامتة. وفي قلبها مرآة ضخمة، تنزف صورًا مشوَّهة، تتشظى كأحلامٍ عند آخر النوم. وحين مدّ سعيد بصره، ترددت همسات في الفراغ:
"كل بُعد يفضح جرحك، وكل انعكاس يقودك إلى نفسك."
عندها أدرك أن البيت لم يكن سوى مرآة كبرى للروح، وأن السراب ليس شيئًا خارجًا عنه، بل انعكاسًا لما يختبئ داخله.
عند انحناءة الصمت، انفتح باب، وخرج أمين. كان وجهه مرسومًا بالبياض، وعيناه تلمعان كبقايا برق. قال:
– لم يكن ينبغي أن تصل. كل من يعبر هنا إنما يُساق إلى مواجهة خياله.
كان صوته بمثابة إنذارٍ واعتراف في الوقت ذاته، وكأن أمين نفسه سبق أن عاش التجربة ودفع ثمنها.
سأل سعيد بصوتٍ مشروخ:
– وأيّ خيال هذا؟
ابتسم أمين ابتسامةً تفتح هاوية:
– عوالمك المتوازية، حيث الألم والفرح يتعاقبان بلا خلاص. اختر: مواجهة نفسك، أو الانصهار في ظلال الواقع.
وبدا له أن هذا الخيار لم يكن يخصّه وحده، بل يخصّ كل إنسان يجد نفسه عند حدود الحقيقة والوهم.
الهواء صار أثقل، والأفكار تتطاير داخله كورقٍ لا يسقط. ثم تقدّم نحو المرآة. لمسها. انفتح ضوء لم تعرفه عيناه قط، ضوء يرشح بألوان لا اسم لها، وأصوات تناديه من أعمق مما ظن أنه ذاته.
كانت تلك اللحظة أشبه بعبورٍ إلى اختبارٍ نهائي: إما أن يتكشّف له المعنى، أو أن يذوب في العدم.
هل كان ذلك العبور خلاصًا أم سقوطًا؟
لم يُعرف. بقيت القرية تحت الضباب، والبيت يواصل تنفّسه، فيما أطياف الذاكرة تتكاثر وتراقص الظلال، تاركةً النهاية معلّقة في هاوية الغموض.
وظلّ الناس يروون الحكاية، كلٌّ على هواه: بعضهم أقسم أن سعيدًا لم يعد، وبعضهم قال إنه عاد بشخصية أخرى، لا يعرفها أحد.