تاريخ الأدب العربى
وأعجبه إطنابه الفتى وهو يحاور تلميذه سائلا إياه وما أدراك بالأدب العربى، وزهد التلميذ لأستاذه زهداً وأخذ ينظر بعاليه فوق رأس أستاذه وهو الفتى المعلم لفتاه وهو يتحاور مع صديقه التلميذ ما أدراك بالأدب العربى وأنت لم تقرأ عنه؟!
وظهرت على وجه الأستاذ علامات الإحباط واجهد نفسه جهداً وفيراً وأيقن أن فتاه بدا الوجوم بعاليه ووجهه وظن أن تلميذه لم يعى شئ مما سأله فيه وبدأ يعتصر ذهنه قطعةٍ بقطعةٍ وفكرةٍ بأخرى وأخذ يردد على مسامع تلميذه الجديد وما أدراك (بإخوان الصفا)؟ فأخذ الفتى يتنفس الصعداء مما عاود عليه به سؤاله أجدبةٍ أنفتقت الأفكار فى عقله أم تناسى ما درسه فى بحور الدرس، عاود الأستاذ ينظر إلى تلميذه الفتى ولكنه لما استشعر خيبة الامل والوجوم على تلميذه أخذ يلاحقه ويواليه بسؤال أشد صعوبة ما أدراك يا فتى بالأدب وذاتيته وواقعيته فى العصر الحديث والقديم وبعد أن أفنى المفكرين المحدثين والقدامى حياتهم كتابة وفكراً وشعراً ونثراً من أجل الحفاظ على الأسماء التاريخية التى خلدها الأدب العربى، وبعد هذا الجهد المضنى لموسوعة شعراء العرب العظام القدامى الذين صنعوا تاريخ الأدب العربى نجد أن عنائهم ضاع سدى من قلةٍ بسيطة لا تمثل الأغلبية فى أنها لم تحافظ على التراث العتيق وجعلته عرضةٍ لعدم الإهتمام والحفاظ عليه وهذا ما جعل الأدب فى العصر الحديث يتلاشى من عبقه الأصيل الذى من المفترض ان يكون قد استند على مرجعية وتاريخ عتيق وأصيل ناهيك عن الأسماء الشامخة فى الشعر والنثر والمقامات والرسائل التى أغرقت الأدب العربى زادٍ لا ينتهى أبداً مهما نهل منه الناهلين وكتب عنهم المفكرين، فذلك التراث العتيق كان ولا بد بدلاً من أن تحلى المرأة اليوم بالذهب وتتزين به أن تتزين الأشعار بهذا الذهب الخالص فالمرأة ليست بأفضل من الشعر العتيق. فهؤلاء الشعراء بقيمتهم وما قدموه للمكتبة العربية والفكر العربى قليلٍ عليهم ان تكتب اسمائهم بالماس واللؤلؤ والياقوت والمرجان، وليس هناك شك فى أن أعمال الشعراء الكبار لم تكن لتمضى سدى هكذا دون أن يكون هناك تأريخ وتأصيل لما كتبه هؤلاء الشعراء، (فالخنساء) شاعرة العرب الأولى فى الرثاء لم تنل أعمالها القدر الكافى من التأريخ والتدوين فلا يعرف أحداً عن (الخنساء) سوى أنها ترثى أخاها صخراً ولا يعرف أحداً أنها كانت أمٍ وأخت وشاعرة محببة لدى الجميع وكانت تلقب بأم الشهداء. فهى قدمت شعر رومانسى موسوعى حفظته لها الأيام والسنين كما نراه اليوم تراثٍ عتيق، ونسأل أنفسنا من الذى حافظ على تراث هؤلاء العظام؟ وأخذ الفتى يفرك جبينه من شدة ما أثقل به عليه استاذه، ومن فرط الاطناب على مسامعه أخذ يقول لاستاذه: ما أثقل الدرس يا استاذى اليوم، فهلا أجلت درس تاريخ الأدب العربى لصباح باكر حتى أخلد للنوم، ولكن الأستاذ أخذه الوجوم حتى أنه عقد جبينه، واسترسل قائلاً: لما الغد يا فتى ونحن جاهزين لدرس اليوم، وأخذ الأستاذ يبتسم لفتاه ويخرج من بين يديه مجموعة كبيرة من الأوراق، تابعه الفتى وهو يحملق: ما كل هذا يا معلمى، أجابه قائلاً: تلك مجرد أسئلة عابرة سألاحقك بها عندما تحسن الإستماع للدرس، وأظنك يا فتى تكون مخطئاً لو تتعجل الدرس فى سويعات، فالتراث العربى جمع فى سنين عتيقة، وبتعب وعناء من مجموعة من المخلصين، فلا يصح أن أشرح لك الدرس فى ساعة وهو قد أخذ من حياة هؤلاء الشعراء والكتاب الكثير والكثير...
