السبت ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٩

جدلية وعي الذات

علي محمد اليوسف

فلاسفة الوجودية الملحدة ممثلة بسارتر، فهمت وعي الذات مثاليا مغايرا للمادية، في تغييبها حمولتها الديناميكية في وجوب وعي الذات جدليا بالموضوع كما اراده ونادى به هيدجر، وان ماهية ادراك الذات لوجودها الحقيقي لا يتم من دون ديناميكية تمنحها حضورها الجدلي بالحياة. كما ذهب هوسرل ان يكون وعي الذات في ماهيته هي حمولته (القصدية). ليلتقي بفهم هيدجر ويفارقان كل من ديكارت وسارتر رغم اختلاف هذين الاخيرين ايضا، اذ كما اراد وعبر عنه ديكارت في فهمه تحقق الوجود الانساني بالفكر المجرد، كذلك فعل سارتر في تفسيره وعي الذات مثاليا رغم الصلابة الوجودية المادية التي يحملها سارتر، وسيأتي توضيح جوانب اشكالية اكثر من واحدة في فهم وعي الذات فلسفيا.

وهذه التفسيرات المختلفة المتباينة هي ادانة لكوجيتو ديكارت في تفسيره وعي الذات في قراءة (انا افكر اذن انا موجود) التي تعتبر تفسيرا مثاليا ابتذاليا في ربط ديكارت وعي الذات بالفكر المجرد الذي لا وجود تموضع مادي له, في وعي الذات لنفسها كحقيقة وجودية في عدم تعالقها مع جدلية الموضوع، هذه الجدلية المفتقدة عند ديكارت التي لا تعطي كلا من الذات والموضوع ادراكا وجوديا حقيقيا لكليهما من خلال التناوب التبادلي في التأثر والتأثير, ان كان على صعيد الفكر او صعيد واقع تموضعهما في تحقيق كل منها وجوده المتعالق بالاخر جدليا. هو ما اراد هوسرل ومن بعده هيدجر تصحيحه وجوديا، وفي اخفاق سارتر ان يكون له تفسيرا واضحا في تجاوزه لمقولة ديكارت رغم ماديته الماركسية.

اشكالية وعي الذات:

رغم وجودية سارتر الصلبة التي تستقي الكثير من اصوله المادية الماركسية التي خرج عليها سارتر الشيوعي، في تحديده القطعي ان وجود الانسان يسبق كل ميزة متفردة معطاة فطريا او غريزيا او مكتسبة عند الفرد، وفي اعطائه الانسان حقه الطبيعي في مطلق الحرية المشروطة بمسؤولية الانسان ايفائها حريته الفردية حقها على صعيدي توكيد حقيقته الانسانية كذات تعي وجودها في كل معانيها، وفي حمل هذه الذات جحيم الاخرين في الفهم الوجودي المشترك بينهما في محمولات الحرية المسؤولة, سعيا وراء تحقيق وعيه الاجتماعي وتوكيد ذاتيته الانسانية.

فسارتر لا ينكر على الانسان في وجوده المازوم باكثر من مازق تمليه عليه الحياة وتسلبه وجوده الحقيقي, وقرائن قهرية تلازمه عديدة مثل القلق, ولا معنى الحياة، والفزع، وآخرها خلاص الموت. رغم ذلك يعتبر سارتر الانسان اولا واخيرا، فرد ضمن مجتمع لا فكاك منه ولا استغناء عنه، ويتكامل وجوديا معه.حتى لو كانت علاقته بالمجتمع نوعا من الاندماج في الكلية المغيبة عن ادراك وعي وجودها الاصيل في الحياة على حد تعبير هيدجر. او بقي فردا اغترابيا وجودا عن الناسية في الحياة والمجتمع الذي يمارس معظم انشطته في حياة مليئة بالرتابة في تامين حاجاته البايلوجية فقط . بتلخيص العبارة فان سارتر رغم وجوديته المادية التي يستقي الكثير من افكاره من اصوله الماركسية، انما انزلق في المثالية حين سعى تغييب ديناميكية الوعي الذاتي في الحياة التي رفع رايتها هيدجر للافلات من مثالية ديكارت في اعتبار وعي الوجود ناتج عن التفكير المجرد. ان سارتر كما اشرنا سابقا الغى من قاموسه الفلسفي الوجودي اهمية فاعلية الانسان وارتباطه بالمجتمع في اضفاء نوع من الحرية المطلقة للفرد، في تضاده مع الماركسية, لتقتفي تاثيره هذا غالبية الفلسفات المثالية التي جاءت من بعده لعل في مقدمتها الفلسفة البنيوية في خروجها الفظ على قوانين الجدل المادي وقوانين المادية التاريخية، في العمود الفقري للماركسية كتاب راس المال الذي استهدفه التوسير بكل تشنيع فلسفي ابتذالي, ومثله وقبله فعل شتراوس في الخروج على الماركسية في كتابه (نقد العقل الجدلي).

بماذا تميز هيدجر في اطروحته حول فهم تعالق وعي الذات بوعي الموضوع تناوبيا؟، بمعنى ان الذات لاتستطيع ادراك نفسها وخصائصها الا بتعالقها بموضوع ما مغاير لوجودها، وكذلك العكس بان الموضوع لا قيمة حقيقية له ما لم تدركه ذاتا يحقق هو الاخر وجوده بها وفي تكامله معها.

هيدجر يؤكد فهمه الوجودي في تاصيل الانسان وعيه الاصيل لذاته في تعالقه مع الموضوع والعالم الخارجي بنوع من الالتزام الحر الذي وصفه بالديناميكية في التبادل الجدلي التاثير بالموضوع او العالم الخارجي,ولا يكتفي هيدجر بهذا الدور الفاعل في وعي الذات نفسها من خلال الاندماج بالكلية الاجتماعية.

اذ عمد الى توضيح اكثرفي فهمه الوجود المتمايز عن سارتر نجده بقوله: (الانسان ليست ذاتا منغلقة على نفسها، وانما هو وجود او وعي متجه بالضرورة القصدية نحو موضوع ما,واتجاه الوعي نحو الموضوع، وبهذه القصدية التي اشار لها هوسرل,يقول هيدجر: (اتجاه الوعي نحو موضوع, ليس وعيا بذاته وحسب، وانما(هو وجود حركي دائب يترتب عليه مباشرة ان يتجاوز الانسان ذاته ليتجه نحو شيء ما) (1).

فالوجود الانساني عند هيدجر هو وجود مفارق لذاته (ليتجه نحو العالم من حوله، وبمقتضى هذه الضرورة القصدية الوجودية، يتقرر وجود العالم الذي يدركه الوعي, ويستحوذ عليه – اي الوعي هو الذي يستحوذ – لذا يكون هذا النوع من وعي الذات انه وجود – في – العالم)(2).

ورغم ان سارتر اعتبر كوجيتو ديكارت في وعي الذات وتحقق الوجود الفردي، يعتبر مثالا لعدم تفعيل الذات باكثر من التفكير المجرد الذهني حين اكد (ان الوعي الذاتي لا يحدث الا بتمثله شيئا غريبا عنه، فالوعي يولد موجها الى كائن ليس هو اياه,). (3)ويذهب حبيب الشاروني ان سارتر يريد تحويل كوجيتو ديكارت الى قصدية وجودية دونما التضحية بالكوجيتو الديكارتي من جانب، ودون ان يضحي بالقصدية من جانب اخر. من المصدر المشار له ص 108.

بهذا الفهم اراد الشاروني التسويغ لسارتر حق الجمع بين متناقضين لا يربطهما جدل، فلا يمكننا ربط كوجيتو ديكارت بالقصدية التي هي من اختراع هوسرل الا ضمن علاقة جدلية تجمع بين نقيضين يتحتم على احدهما الغاء الطرف الاخر في انتاج الظاهرة الجديدة المستحدثة. لذا يكون الربط بين الكوجيتو والقصدية تلفيق فلسفي غير صحيح حتى لو ان قائله سارتر.ان وعي الذات لا ضير ان يكون تحققه ضمن الجدل مع الموضوع او احدى مظاهر الحياة، باشتراط تتحكم به قوانين الديلكتيك انه ليس تصارع افكار مجردة وانما تصارع تضاد من اجل البقاء للاصلح ضمن قوانين الطبيعة الجدلية في تخليق وانبثاق عن كل تضاد جدلي ظاهرة مستحدثة جديدة او واقعة مستحدثة تحمل ايضا تضادها الداخلي وهكذا.

من الجهة الاخرى ليس هناك اشتراط تمرير، ان رغبة سارترفي تسويغ الجمع بين ديناميكية هيدجر، وقصدية هوسرل في تاكيدهما اخراج كوجيتو ديكارت من مازقه المثالي، في جعل وعي وجود الذات الحقيقي انما يقوم على ديناميكية ذاتية عند هيدجر، لا تتقاطع مع قصدية ذاتية عند هوسرل، وتنتهي المشكلة في صالح توفيقية سارتر. لا نعتقد ان مثل تلك الاشكاليات الفلسفية يمكن حلها في رغبتنا ان تكون كما نرغب فقط لا بما يرغبه التفكير الفلسفي.

الهوامش:

1. حبيب الشاروني /فلسفة سارتر ص 56

2. نفس المصر ص67

3. نفس المصدر ص 94

علي محمد اليوسف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى