الاثنين ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم أكرم سلمان حسن

حاجز طيار

يارا.. ابنة الثالثة.. هي أول من استيقظ ذاك الصباح.. مشت والأصح أنها رفرفت لأنك حين تشاهدها، تكاد تلمح جناحين أبيضين يبرزان فوق كتفيها، خصلات شعرها الذهبية وعيناها الخضروان تذكرانك بصور الأطفال التي تزين مخادع الصبايا، الحالمات بيوم تعصرهن فيه الأمومة، وتستقطر كل ما يفيض بدواخلهن من حنان ورقة، ابتسامة يارا تخلب لبك وتجعلك تتساءل.. أملاك يسكن عينيها أم ماذا!!؟.

توجهت إلى غرفة والديها، بهدوء تفتح الباب وتنسل بينهما، و تمرر سبابتها الصغيرة على شعر أبيها.. تصل أذنه وتنسل إلى رقبته، وككل صباح.. متظاهراً بالنوم، يحرك يده إلى مكان المداعبة يهش حشرة طائرة حطت هناك، تضحك يارا بشقاوة وانتصار، وتعيد الكرة ويعود هو إلى صفع مكان الحشرة المفترضة ويدوي صوت الكف على الرقبة، فتنفجر يارا بالضحك، ضحكتها مقطوعة موسيقية لعبتها أنامل عازف بارع، وتنتهي المسرحية الصباحية بعناق وقبلات متبادلة.

الليلة السابقة حملت ليارا خبراً ساراً(غدا نسافر ونقضي العطلة في القرية) أحلامها انصبت على جدها، يقرفص كي يتسنى لها الصعود والجلوس على سرير كتفيه، تتدلى ساقاها على صدره.. يمسك قدميها الصغيرتين بيد وبالأخرى يسند ظهرها، ويدور بها في أرجاء المنزل قافزا هنا وهناك، لا تمنعه آلام العنق من تقديم هذه المتعة لحفيدته التي تزقزق فرحة، فيزقزق قلبه بالعدوى.

ـ أيقظي أخاك، كي لا نتأخر.

يارا لاتحتاج التشجيع كي تفعل، فكل يوم وبعد مسرحيتها الصباحية، تركض لتجذب توأمها من فراشه، مستحثة إياه على السرعة لمشاركتها باللعب، وشادي النعس، يستسلم لسلطتها بلا مقاومة، فهي رفيقته الوحيدة، أما نورما الصغيرة.. التي لا تكف عن البكاء والرضاعة، فلا يعتمد عليها أبداً في اللعب. اليوم تحثه يارا على الإسراع في النهوض مغرية إياه:

ـ هيا سأخذك معي لرؤية جدو والتاتا، أسرع وإلا أخذت دبدوب وتركتك هنا.
وشادي يغار من دبدوب.. دميتها المفضلة،لذا يسرع بالوثوب من الفراش.

بنفس الوقت في لبنان, في كراج مغلق، العمل جار على قدم وساق لإفراغ محتويات صناديق السجائر الأجنبية في المرسيدس السوداء المجردة من مقاعدها الداخلية الوثيرة، كي تتسع لأكبر كمية ممكنة من المهربات، دقائق وتصبح السيارة جاهزة للانطلاق، أيمن يجلس خلف المقود يقرأ الفاتحة على نية التوفيق!! ويحدث نفسه:
ـ لم أرتعد كأنها المرة الأولى، أبو هيثم هو الضابط المناوب اليوم، وكل شيء على مايرام.

شقت السيارة البيجو 504 طريقها بين أحياء دمشق وصولاً إلى الطريق الدولية، الطبيب منذر وراء المقود، والرضيعة نورما غافية في حضن والدتها، يارا وشادي في المقعد الخلفي، وصوت فيروز يصدح بالأغاني المنتقاة بعناية، يبدأ شريط الكاسيت بأغنية.. يارا الجدايلها شقر.. فيهن بيتمرجح عطر.. وينتهي بأغنية أنا وشادي تربينا سوا.. فيفرح الطفلان لسماع اسميهما في هاتين الأغنيتين، لاعتقادهما أنها تغنى لهما فقط.

في المرسيدس التي تسابق الريح، لا مزاج للموسيقى والأغاني، التوتر سيد الموقف، عينا المهرب أيمن تراقبان الطريق كعيني صقر، فهو لم ينس ما حدث لشقيقه منذ فترة وكيف فاجأه الحاجز الطيار، وهو حاجز تقيمه القوى الأمنية أحياناً بشكل مفاجئ بعد إخبارية ما.

البيجو تتهادى على الطريق خارجة من مدينة حمص بعد استراحة قصيرة أثناء ملء الخزان بالبنزين، و يارا تغني بصوت عال يطغى على صوت فيروز
ـ ستي يا ستي.. اشتقتلك ياستي.
غنت حتى نال منها التعب.. حضنت دبدوبها ونامت ملتصقة بتوأمها.

ـ غريب يا أم شادي، حاجز آخر أمامنا، بعد أقل من ثلاثة كيلومترات على الحاجز الأول !! يبدو أن هناك أمراً غير عادي!.
يهدئ منذر من سرعة البيجو تدريجياً ليقف عند الحاجز الثاني، ينزل من السيارة ويدور من أمام المقدمة باتجاه آمر الحاجز.

المرسيدس التي لم تتوقف على الحاجز الأول، تنهب الطريق بسرعة جنونية، مقتربة من الحاجز الثاني، حيث توقفت البيجو، آمر الحاجز الذي كان أوعز لعناصره بالاستعداد لرمي الحصيرة المعدنية المحملة بالمسامير بعد أن وصلته مكالمة من الحاجز الأول تأمره بإيقاف المرسيدس الهاربة القادمة باتجاهه.. صرخ بأعلى صوته:
ـ أرموا الحصيرة.. وفي ثوان كانت الحصيرة المعدنية تقطع الطريق كأفعى.

أصوات فرقعة الدواليب واحتكاك حديد الإطارات بالأرض تصم الآذان. المرسيدس تكمل سيرها على الإطارات المعدنية متأرجحة يمنة ويسرة، وتصدم مؤخرة البيجو من الجانب الأيسر، الصدمة تعكس اتجاه البيجو والنار تندلع فيها، بينما المرسيدس وبإصرار يائس تكمل سيرها بشكل أفعواني قبل أن تنزلق خارج الطريق منقلبة على ظهرها.

منذر المذهول بما حدث أمامه، يدرك حرج الموقف.. يركض ويتناول الرضيعة نورما من زوجته التي تخرج من النافذة ويضعها جانباً، ويسرع لإخراج طفليه في المقعد الخلفي، فالنار تكاد تأكلهما، جن جنونه عندما عجز عن فتح أبواب السيارة التي تعرضت لضغط شديد نتيجة للصدمة، مما جعل من المستحيل فتحها، تحترق يداه وينسلخ الجلد عنهما عالقاً على مقابض الأبواب الحارقة.. النار تجن في جلد المقعد الخلفي.. يشم رائحة نسيس الشعر الأشقر.. مازال يسمع أصوت استغاثة الملاكين.. واوا بابا، واوا ماما.. يا جدوووو..

منذر يسقط مغشياً عليه.

يهرع عناصر الدورية للنجدة.. يعجزون كذلك عن فتح الأبواب فيعمدون إلى البنادق لكسر الزجاج وإخراج الطفلين، تفوح في المكان رائحة اللحم المشوي.. يختفي صوت الملاكين الصغيرين.. لكن فيروز تأبى الصمت ويأتي صوتها حزيناً مؤبناً..

ومن يومها.. ما عدت شفتو.. ضاع شاااااااااااااادي.....!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى