

جورج عبد الله وزياد الرّحبانيّ قائدان لأوركسترا كفاحيّة فنّيّة
كأنّي بالرّفيق المناضل الأمميّ، الأسير المحرّر جورج عبد الله والعائد من الباستيل الفرنسيّ القبيح إلى لبنانه الجميل بجنوبه وشماله، وعكّاره وصنّينه، وبحره ونهره، كأنّي بجورج عبد الله قد بعث رسالة رجاء صوتيّة قصيرة إلى الرّفيق الفنّان والمناضل الشّيوعيّ، المتماوت زياد الرّحباني يقول فيها: "لا تمتْ حتّى أعود، ولكن تماوت كما شئت، ففيك لو متَّ ما لا يموت". ومات زياد الرّائع الجميل جسدًا بعد يوم واحد وبقي الفنّ السّاطع والمعاني والدّلالات العظيمة والحسّ الثّوريّ والنّقد الجريء اللّاذع، كلّ ذلك ظلّ خالدًا، وكأنّ زياد كان يدندن وهو في الفصل الأخير من مسيرته الفنّيّة الختاميّة: "أنا صار لازم ودّعكن وخبّركن عنّي"، يوم السّبت، 26 تمّوز، سنة 2025 مات زياد قبل أن يردّ على صوت جورج المنبعث من محبّة الوطن والمقاومة ورسوخ المبادئ الّتي لم يتخلّيا عنها، ولمْ يلتقِ جورج عبد الله بزياد الرّحبانيّ، فبين حلول الأوّل يوم الجمعة 25 تمّوز، سنة 2025 إلى ربوع لبنان وموت الثّاني فوق أرض لبنان ورقوده في باطن ترابها لم يمرّ إلّا ساعات قليلة، كاللّحظة الّتي تفصل بين عبق روح الحياة وسكون ريح الموت. اللّحظة الخالدة الّتي لا تموت وفق جدليّة الحياة: نفرح ونبتهج للولادة ونحزن ونبتأس للموت، نفرح لتكسير قضبان السّجون وانطلاق الحرّيّة ونحزن لسجن بلا آخر، وفيروز الأمّ الّتي ما مَن يعزّيها تنعاه بصمت: "دايمًا بالآخر في آخر، في وقت فراق".
لكلّ سجين باستيله الّذي سيسقط وباستيل جورج عبد الله وسجّانوه ساقط منذ فتح أبوابه لاستقبال المناضل الكبير وظلّ ساقطًا حتّى سنة 1999، وحتّى سقوط الحكومة الفرنسيّة بين براثن الإمبرياليّة الأميركيّة وأنياب الصّهيونيّة الإسرائيليّة، وما فتئوا يسقطون في فرنسا رئاسة وحكومة وتشريعًا وقضاء، حتّى انسداد أبواب السّجن من وراء الأسير المحرّر جورج عبد الله، يوم 25 من تمّوز، سنة 2025، وهو الشّهر ذاته الّذي هدم فيه سجن الباستيل الفرنسيّ سنة 1789، قبل 236 سنة، ها هو باستيل جديد يهدم، إنّها الجدليّة مرّة أخرى: السّلطة والثّورة. فإلى الجحيم أيّتها السّجون الّتي تمثّل السّلطة الحاكمة وظلمها وجبروتها وهدمها يمثّل رمزًا للمقاومة والثّورة وشرارة لاندلاعها ونموذجًا للحرّيّة الّتي هي الطّريق العريض والمشرّف للكرامة.
وبين الباستيليْن بساتيل لا تعدّ. ما أجمل لغتنا العربيّة بجمال حروفها ورقّة ألفاظها وجزالة معانيها وانسياب كلّ ذلك في سلسبيل الأحاسيس وجداول التّعابير، فتعال يا جورج عبد اللهّ! وتعال يا نيلسون مانديلا! وتعال يا سبارتاكوس! وتعاليْ يا جميلة الجزائر! وتعاليْ يا جان دارك فرنسا النقيّة من كلّ رجس! تعال يا بلال العبد الحرّ ويا الحسيْن ويا غاندي وهوشي منّه! تعالوْا جميعًا يا هادمي البساتيل نحوّلها إلى بساتين جمال وجلال نحوّلها غدًا للحياة ومستقبل أطفال، تعالوْا نجعل من البساتيل بساتين ومدارس لا تحتاج إلى سجّان ولا شرطيّ ولا حارس.
ترك نيلسون مانديلا النّاصع الأسود باستيله الأبيض العنصريّ المهدوم سنة 1990 بعد أن قضى بين جدرانه في أربع مناطق، في جنوب أفريقيا 28 عامًا، لقد علّمه عالم السّجن كيف يقاتل من أجل حرّيّته وحرّيّة وطنه المظلوم، لذا كان يرى بعضًا من الرّضا: "يمنحها السّجن كنقطة سكون في هذا العالم المتحرّك للسّجين، إنّه الوقت الطّويل للتأمّل والتّفكير"، وبعد هذه الفترة من العذاب المتواصل رأى مانديلا نور الحرّيّة وتحوّل إلى نموذج ورمز للأحرار في كلّ العالم، وتوّج منتخبًا كأوّل رئيس أسود لجمهوريّة جنوب أفريقيا بعد هدم باستيل الأبرتهايد وقصف عمر نظام الفصل العنصريّ الوحشيّ.
لا يقلّ جورج عبد الله كقيمة وقامة إنسانيّة وكفاحيّة عن نيلسون مانديلا، ولا كسجين مظلوم في سجون العنصريّة والتّوحّش، بل يفوقه بثلاث عشرة سنة في غياهب السّجن، بعد أن انتهت فترة حكمه سنة 1999، ولكنّ القضاء الفرنسيّ "العادل والدّيمقراطيّ" انصاع بجبن وبخيانة للعدالة تحت ضغط سّياسيّ أميركيّ وصهيونيّ، ومرّة أخرى أصدرت المحكمة الفرنسيّة قرارها بالإفراج عنه يوم 15 تشرين الثّاني، سنة 2024، وأفرج عنه في يوم 6 كانون الأوّل لنفس السّنة، وتأخّر التّنفيذ ليوم 25 تمّوز، سنة 2025. وقد رفض جورج عبد الله أيّ شروط تغري تجربته أو أيّ قيود تحدّ من عنفوانه وشوقه للحرّيّة، حتّى صار أقدم سجين سياسيّ في العصر الحديث، وخرج وهو يردّد حكمته الثّوريّة: "أربعة عقود هي فترة طويلة، لكن لا تشعر بها متى كانت هناك ديناميّة للنّضال"، وبكلّ تواضع وثقة بالذّات وبكلّ إدراك لحتميّة التّاريخ كان يعرّف نفسه: "لست سوى مقاتل عربيّ، لست مجرمًا، إنّ المسار الّذي سلكته هو بعض ما أملته عليّ الإساءات لحقوق الإنسان الّتي ترتكب في فلسطين"، وبروح ثائرة لم تنكسر حمل شعار مواصلة الكفاح والمقاومة بعد لحظات من خروجه إلى الحرّيّة عازمًا على المضيّ قدمًا: "لن أندم، لن أساوم، سأبقى أقاوم".
ما ميّز السّلوك السّياسيّ للدّولة اللّبنانيّة رئاسة وحكومة هو النّفاق والجبن والتّقاعس والتّغاضي عن وصول المناضل اللّبنانيّ الكبير جورج عبد الله واستقباله كقيمة لبنانيّة سامقة، كأرزة وارفة الظّلال والنّضال، كقامة يشمخ بها لبنان، كلّ لبنان! آه يا زياد الرّحبانيّ لو كنت حيًّا لركبت "عَ هدير البوسطة" وكنت هناك تقبّل أولى الخطوات الّتي لامست بها قدما جورج عبد الله تراب الوطن الكبير، وأنتما من أعظم شخصيّات لبنان، إنّك على الأقلّ أعظم من كلّ رؤساء الجمهوريّة اللّبنانيّين. جورج عبد الله كان يجب أن يستقبل استقبال الأبطال والأحرار الّذين أفنوا شبابهم وأعمارهم من أجل عزّة لبنان وكرامة لبنان وحرّيّة فلسطين والأمّة العربيّة، جورج عبد الله هو الرّجل السّياسيّ العملاق والبطل، هو فيدل كاسترو اللّبنانيّ، هو نيلسون مانديلا لبنان، وهو الأوْلى من كلّ لبنانيّ آخر أن يكون رئيسًا للجمهوريّة اللّبنانيّة المقاومة العصيّة أمام الخروقات والاختراقات والمطامع الإسرائيليّة والإملاءات الأميركيّة والغربيّة والعربيّة الرّجعية الخيانيّة والمتساوقة حذوك النّعل بالنّعل مع مشاريع الهيمنة الصّهيو - أميركيّة. ينعون زياد الرّحبانيّ بمعسول الكلام وبوارِم العبارات الجوفاء وبالمطالبة بحصريّة السّلاح، ولا يدركون أنّ زياد رفيق جورج وطريقهما في السّياسة والفنّ واحد، عُراه لا تنفصم، وجورج الثّائر حبيب زياد الفنّان الثّوريّ، وكلاهما رضعا من حليب الأرز اللّبنانيّ الطّاهر فنًّا وموسيقى ونقاء، سياسة وطهرًا وكفاحًا. وشجاعة لا تلين لها قناة ولا تحدّها حدود في هذه الرّحاب العربيّة والإنسانيّة.
لقد كان الفنّ الزّياديّ الرّحبانيّ شريكًا في حركة المنظّمات المطالبة بالإفراج عن جورج عبد الله، كان زياد عودًا رنّانّا يقرع بطبوله الكفاحيّة المقاتلة باب الخزّان، باب الباستيل الجديد، إلى جانب الأصوات: الرّابطة الفرنسيّة لحقوق الإنسان، الاتّحاد اليهوديّ الفرنسيّ من أجل السّلام، جمعيّة التّضامن الفرنسيّة الفلسطينيّة، مركز القدس للمساعدة الإنسانيّة وغيرها من أصوات الأحرار والأحزاب والهيئات والحركات المكافحة في العالم. كان يوم الإفراج عن جورج عبد الله يوم عرس وطنيّ وكفاحيّ وإنسانيّ غنّت له كلّ الأصوات الحنونة والمحبّة للحرّيّة، للكرامة والسّلام.
كان جورج عبد الله وكان زياد الرّحبانيّ شيوعيّيْن ماركسيّيْن، وقفا بكلّ ما امتلكا من قدرات مادّيّة وروحيّة مع المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللّبنانيّة، ووقف جورج قائدًا لأوركسترا كفاح الفصائل المسلّحة اللّبنانيّة المقاومة لإسرائيل، كما وقف زياد قائدًا لأوركسترا الأفراح بالأفراح المقاومة لكلّ فنّ مبتذل وهابط، إنّهما أوركسترا من طراز فنّيّ فريد وجديد.
