

عابر الزمن
«1»
المنطق سوف يأخذك من ألف إلى باء، والخيال سوف يأخذك إلى أي مكان
ألبرت أينشتاين
«2»
في كل عبارة نكتبها القليل من الحقيقة و الكثير من الخيال أو ربما الأمنيات !
نبال قندس
«3»
لم يكن يوسف يطمح إلى تغيير العالم. لم يحمل شعور البطل، ولا توهّج المغامر. كان موظفًا، تقنيّ أنظمة، يلتزم بالمواعيد ويُنهك نفسه بالتقارير.
لكن الزمن ـ كما سيكتشف لاحقًا ـ لا يحتاج إلى من يُغيّره، بل إلى من يلمسه، ولو بلا قصد.
القصة
في ظهيرة حارّة من ايلول، دخل يوسف ذلك المبنى المهجور في قلب المدينة القديمة. الخرسانة تتنفّس غبارًا، والهواء رطب كأنّ الجدران تُقاوم الموت. كانت مهمته بسيطة: فحص أجهزة إلكترونية تعود إلى عقود مضت، تركها الزمن خلفه كما تترك الذاكرة ما يتآكل في البعيد.
لكن، خلف جدار متصدّع، وجدها.
ساعة جيب نحاسية، ذات بريق خافت كأنها تعيد الضوء إلى نفسها. باردة رغم الحرّ، تنبض كما لو أنها لا تحسب الوقت... بل تُعيده.
لم يُسجّلها يوسف في التقرير. لم يلتقط صورة. لم يُخبر أحدًا. فقط دسّها في جيبه ومضى.
ولم يُدرك أنّ كل ثانية بعدها ستُحسب عليه، لا له.
لم ينم.
الساعة على طاولة المكتب: لا عقارب، لا صوت. مجرّد دائرة زجاجية داكنة تتبدّل عليها أرقام غريبة كل بضع دقائق. وعند اللمس… تيّار خفيف، كدفء يد بشرية لم تمسّه منذ سنوات.
ثم، عند الثالثة وسبع دقائق فجرًا، سمعه: الصوت.
"اختر اللحظة."
جاء من داخله، لا من خارج الغرفة. نظر إلى الساعة، ووجد الزجاج وقد أصبح شفافًا. خلفه شاشة صغيرة تُعرض عليها مشاهد من حياته: ضحكة والدته، حادث السيارة، لحظة الاستقالة من الجامعة... وجوه، مواقف، ندم.
مدّ إصبعه. اختار واحدة.
ثم... اختفى.
استفاق على مقعد خشبي قديم في ساحة الجامعة. نفس اليوم. نفس القميص. نفس الرسالة من والدته: "لا تنسَ أن تمرّ عليّ بعد المحاضرة."
لكن هذه المرّة، لم يقل كلمته الغاضبة للأستاذ. صمت. أجاب بهدوء.
لم يُطرَد. لم ينسحب.
حين استيقظ مجددًا في "واقعه"، كان كل شيء كما هو… تقريبًا. صور جديدة. اسم مختلف قليلًا على بطاقة هويته. ذاكرة ترفض أن تتوافق مع الواقع.
العالم، كما بدا، أعاد ترتيب نفسه — لكن على يد شخص آخر.
ظهر العدّاد على هاتفه:
"الرحلة القادمة متاحة خلال: 6 أيام، 18 ساعة، 42 دقيقة."
وزرّ: "اختر اللحظة التالية."
يوسف بدأ يسجّل كل شيء: وجوه، أسماء، تفاصيل.
حاول أن يفهم: هل هذا واقعه الحقيقي؟ أم مجرّد نسخة مكرّرة من تكرارات لا نهاية لها؟
وفي اليوم السادس، رجل ببدلة سوداء يراقبه من الجهة المقابلة للشارع. ساكن. بلا ملامح. بلا لغة.
ثم... الصوت مجددًا، عبر الهاتف:
"قلتُ لك، لا تُغيّر أكثر من مرّة. أنت تخلق شرخًا. احذر من الأشباح."
في الرحلة التالية، رأى ما لا يُحتمل: مستقبل مدمَّر. رماد. وجوه بلا ملامح. كلمة وحيدة على الحائط: "أخطأت."
رفض الاختيار. سحب إصبعه. لكن الساعة لم تُغلق.
بل بدأت العدّ التنازلي من جديد.
وظهرت العبارة:
"أنت لست الوحيد."
ليلة أخرى، والساعة تعود للظهور. وصوت أنثوي يخترق صمته:
"اسمي ليلى. كنتُ مثلك. والآن… لا أعلم من أنا."
قالت إنها استخدمت الساعة ستّ مرّات. تمامًا مثل يوسف.
وحذّرته: "كل مرّة تصلح فيها شيئًا، يتصدّع شيء آخر."
جاء السؤال على الشاشة:
"هل ترغب بالاستمرار؟ [نعم] / [لا]"
لم يضغط شيئًا. لكن الساعة أجابت بالنيابة عنه:
[نعم]
وانقطعت خيوط العالم.
عندما فتح عينيه، كان في نسخة مقلوبة من مدينته. كل شيء مألوف… لكن مشوّه.
ورأى نفسه. نسخة أخرى منه. تضحك، تتحدث مع ليلى. لا تعرف الجنون. لا تعرف الألم.
لكن يوسف الحقيقي كان مجرّد شبح.
جاء الصوت من الخلف. رجل مسنّ، يشبهه… أو يشبه والده.
قال: "أنا أنت. بعد أن لم أعد أعرف أي نسخة هي الأصل."
يوسف سأل: "هل يمكن إصلاح هذا؟"
ردّ الرجل: "كان يمكن. لو توقفت عند المرّة الثالثة."
يوسف همس: "لكنّي لم أفعل."
فأجاب الآخر، بهدوء: "ولا أنا."
ثم بدأ كل شيء يتلاشى.
في فراغ لا يحتوي إلا الضوء الخافت، والساعة التي تلمع بثقل الغموض، جلس يوسف.
صوت ليلى يتردّد في رأسه:
"هل أنت مستعدّ لتحمّل ما سيحدث لو توقفت؟"
لكن التوقّف لم يعد خيارًا. لا تراجع بعد الانقسام.
هو الآن قطعة عالقة بين نسختين من الزمن، بين ماضٍ حاول تغييره، ومستقبل لا يستطيع احتماله.
الساعة تهتزّ على الطاولة. الضوء أحمر.
الرسالة على الشاشة:
"العبور التالي غير مستقر."
"هل ترغب بالاستمرار؟"
ولا إجابة.
فقط شاشة تنتظر.
وضوء لا ينطفئ.
وزمن لا يعود.
…والشبح ينتظر في الجهة الأخرى.