وما افتقده الأدب العربى الحديث التركيز على التخصصات الأدبية فى الركائز الأساسية، مثلاً (الشعر – والقصة – والمسرح)، فالرثاء أين دوره الآن؟ ومن الذى أثرى الحركة الأدبية الحديثة به؟ وهل هناك رواد لشعر الرثاء؟ الإجابة نجدها للأسف وعلى ضوء قراءتنا المتعددة للتراث العربى شعراً ونثراً نجدها مخزية للجبين، حيث أنه لا يوجد فى العصر الحديث شعر للرثاء، وقليل جداً من كتب فى الرثاء والذين كتبوا كانوا يرثون أشخاص بعينهم لمجرد مناسبة أو موقف معين وينتهى، وحتى أن أمير الشعراء (أحمد شوقى) ما كتبه فى الرثاء كان قليل ولمجرد مواقف معينة، حيث انه كان اما ان يرثى أشخاص له مقربين كالأصدقاء والأحباب رحلوا عن عالمه الأدبى أثناء تلك الحقبة الجميلة فى زمن هادئ وتوافرت فيه أركان الإبداع بحذافيرها، وإما أن يرثى حال الأمة من احتلال وقتل وظلم للإنسان، وذلك ما تجلى فى قصائده عن حادثة دنشواى التى تعتبر وصمة عار فى جبين الإحتلال الغاشم للوطن حيث انه قام بقتل واعدام الأبرياء دون محاكمة عادلة، ودون حتى سؤال أو حتى جواب، وربما كان هذا قمة الرثاء وأوجه لدى أمير الشعراء (أحمد شوقى)، حيث تجلى عنده الرثاء من رثاء لشخص أو صديق له إلى رثاء لحال الوطن والظلم الواقع عليه. فحادثة (دنشواى) كانت ملحمة وطنية وكما هى وقعت فى نفس أمير الشعراء (أحمد شوقى) وقعت فى نفوسنا وتركت أثراً، وقد يكون أثر ذلك الظلم مستشعر عندما نقرأ التاريخ المصرى ونمر بتلك المرحلة الحرجة والتاريخ الظالم، فتاريخ (دنشواى) تاريخ أسود وصفحة سوداء ستظل هكذا مدى الحياة لأن التاريخ يسرد أحداث الأمة ومحاسنهم وصفاتهم الجميلة، وهل كانوا عادلين أم ظالمين؟ وأثناء تلك الحقبة لم يكن لشعراً أن يقال والإحتلال استشرى بظلمه كل البقاع.
وقاطع الفتى استاذه اثناء موالته الشرح متعجباً من خروج أستاذه عن التقاليد والمراسم المعلومة لديه عن موضوع الدرس حيث إنه وجه إليه سؤال وكان هو بداية الحديث معه عن الأدب العربى، فسأل الفتى استاذه: ما علاقة حادثة دنشواى بالأدب العربى يا أستاذى؟ العلاقة بين الأدب العربى وحادثة دنشواى ليست سوى ربط بين الأحداث، ولكنك لم تكن لتجعل عقلك يرتب الأفكار جيداً، فما أفسد الفكر والأدب العربى هو ادعاء الفهم وسرعة الحكم على الأمور من منظور واحد، ولو تذكرت فى أول حديثى أنى لم أكن لأقصد حادثة دنشواى سوى أنها فقط مثال للرثاء عند (أحمد شوقى)، وإنه لم يكن هناك رثاء فى تلك الحقبة بالمعنى الذى كان عليه الشعر العربى قديماً (كالخنساء) شاعرة العرب الأولى والرثاء عند الشعراء العرب وخاصة فى مصر أخذ طابع الرثاء الشخصى، وأخذ ينظر الاستاذ الى فتاه فى تدبر وتعقل هادئين لا تذهب بعقلك بعيداً وأنا اتحدث عن درس الأدب فليس لنا من بد سوى أن نحاول جاهدين أن نعمل الفكر العربى ونستعيد صياغة الشعر العربى العتيق.
وأخذ الفتى يحملق فى أستاذه متعجباً، ولما يا استاذى انحدرت القيم الجمالية ولم يعد يوجد شعراء مجيدين مع انهم كثيرين؟
إننا اليوم نتحاور فقط عن الأدب العربى ولا يكفى للحديث عن الأدب العربى كتاب أو كتابين بل نحتاج إلى مجلدات ضخمة، ولكنا نتناول ما يفيدنا فى الحياة الواقعية الأدبية والأسماء التى أثرت فى إثراء الحركة الأدبية، وأجاب الأستاذ تلميذه وهو يفكر بماذا يجيب على فتاه: إن سبب إنحدار القيم الجمالية والادبية اليوم بعد الشعراء والادباء عن الإبداع الحقيقى وأخذهم بعين حقيقة الواقع دون اللجوء الى التحليق فى بحور الخيال والرومانسية. ونجد مثلاً عن ذلك الأدب ليس رفاهية كما تصور البعض فالأدب يحتاج إلى عناء ومجهودات خارقة، ونجد أن الأديب والمفكر الكبير (عباس محمود العقاد) وعميد الأدب العربى (طه حسين) لم تصنع أسماؤهما من فراغ ولكن والحال كذلك هما شقا اسماؤهما فى الصخور. وكانت الظروف التى نشأ فيها الأديبان الكبيران صعاب بالرغم من أنهما كانا فى زمن الحب الجميل والرومانسية.
وسأل الأستاذ وهو يحمل القلم فى يديه: فماذا تعرف عن العقاد كرائد للتنوير؟
أجاب التلميذ استاذه: (العقاد) يا أستاذى لم يكن لينال الحظ الوافر من العبقرية الا بعد أن أمضى جميع أوقات عمره فى القراءة والكتابة، ولولا أن (العقاد) قرأ وهو صغيراً الكثير والكثير لما سمع عنه أحداً يذكر، فالقراءة التى نهل منها (العقاد) وهو طفل صغير حتى مرحلة النضوج هى التى صنعته وجعلته عبقرياً، فالخلفية الثقافية أنغرست فى مرحلة الصبا والنضوج وتظهر قمتها فى مرحلة الكهولة وأن تكون قد نضجت الخبرة الأدبية لدى الأديب والمفكر، فالفكر المستنير فى الإبداع والكتابة لدى (العقاد) لم يعتمد على الحصول على شهادات مدرسية أو جامعية (فالعقاد) علم نفسه بنفسه، وما أفسد الأدب العربى إلا منهجية التدريس فى الجامعة، (فالعقاد) لم يحصل على شهادة جامعية ولم يحصل سوى على الإبتدائية فقط، وفى اعتقادى أن (العقاد) لم يعترف أيضاً بالإبتدائية التى حصل عليها لأنه الوحيد الذى ضرب المثل أن العلم والآداب بصفة عامة ليست بالشهادات، فقد لغى بذلك (العقاد) مرجعية الأديب كى يكون أديباً ليس لزاماً عليه أن يتخرج من كلية الآداب، وعلى هذا نقيس كل الأمور..، وحين فكر مجموعة من أساتذة الجامعة إعطاء ومنح (العقاد) الدكتوراه الفخرية فرد مجيباً إياهم بعزة وكبرياء العقاد المعهودة عنه وهو يتحدث: من هو الذى سيعطينى الدكتوراة والجميع تلاميذ لدى؟ وأخذ الأستاذ يبتسم لتلميذه النجيب، ليس ذلك فقط (فالعقاد) كما قلت وبحق اعتمد على إبداعه وعبقريته وجزءٍ اختلطت فيه مراجع البحث مع ذاتية الفكر الخالص الذى تظهر من خلاله شخصية المفكر والأديب، حيث أنه هناك كتب (للعقاد) ارتبطت بمرجعية البحث، فلا يمكن أن يكتب (العقاد) عن العبقريات مثلاً - والتى أبدع فيها - من فكره الخالص، لأن الشخصيات التى كتب عنها موجودة بالفعل وكتب عنها الكثيرين، ولكنه قام هو بالتجويد وإضافة ما لم يضفه الآخرين، وكان هذا هو سر التميز والتفرد (للعقاد)، فهناك إبداع يختلط بمراجع بحث - كما ذكرنا - وهناك إبداع لا يحتاج إلى مراجع بحث ويكون نابعاً من فكر الأديب أو المفكر، مثال ذلك كتابة القصة وكتابة الشعر، فهى تعتمد على الخيال والإبداع الحقيقى، ومثال آخر الإبداع المختلط بالفكر كثير لدى (العقاد)، حيث أنه قام بتأريخ شخصيات إسلامية أبدعت فى مجال الفكر الإسلامى والعلمى والأدبى، والعبقريات التى كتبها العقاد فى بداية النضوج كانت ابداعات مرتبطة بمصادر بحث ومراجع كتابية وجزء كبير منها أعتمد على الإبداع الخلاق وذاتية الأديب والمفكر، وهنا توقف الأستاذ هامساً فى أذن تلميذه: ألم تنسى الإجابة عن سؤال سألتك اياه فى محض الحديث بداية؟
وأخذ التلميذ الفتى يفرك جبينه بيده اليمنى، أذكر يا أستاذ أنك سألتنى عن (إخوان الصفا) ولكنى لم أقرأ عنهم الكثير، فهى حركة توفيقية بين المسلمين حاولت الإصلاح بينهم.
أخذ الأستاذ يحملق فى تلميذه عظيم ما قلته، وإن كان تظنه قليل فقليلٍ من الفكر يولد الكثير، (فإخوان الصفا) حركة إصلاحية حيث إنهم كانوا أخوة مسلمين يدعون بإخوان الصفا تدخلت لحل مشكلات نشبت بين المسلمين، ولا نريد الخوض فى التفاصيل لأنها تحتاج إلى أكثر من عشرات المجلدات ونحن لسنا بصدد القراءة التاريخية، ولكنا بصدد الأدب التنويرى والعمق الأدبى والأدب المعرفى، ناهيك عن أن تاريخ الأدب العربى أغفل أحداث عظام أثرت فى الحركة الأدبية والإجتماعية سنحاول تفنيدها فى محض وخضم الحديث.
ونعود للحديث عن (العقاد)، قد كان العقاد وبحسب من بداياته الأولى مكافحاً ومناضلاً، حيث أنه عمل صحفياً لضيق ذات الحال ولوفاة والده وهو صغير وكان يعمل فى إحدى المكتبات فى البدايات الأولى لطفولته وصباه وطلب من صاحب المكتبة أن يغلق عليه المكتبة لمدة يومان فى الأسبوع حتى أنه نهل نهلاً عظيماً من تلك الكتب الموسوعية والفكرية فكانت هذه بداية العقاد الحقيقية فكان العقاد القادم من أسوان مسقط رأسه الى شمس القاهرة وظلالها الجميلة. وأخذ الفتى يسأل استاذه من أى الثقافات تكونت إذاً يا استاذى ثقافة العقاد؟ ومن أى الإتجاهات والمدارس الفكرية تشكلت حقيقته؟ فإن ثقافة العقاد مرت بمراحل عديدة والظروف والتاريخ السياسى لمصر وما مرت به من ظروف احتلال وعهد ملكى ظالم وبعده كان عهد الثورة. فإن ذلك التاريخ والتقلبات هى التى أثرت فى شخصية العقاد فتستطيع أن تقول ان العقاد ابن ثورة الثالث والعشرين من يوليو. والذى تأثر بفكرها ومبادئها، وتستطيع أن تقول ان العقاد ابن جريدة الوفد لأنه عمل صحفياً بها حين قدم إلى شمس القاهرة الدافئة من مسقط رأسه اسوان وقد أثبت وجوده كصحفى بارز وكان صحفياً مميزاً فى جريدة الوفد حتى إنه كان المدافع الأول عن جريدة الوفد الغراء، وإبان تلك الفترة كان هناك عمالقة فى الكتابة والأدب وكان فى مصر إبان ذلك طه حسين الذى يعد الأستاذ الكبير ورائد الحركة الادبية وعميد الأدب العربى، فكان العميد طه حسين رمز للجميع فى ذلك الوقت، وكان صالونه الأدبى مفتوح للجميع وخرج من صالونه الكثير والكثير.
وكان إبان ذلك صالون طه حسين يحوى رموز عديدة، وكان العقاد الإبن الروحى لطه حسين وتجلى ذلك عند وفاة احمد شوقى أمير الشعراء أعطى ريادة الشعر للعقاد إعجاباً بأشعاره وإبداعاته، وهنا قاطع الفتى استاذه: ولماذا يا أستاذى لم يخرج شخص كالعقاد؟ ولماذا ظهر العقاد وطه حسين فى تلك الفترة؟
وهنا أخذ يفكر الأستاذ كثيراً ثم تابع تفكيره بابتسامة خفيفة لتلميذه قائلاً: لقد سألت السؤال ولحقت به بالإجابة، فالزمن الذى نشأ فيه العقاد وطه حسين زمن غير الزمن، حيث أنه كانت الحياة فى تلك الفترة قائمة على الحب والإخلاص والتفانى وإنكار الذات، فكان بالرغم من المناظرات الأدبية الحادة بين العقاد وطه حسين، وبالرغم من وجود الخلافات فى وجهات النظر، إلا أن ذلك لم يفسد علاقة الحب والحميمية بين العملاقين طه حسين والعقاد رمزى الأدب والفكر والتنوير، وأعطيك مثالاً لقمة الإخلاص والحب، عند وفاة (مى زيادة) حزن لوفاتها طه حسين والعقاد وأعلنت فى الوسط الأدبى حالة من الحداد، حتى إن كثيراً من الشعراء قاموا برثائها. وتفرد عميد الأدب العربى طه حسين بالكتابة عن (مى زيادة) حيث قام بتأريخ حياتها الإجتماعية والفكرية والأدبية، وإن كان ذلك فى مقالات صغيرة نشرت فى بعض المجلات والجرائد أثناء تلك الفترة. ناهيك عن جو الصفاء الذى كان موجوداً فى تلك الفترة، فكانت الحياة هادئة ولا يوجد صخب وزحام كالذى نراه اليوم، فمصر قديماً وفى تلك الفترة بالذات كان جوها وازدهارها الثقافى يساعد على الكتابة والإبداعات الفكرية، ناهيك عن تأثر (طه حسين والعقاد) بالنزعة الفطرية الدينية والتى ظهرت فى كتابتهما واعمالهما الشهيرة. وأعطيك المثل لتأثر (طه حسين) بالنزعة الدينية هو والعقاد. لقد تأثر (العقاد وطه حسين) بالحركة الوهابية التى أسسها (محمد عبد الوهاب) بالمملكة العربية السعودية والتى تقاوم الخرافات والبدع والتبرك بالأضرحة واتخاذها أماكن للعبادة وقد أثر ذلك فى كتابتهما بالقدر الكبير، وذلك بجانب أنهما كاتبين ومفكرين مسلمان ومن أبناء النيل الصافى الذى ارتوى من نبعه جميع الشعراء والأدباء. فكان (حافظ ابراهيم) شاعر النيل من كثرة ما أحب وعشق نهر النيل وكتب عنه ومن كثرة انه كان متيماً به وكان مصدراً من مصادر الإلهام العديدة. وكذلك شاعر النور أو الكوخ كما أطلقوا عليه (محمود حسن اسماعيل) ابن لذلك النيل الصافى والذى تأثر به شعراء كثيرين، والذى نريد أن نؤكده أن ثقافة الفرد الدينية تكون موجودة معه بالفطرة، فإذا أضيفت اليها ثقافات أخرى ونزاعات دينية جديدة كما حدث مع (طه حسين والعقاد) فإن ذلك يكون شئ عظيماً ويكون ذلك لإضافة جديدة ومحققاً إثراء للفكر والتنوير.
وهنا قاطع الفتى استاذه: بالنسبة يا استاذى لقضية الشعر العربى والأزمة التى يمر بها الشعر الحديث وكيف الخلاص من تلك الإشكالية؟! وأجاب الاستاذ تلميذه: أيها الفتى الشعر العربى يمر بمراحل عضال وكل مرحلة كان لها لون ومذاق خاص، فنحن نرى جميعاً أن الشعر الجاهلى برغم الجاهلية التى كانت موجودة قبل ظهور الإسلام إلا أنه يبدأ من خلال تلك الفترة تاريخ الأدب العربى، حيث ظهرت الأسماء العريقة فى تلك الفترة من الشعراء العظام، حيث أن ما تميز به الشعر الجاهلى الكتابة فى المعلقات وظهرت أغراض الشعر التى أخذت صورة الفخر والتغنى به وإنتماء الشعر الجاهلى لعشيرته، حيث أنه كان أمراً مقدساً، وكان الشاعر هو المدافع عن قبيلته وعشيرته فى تلك الفترة، والشعراء الجاهليين خلفوا لنا فى تلك الفترة المعلقات السبع الشهيرة، والتى تعتبر من روائع الشعر العربى الجاهلى، وكانت تعلق فوق أستار الكعبة تكريماً للشعراء وتقديراً لهم، ومن بينها قصائد (طرفة ولبيد وامرؤ القيس وزهير وابن حلزة وعنترة)، وهذا يؤكد أن تاريخ الأدب العربى يبدأ من الشعر الجاهلى.
هل (العقاد) شاعر مجيد أم كاتب أم صحفى، ما (العقاد) يا أستاذى؟
يا أيها الفتى لو تذكرت لبرهة لعلمت إجابة ما أيقنت به من السؤال، (العقاد) بدأ صحفياً فى جريدة الوفد واتجه للكتابات الدينية التى عرفت بالعبقريات، وظلت جريدة الوفد معتزة به كأفضل صحفى يكتب للجريدة، حيث أنه أعلى من شأن الوفد حينئذ وكان المدافع الأول عنها، وكان العقاد بارزاً فى السياسة وكان فى مجلس النواب مدافعاً ومفكراً، وكان بعدئذ (العقاد) رائداً انضم بكتاباته التحليلية إلى الرعيل الأول مع العبقرى عميد الأدب العربى (طه حسين) على كرسى الريادة كما قيل. وهنا انتبه الفتى الى استاذه ماذا تقصد يا استاذى بقولك كما قيل، يا فتاى المطيع إنك جهدت نفسك جهداً وفيراً لدرس الأدب وحقاً علينا ونحن نتدارس معاً تاريخ الأدب العربى أن أطلعك على حقيقة الأمر، (العقاد) كان شاعراً وصاحب مدرسة الديوان لكنه ليس شاعراً متفرغ لذاتية الشعر كشعر، ومعنى ذلك أنه كان ليس متفرغ للشعر فقط بل كان كاتباً تنويرياً وفلسفياً ومعه (طه حسين) فهؤلاء شغلهم ترسيخ مبادئ معينة جمة، إلا أنهم كانوا يرسخون مبادئ الأدب والفكر العربى، (فالعقاد) لا تستطيع أن نقول أنه شاعر فقط لأننا لو قلنا ذلك لكان لزاماً أن لا يكون كاتباً صحفياً وكاتباً اسلامياً ورائداً للكتابة التنويرية، ومجموع القصائد التى كتبها العقاد كانت كتابات عن مواقف وأشخاص معينة لفترة ما وتخلل ذلك بعض القصائد العاطفية.
ولو أعطى العقاد جميع وقته وفكره للشعر لم نكن لنسمع عنه كاتباً للعبقريات وخلافه من الأعمال، فقام العقاد بالموازنة بين كتابة قليلة للشعر وكتابة موسوعية للفكر والعلوم الإنسانية، كما كتب عن الفلاسفة الإسلاميين أمثال ابن سينا، ومن الكتب البارزة والهامة كتابه (فاطمة الزهراء – رضى الله عنها – والفاطميين) حيث أنه قام بتأريخ شخصيتها الدينية وأنها من آل البيت وعلاقتها الحميمة وحبها للفاطميين، ففى هذا الكتاب سرد تحليلى دقيق للأحداث، وهناك كتابه أيضاً (الفكر الإسلامى) الذى إستنتج من خلاله أن العقل هو الأداة التى من خلالها يثبت الإنسان وجوده وهذا يؤكد وجود الله فى أنه وهب للإنسان نعمة العقل الدالة على بديع خلقه وفى كتابه ذلك كان (العقاد) فارساً بمعنى الكلمة حيث جمع جميع ما قرأ فى الفكر الإسلامى والفلسفى فكان كاتباً تنويرياً فلسفياً والجزء الآخر الذى تفرغ له (العقاد) كتابة العبقريات فخرجت تلك الأعمال وكأنها تأريخ لهؤلاء الصحابة الأجلاء مع أنه كثرت الكتابات حول الصحابة رضوان الله عليهم، من كتاب آخرين أمثال الكاتب الكبير خالد محمد خالد... وآخرين.
وقال النقاد عن شعر (العقاد) أنه ليس به قدراً وفيراً وغزيراً من الخيال، وقالوا عنه إنه لا يمت إلى الشعر بصلة، وقالوا عنه أنه لا يستحق إمارة الشعر التى منحها له إبان ذلك عميد الأدب العربى (طه حسين)، وقالوا عن (طه حسين) انه كان منافقاً للعقاد وإعطائه ريادة الشعر للعقاد بعد وفاة أمير الشعراء (أحمد شوقى) لم تكن إلا مجاملة له على دفاعه عنه فى مجلس النواب أثناء محاكمته على كتاب (الشعر الجاهلى)، فاعتبر (طه حسين) أن (العقاد) المدافع عنه والذى وقف إلى جواره وقفة رجل صارم يدافع عن رفيقه فى ريادة الأدب والفكر، فكان (طه حسين) يحمل له تلك العطاءات بالخير والشكر الجزيلين وكان يحمل له جميلة قام بردها له إثر وفاة أمير الشعراء (أحمد شوقى) بمنحه ريادة الشعر.
وصف (العقاد) الواصفين إبان تلك الحقبة بأنه ليس شاعراً مجيداً، وأن ماكتبه مجرد أشعار مناسبات، ونحن ندافع عن الرجل بأنه لم يكن متفرغاً للشعر لذاتية الشعر انما شغلته الكتابات الأخرى فى الفكر والعلوم الإنسانية والعربية، ولكن ذلك لا يقلل من شأنه كشاعر، إلا أن (العقاد وطه حسين) لا يجب أن يطلق عليهما شعراء للعربية بل هما رائدى الأدب والتنوير فى مصر والعالم العربى قاطبة، فالتنوير يعنى الكتابة فى كل المجالات وكان (العقاد) منشغل بالآداب والفكر التنويرى وكذلك (طه حسين)، فهذا هو الفرق الشاسع بين الشاعر فقط والكاتب للرواية والكاتب التنويرى فى أدب التنوير، (العقاد وطه حسين) لم يتفرغا للشعر فقط وإنما تفرغا لأشياء عظام وأهم، ألا وهى كيف تكون هوية الشاعر وكيف نستعيد تراث وتاريخ الأدب العربى العظيم، وكانا بحق معلمين للفكر والأداب والعلوم الإنسانية، فالشاعر فى ذاتيته كشاعر لا يكتب إلا شعر وقصائد من شتى الأنواع، لكن (طه حسين) تفرد بوضع تأريخ للأدب العربى، وذلك ما نراه واضحاً وجلياً فى كتابه العظيم (حديث الأربعاء) المكون من ثلاثة أجزاء، وتفرد بالجلوس مع كل شاعر لمدة ساعة زمنية، ولو حسبت الوقت وأنت تقرأ الكتاب لوجدت بالفعل أنه قضى مع كل شاعر عربى مدة ساعة، وكأن (طه حسين) معه مستشارين وقراء عديدون يساعدونه فى حساب التوقيتات، وكانت صاحبة الفضل عليه بعد الله زوجته ورفيقة عمره التى ساعدته فى تحضير جميع أعماله " سوزان ".
فالقضية ليست بالألقاب، من هو أمير الشعراء؟ ولكن بالأعمال التى تتحدث عن صاحبها (فحافظ ابراهيم) كان أميراً للشعراء وهو شاعر النيل، وكان موجوداً فى ذلك العهد مع الرواد (طه حسين والعقاد)، لكن عدم إطلاق المسمى عليه " أمير الشعراء " لا يقلل من ذاتيته كشاعر وأديب كبير، والذى يؤكد أن (العقاد وطه حسين) أدباء تنويرين ومفكرين كبيرين أنه خرج من مدرستهم الكثير والكثير... فكان فى صالون (العقاد وطه حسين) (أنيس منصور) الكاتب الصحفى الكبير فهو تأثر بهما، وكان كذلك (نجيب محفوظ) فى مدرسة (العقاد وطه حسين)، وحصول (نجيب محفوظ) على جائزة نوبل تتويج لمدرسة التنوير التى ابتدأها (طه حسين والعقاد)، ولولا أنه تشرب الفكر الفلسفى فى وجدانه وعقله من مدرسة العقاد وطه حسين لما كان نجيب محفوظ يسمع عنه أحد يذكر، نجيب محفوظ كان تلميذاً مطيعاً فى مدرسة العقاد وطه حسين فكان ينقد ويستفيد، ولكن هناك فرق بين النقد والتطاول فالنقد له أسسه وقواعده، وأعتقد أنه فى ظل الإسفاف الحادث اليوم فى النقد الأدبى فإن النقاد الغير مجيدين أكثر من المجيدين، وذلك لأنهم لا يرون النقد الأدبى وهم ينقدون إلا من زاويتهم الشخصية ورؤيتهم الغير متبصرة للأمور. حصول الأديب العالمى نجيب محفوظ على جائزة نوبل تتويج لريادة الآداب والفكر العربى التى ابتدأ مسيرتها عملاقى الآداب والفكر التنويرى طه حسين والعقاد، وسيان من يقول وينقد فى نجيب محفوظ إنه حصل على جائزة نوبل لأنه تكلم فى الذات الإلهية فى رواية (أولاد حارتنا) التى صادرها الأزهر والتى أثارت ضجة حول الأديب الكبير، إذا كان الإنسان خالياً من العيوب فكيف يكون إنساناً إذاً ولكننا لم نقرأ القصة حتى الآن ولا نستطيع أن نحكم على الرجل قبل أن نقرأها، لكننا سمعنا عن شخصية (الجبلاوى) التى تدور عنها فكرة الرواية، الإسقاطات الخيالية على بطل الرواية لا تبرأ كاتبها ولا نريد أن نحمل الرجل الكثير فهو فى ذمة الله ندعو له بالمغفرة والرحمة، وكما قلنا لا يوجد انسان كامل فالكمال لله وحده ونرد على الحاقدين الذين قالوا عن نجيب محفوظ انه علمانى أو كافر وقاموا بتكفيره، هذه القضية لا يستطيع أن يجزم فيها أحد لأن نجيب محفوظ كاتب مصرى أصيل والكاتب الشعبى الأول الذى عشق القهاوى والحارة المصرية، نجيب محفوظ ابن المغربلين وابن حى الحسين وزقاق المدق وخان الخليلى والسكاكينى، نجيب محفوظ ابن القصرين والثلاثية وميرامار، وابن الحضارة المصرية الحديثة والحضارة الفرعونية القديمة.
فكانت أساسيات المدارس الموجودة فى عهد طه حسين والعقاد تعتمد على عدم التخصص والتفرغ، فكان طه حسين والعقاد كاتباً فى شتى مناحى الحياة الأدبية والإجتماعية، وبرغم ذلك فقد استطاع الكاتبين إدارة زمام الأمور، وفى تلك الفترة التى هى زمن الحب الجميل كان موجوداً شعراء من جيل الستينات الذين نراهم اليوم تربعوا على ريادة الشعر فى مصر والعالم العربى تخصصوا فى كتابة الشعر فقط لذاتية الشعر، إلا أننا نراهم اليوم اتجهوا للكتابة التنويرية والآداب بصفة عامة والكتابة الإجتماعية بصفة خاصة عن هموم الناس ومشكلاتهم المادية والإجتماعية. ومن هؤلاء الشعراء الذين ظهروا وتتلمذوا فى زمن الحب الجميل وأصبحوا رواد الآن تنكروا وتنصلوا لحق الأستاذية للأساتذة الكبار الذين كان لهم الفضل عليهم بعد الله، والذين تنكروا من هؤلاء الشعراء المحدثين لحق الأستاذين الأجلاء طه حسين والعقاد لن يستطيعون ان يقللون من شأن أحداً من هؤلاء الكتاب الكبار. المشكلة لا تكمن فى الدفاع عن طه حسين والعقاد أو فى الدفاع عن نجيب محفوظ ولا فى تعلية فرد على آخر. المشكلة التى يجب أن نهتم بعلاجها هى الإحترام المتبادل بين الأدباء كباراً وصغاراً، فكان الأستاذان طه حسين والعقاد قمة الإحترام الفكرى والأدبى برغم خلافاتهم الفكرية الحادة، إلا أنه عند وقت الشدة كانا يساند بعضهم البعض فلذلك أعطى طه حسين والعقاد المثل والقدوة فى أنه يجوز لكل شخص أديب أن يكمل فكر وآراء أديب مثله خاصة إذا كان بينهم إحترام متبادل وإعلاء للقيم الأدبية فالقاعدة التى كانت متبعة فى ذلك الزمن أن يتخصص كل فرد فى مجاله الأدبى والفكرى بفرع من أفرع الكتابة ولكن فى النهاية انطلق هذا الأديب أو الكاتب من أين؟ أنطلق من الصالون الكبير صالون العقاد وطه حسين وكاذب من يزايد على أن نجيب محفوظ ليس من صالون العقاد وطه حسين. والذى نقصده أن هناك شرايين وأوردة أمتدت من قلب واحد متدفق بالدماء والحب والحياة هذا القلب هو الذى جمع الأدباء والمفكرين فى ذلك الزمن لأن يكونون شيئاً عظيماً ويقدمون أنفسهم لعامة القراء بطريقة يحترمون فيها أنفسهم ويحترمهم المجتمع، فى يوم من الأيام كما يحدث الآن يذكر تاريخ الأدب العربى أن هناك عظيمين فى الآداب والفكر العربى هما طه حسين والعقاد وآخرين لا يتسع المجال لسرد سيرتهم الأدبية.
إن ما تستطيع أن تقوله الآن ماذا نقرأ فى الآداب والفكر العربى لنجدد وننشط من ثقافتنا الإبداعية ونخلق كوادر ابدعية وفكرية جديدة يمكن أن تمثل نواة للإنطلاق نحو أدبٍ وفكراً خلاقين؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول أن القراءة تنقسم على أنواع معينة قسم منها يمثل القراءة العادية لعامة الناس أى قراءة الثقافة العامة، وقسم منها يمثل القراءة المحترفة يمتطى جيادها الفئة الموهوبة ولكن ليست لوصف الإجادة المطلوبة للأدباء المميزين فوق الإحتراف.
فكثيراً من ادباء محترفين ووصلوا الى درجة الحرفية ولكنهم لم يتوصلون إلى درجة الإبداع الحقيقية أى فوق الإحتراف. والقراءة قسم منها كذلك قراءة العمق الأدبى التأصيلى والتأريخى للأداب والفكر بصفة عامة وقراءة العمق الأدبى هى من أصعب القراءات لأنها تعتمد على إجادة القراءة لفوق الدرجة الحرفية وهى تعتمد فى المقام الأول على القراءة المستفيضة والتحليل النقدى والفلسفى العميق لأفكار الآخرين مفكرين وأدباء ولكى تقرأ جيداً وتستفيد لا بد أن نعرف ما هو الكتاب الذى نقدم عليه ونشتريه أو نستعيره من المكتبة العربية الذخيرة بكتب التراث لموسوعة الشعراء العظام ولكى نقرأ لا بد أن ننفض الغبار عن كتب التراث القديم والحديث وأن نحاكى التراث العربى القديم والحديث فموضوعنا الذى يجب أن نركز عليه هو أن نقرأ لشعراء العرب جميعهم وأن نحاكيهم أى لا نقرأ لهم دون أن نحاكيهم والمحاكاة تختلف عن التقليد الأعمى، المحاكاة أن أتعمق فى الفهم التحليلى وأعرف فكرة الشاعر أو الأديب عن الموضوع وأتحدث عنها بأسلوبى أنا دون أسلوب الشاعر.
وهنا أخذ الفتى يسأل أستاذه لا أفهم شئ يا أستاذى مما تقول؟ وأخذ الأستاذ يبتسم لفتاه قائلاً: أنا لا أتحدث فى أشياء صعاب أنا أعطيك المثال لكيفية المحاكاة والمثال على ذلك موجوداً وواضحاً، فشعر الرثاء مثلاً من الذى يتميز به فى شعراء العرب لا يوجد غير شاعرة العرب الأولى الخنساء هى أشهر من كتب فى الرثاء واشتهرت بالكتابة عن أخيها صخر فما العيب وما المانع أن نتخذ من موضوع رثاء الخنساء لأخيها صخر فكراً للكتابة الشعرية الموسوعية ونعد قصائد عن الخنساء وهى ترثى أخاها صخراً ولكن كل بأسلوبه الإبداعى والأدبى فهذا هو من المحاكاة وهذا هو الفرق بين النقل والتقليد الأعمى، فالمحاكاة للتراث التى نقصدها أن ننفض الغبار عن كتب هؤلاء الشعراء العظام ونستعيد أمجادهم العظمى بأن نتناول سيرتهم بشكل حضارى ورومانسى يليق بسيرتهم العطرة، ولعل فى محاكاة التراث فرصة للقراءة الجيدة وكذلك فرصة للكتابة عن هؤلاء الشعراء والكتاب والمفكرين الذين أثروا الحياة الأدبية والفكرية إبان تلك الحقبة التاريخية لتاريخ الأدب العربى ولنتناول كمنهج دراسى فى حياتنا اليومية دراسة وقراءة مجموعة من الشعراء الذين أثروا الحياة الفكرية والأدبية مثل شاعرة العرب الأولى فى الرثاء الخنساء والمتنبى وامرؤ القيس وجميل وبثينة وعنتر وعبلة وزهير بن أبى سلمى والأخطل الكبير والأخطل الصغير وأن نركز على قراءة الأدب الحديث ومقارنة ذلك بالفكر العربى القديم ومن هو الذى تميز فى تلك الموسوعة الفكرية والأدبية للشعراء والأدباء المحدثين ومن هو الذى قام بالتجويد منهم وماذا قدم للتراث والفكر العربى القديم والحديث من محاكاة تأريخية وتأصيلية؟ فنحن لا نريد أن نقرأ أى كتاب إلا أن نعرف القدر الذى نستفيد منه قبل القراءة وبعدها فهل هناك فائدة تذكر من القراءة أم لا؟ وهل هذا الكتاب الذى نقوم بقراءته سيعدل من أفكارنا الأدبية نحو شخصية الاديب أم لا؟ وهل هناك إضافة تذكر للفكر العربى فى قراءتى لأى ديوان لكبار الشعراء وصغارهم أم لا؟ ومن جماع ذلك نحن نتحدث عن أدب وفكر إبداعى حقيقى.
وأخذ يتحدث الأستاذ عن تاريخ الأدب العربى موالياً الحديث مع تلميذه من حيث نشأته وتطوره قائلاً: تاريخ الأدب العربى هو التأريخ لنشأته وتطوره والعصور التاريخية التى ألمت به، ويتضمن أهم أعلامه من الشعراء والكتاب، كما يتناول الأغراض الأدبية كالشعر والقصة والمسرحية والمقامة والمقال، والظواهر الأدبية كالنقائض والموشحات وأسباب الهبوط والصعود والإندثار، ويضم سيرة الشعراء وأخبار وطرائف الأدباء، ويمكن تقسيم تاريخ الأدب العربي تبعاً للعصور التي توالت عليه بدءاً بالعصر الجاهلي ثم العصر الإسلامي اللاحق وحتى الآن، فالشعر في الجاهلية من أقدم آدابها لكن أكثره غنائى وحداثى، والأمثال كانت جزءاً مهماً من ذلك الأدب فى تلك الفترة، والذين وضعوا الأدب الجاهلي هم من عرب شبه الجزيرة العربية، لكنهم لم يكتبوا سوى المعلقات وكان يروى شفاهة مما كان يعرضه للإندثار والتحريف والتبديل والخلط.
انتشر الأدب العربى بسبب انتشار الإسلام بالقرن السابع وكانت اللغة العربية قد انتشرت تحت لوائه لأنها لغة القرآن، ولا سيما بالمشرق والمغرب والأندلس حيث تأثر المشارقة والمغاربة بالثقافة والعلوم الإسلامية، فكان الذين وضعوا الأدب العربى فى ظلال الحكم الإسلامى هم من أجناسٍ شتى، فمنهم العربى والفارسى والتركى والهندى والسورى والعراقى والمصرى والرومى والأرمنى والبربرى والزنجى والصقلى والأندلسى.. وكلهم تعربوا ونظموا الشعر العربى، وأدخلوا أغراضاً شعرية مستجدة وألفوا الكتب العربية فى شتى العلوم.
كلمة أدب فى الجاهلية كانت تعنى الدعوة إلى الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم يعنى بها التهذيب والتربية، ففى الحديث الشريف " أدبنى ربى فأحسن تأديبى "، وفى العصر الأموى كان يتصف الأدب بدراسة التاريخ والفقه والقرآن والحديث وتعلم المأثور من الشعر والنثر، واستقل الأدب فى العصر العباسى، وأخذ مفهوم كلمة الأدب يتسع ليشمل علوم البلاغة واللغة، وفى العصر العباسى الثانى علم النحو واللغة وأهتم بالمأثور شرحاً وتعليقاً، حالياً تعنى كلمة الادب الكلام الإنشائى البليغ الصادر من عاطفة والمؤثر فى النفوس وفى عواطف القارئ والسامع له، ونجد الظواهر الأدبية تتداخل فى العصور التاريخية، فالأدب الجاهلى كان متأثراً بالحياة القبلية والعصبية والإجتماعية والعقائدية فى الجاهلية، لذا نجد أغراض الشعر الجاهلى كما فى المعلقات ودواوين شعراء الجاهلية هى الفخر، وكان انتماء الشاعر الجاهلى لعشيرته كان أمراً مقدساً ليتحصن من صراع الحياة البدوية المريرة، وكذلك الحماسة والوصف للطبيعة حولهم والغزل والهجاء، وكان سلاحاً ماضياً فى قلوب الأعداء فهم يخافون القوافى والأوزان أكثر من الرماح والسنان، وقد صور الشعراء فى الجاهلية بيئتهم بصدق وحس مرهف وعاطفة جياشة تتسم بالصدق التعبيرى والواقعية التصويرية التى امتزجت بخيال الشاعر وأحاسيسه، وكان لعرب الجاهلية حكمهم وأمثالهم وخطبهم ووصاياهم، وهذه الأعمال تعتبر نثراً مرسلاً أو سجعاً منثوراً، وكان الشاعر فى كل قبيلة المتحدث الرسمى باسمها والمدافع عنها والمعدد لمناقبها ومدعاة لفخرها وافتخاره بها فى قصائده التى كانت تروى شفاهةً عنه، ولا سيما التى كانت تتناول أيام العرب ومعاركهم.
وكانت القصيدة تتكون من خمس وعشرون إلى مائة بيت، وكان الشاعر يبدأ قصيدته بوصف الديار والأطلال، ويصف فيها محبوبته وناقته ومغامراته، لأن العرب ارتبطوا بأرضهم وقبيلتهم، وكان الإرتجال فى القوافل التجارية فى رحلتى الشتاء والصيف، او فى الهجرات وراء الماء والكلأ إلى مدى لا يعرف، ولا سيما لو كان للمكان ذكرى حلوة تجعل الشعراء يحنون إلى أوطانهم وضروب قبائلهم، وهذا الحنين جعل الشعراء الجاهليين يبدأون قصائدهم بالهجران لديارهم ومضاربهم ودروبهم ومسالكهم، وصوروا فى شعرهم حيواناتهم فى صور شتى.
خلف لنا الشعر الجاهلى المعلقات السبع الشهيرة والتى تعتبر من روائع الشعر العربى الجاهلى، وكانت تعلق فوق أستار الكعبة تكريماً للشعراء وتقديراً لهم، ومن بينها قصائد طرفة ولبيد وامرؤ القيس وزهير وابن حلزة وعنترة.