بفارق أربع سنوات ولد جورج عبد الله سنة 1951، قبل زياد الرّحبانيّ الّذي ولد سنة 1955، تحت ظلّ الأجواء نفسها وتحت قسوة ظروف سياسيّة واجتماعيّة عاشا واضطربا فيها، تحت شبح الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، وتحت شبح المذابح ضدّ الفلسطينيّين في "تل الزّعتر" ومخيميْ "صبرا وشاتيلا" وغيرها وغيرها، وتحت شبح الاجتياح الإسرائيليّ للبنان حدّ احتلال العاصمة "بيروت". أليس ثمّة خطورة مماثلة اليوم يا جورج عبد الله! خاصّة بعد الاتّفاق على القرار 1701 والتزام لبنان والمقاومة بتنفيذ حذافيره، ولا يمضي يوم بدون خرق إسرائيليّ من هدم وتدمير وقتل واغتيال واعتداءات واحتلالات جديدة تمتدّ وتتّسع، ولم تنفّذ إسرائيل وبعد ضمان أميركيّ وفرنسيّ ولو حذفورة واحدة من حذافير الاتّفاق، ومع ذلك تأتي الدّولة وحكومتها ليطالبوا المقاومة بتسليم سلاحها، ويطالبوا الجيش اللّبنانيّ الوطنيّ بتنفيذ ذلك استسلامًا وخنوعًا أمام المخطّط الأميركيّ وتحت همجيّة القدم الإسرائيليّة، وقد ثبت بالتّجربة أنّهما ليستا محلّ ثقة. فيا لذلّ الأرز الشّامخ واستشهاد أحمد قصير ومقاومة حسن نصر الله وفنّ زياد الرّحبانيّ! يا لذلّ لبنان، كلّ لبنان بهذه الحكومة وهذه الرّئاسة!
مات زياد الرّحبانيّ الفنّان، الوطنيّ والشيوعيّ، العميق الجريء، النّاقد اللّاذع، السّاخر المتجدّد، الفنّان المتعدّد المواهب الّذي أنزل الفنّ عند جماهير الشّعب، من البسطاء والفقراء، كان في البدايات "صديقًا لله" فأثبت أنّه موهبة واعدة، كان شرطيًّا مرّتيْن في مسرحه الّذي تحوّل بعد "المحطّة" الأولى و "ميس الرّيم" إلى صرخة ونقمة تعبّر عن جيل ضائع في ظلّ الحرب الأهليّة وتحت شبح الفقر والواقع السّياسيّ والاجتماعيّ العامّ، كان الشّعور بالضّياع هو سيّد الموقف، ولعلّك يا جورج عبد الله قد عشت ذلك وذقته على جلدك، ومن هنا انبثقت ثائرًا تعادي الظّلم والظّلام وتنشد الحرّيّة والعدل والنّور.
الأفلام الأميركيّة ستطول يا زياد الرّحبانيّ، خاصّة بعد موتك وكنت تستحقّ الحياة وبعد بقاء في الحياة مَن لا يستحقّون الحياة، والجنون سيطول يا جورج والمشافي العقليّة سيكثر روّادها، لأنّه كلّ "شي فاشل" في مجتمعنا اللّبنانيّ والعربيّ، وذلك ينبع من ينابيع أروقة قصور الخنوع والتّطبيع الملكيّة والجمهوريّة الحاكمة.
فكيف "لا يضيق خلقي" وكيف "يسمع رضا" وتأتي يا زياد الرّحباني بأجمل أغانيك وألحانك لتعلن بعد أن "ولّعت كتير" أمام جورج عبد الله "بخصوص الكرامة والشّعب العنيد" وتقول بفم ملآن ثقة وإيمانًا "أنا مش كافر" وأنت كافر بكلّ "شي فاشل" وبكلّ الأفلام الأميركيّة القصيرة والطّويلة. وتعلن أن "نزل السّرور" لاعنًا الطّائفيّة وموقظي فتنتها.
سلام عليك يا جورج عبد الله، أيّها السّجين الحيّ الطّليق الحرّ، أنا أعرف أنّك لن تندم ولن تساوم وستبقى تقاوم، إلى أن يبعث لبنان حيًّا من جديد!
وسلام عليك يا زياد الرّحبانيّ، أيّها الميّت الحيّ، أنا أعرف أنّك تنام مطمئنًا، لن تندم ولن تساوم وسيبقى فنّك حيًّا معنا، سلاحًا مقاومًا وخالدًا!
"كاين هيك لازم تكونوا" تمامًا كما كنتما، فسلام عليكما يا جورج ويا زياد، بكما ينمو الأرز ويخضرّ، وبكما يشرف لبنان ويشمخ "الشّيخ" و "عامل" و "صنّين" إلى علّيّين.