

حقيقة القوة
تمرّ الأيام كالثواني، تنساب كلمح البصر، ولم تعد فرح تفرّق بين الحلم والواقع بعد ما شاهدته. كانت تعلم أن العالم مليء بالأسرار، لكنها لم تتخيل يومًا أن تكون هي جزءًا من أحدها. كل شيء بدأ عندما وجدت نفسها تستيقظ في مكان غريب، لا أثر للحياة البشرية فيه. الهواء ثقيل، الصمت مطبق، والأرض تمتد بلا نهاية. كانت تبحث عن أي أثر لإنسان، لكن الأقدار قادتها إلى بيت قديم، منعزل في وسط العدم, دفعها الفضول للدخول، إلا أن المكان بدا وكأنه مسكون. لم يكن مجرد منزل، بل كان أقرب إلى عالم آخر مختبئ بين الجدران. وفي قلب ذلك الغموض، التقت بطفلتين صغيرتين جدًا، جسداهما أبيضان كأنهما انعكاس لضوء القمر، ولكل منهما قرنان بارزان. حدّقت بهما في دهشة، لكن قبل أن تستوعب، شعرت بحضور غريب خلفها. التفتت سريعًا، فوجدت رجلاً يقف هناك، وجهه نصف مخفي في الظلال، عيونه تلمع بوهج مخيف، قبل أن تنطق، أغلق الباب خلفها بقوة، ثم سحبها إلى غرفة مظلمة وأحكم إغلاقها. حاولت الحديث إليه، لكنه تمتم بكلمات بلغة غير مفهومة. كان الأمر أشبه بتعويذة، وعندما ألقى كلماته الأخيرة، انبعثت ستة أضواء خافتة من نافذة الغرفة، وكأنها تهمس لها بأسرار لا تفهمها. شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها، ثم خارت قواها وسقطت مغشيًا عليها, عندما استيقظت، أدركت أن شيئًا ما قد تغير. كان هناك إحساس جديد يسري في عروقها، قوة خفية لم تختبرها من قبل. لكنها لم تكن حرة. كل مساء، كان الرجل يعود، يلقي تعاويذه ذاتها، ومع كل ليلة، كانت تفقد وعيها، وتستيقظ مع قدرة جديدة, في الليلة الأولى، شعرت بطاقة غير مألوفة، جعلت جسدها أخف وأسرع، كأنها تستطيع تجاوز حدود البشر. في الليلة الثانية، اكتشفت قدرتها على قراءة العقول، لتدرك أن الرجل ليس عدوًا، بل خادمًا يهيئها لمهمة لا تعرفها بعد. في الليلة الثالثة، فهمت لغات لم تسمعها من قبل، وبدأت بالتواصل مع الطفلتين الغريبتين اللتين تبين أنهما مرافقتاها في هذا العالم الموازي, مع كل ليلة، كانت تكتسب شيئًا جديدًا، حتى وصلت إلى الليلة السادسة. هذه المرة، لم يمنحها الرجل مجرد قوة، بل كشف لها عن الحقيقة. لم تكن هذه القوى مجرد هبات، بل كانت جزءًا من اختبار أكبر. قواها ليست في ما تملكه، بل فيما تفعل به, وفي فجر اليوم التالي، استيقظت في عالمها الواقعي، وكأن شيئًا لم يكن. لكن داخلها، كانت تعرف أن كل شيء قد تغيّر, الصراع الحقيقي يبدأ قررت استخدام قواها لفعل الخير، لمساعدة الناس، لكن الواقع كان أكثر قسوة مما توقعت. عندما حاولت كشف الفساد، قوبلت بالصمت. عندما سعت لإصلاح ما هو معطوب، وجدت من يمنعها. الحقيقة كانت واضحة: المشكلة ليست في العجز، بل في أولئك الذين يستفيدون من إبقائه قائمًا, وفي يوم ما، اكتشفت شيئًا خطيرًا—مصلًا غامضًا، محفوظًا في مكان سري، له القدرة على شفاء الأمراض وإطالة العمر. لم يكن مجرد علاج، بل أملٌ لمستقبل أفضل. قررت نشره للعالم، أن تهب الجميع فرصة للنجاة, لكنها لم تدرك أن هناك من يراقبها, استيقظت في غرفة بيضاء، بجدران معزولة عن كل صوت. ترتدي رداءً طبيًا ناصعًا، وسوارًا معدنيًا حول معصمها ينبض بضوء أزرق خافت. أمامها، وقف رجل بدا كطبيب، لكنه لم يكن طبيبًا عاديًا. كان ينظر إليها بابتسامة باردة، مدونًا ملاحظاته, قال: لقد حلمتِ بإنقاذ العالم، أليس كذلك؟ حاولت الجلوس، لكنها شعرت بثقل جسدها. كانت ضعيفة، وكأن شيئًا قد سُحب منها بالقوة, ليكمل حديثه: أنتِ هنا منذ أيام، لا تتحدثين، فقط تهمسين بكلمات غير مفهومة. كنتِ تهذين عن قوى خارقة ومصل سحري… لا تقلقي، ستتحسن حالتك قريبًا, لكنها لم تكن تهذي. لقد رأت الحقيقة، شعرت بها. لماذا يحاولون إقناعها بالعكس؟ حاولت استدعاء قواها، لكنها لم تستطع. كان السوار في يدها حاجزًا، كأنه سجن داخل سجن, رفعت عينيها إلى الطبيب، وسألته مباشرة: من أنتم؟ رفع حاجبيه قليلاً، ثم قال بهدوء: نحن من نحمي العالم… من أمثالك, ساد الصمت. أدركت فرح الحقيقة أخيرًا. المشكلة لم تكن في المصل، ولا في قواها، بل في أنها أرادت تغيير العالم… وهناك من لا يريد لذلك أن يحدث, لكنها لم تكن مستعدة للاستسلام, وسط الصمت، جاءها صوت مألوف، صوت الرجل الغامض: لم ينتهِ شيء بعد، فرح… المرحلة الأخيرة بدأت, تسارعت أنفاسها. شعرت بذبذبات خفيفة في الهواء. فجأة، انطفأت الأنوار. عاد النور سريعًا، لكنه لم يكن كما كان. أصبح وهجًا أصفر خافتًا، نابضًا كأن المكان نفسه يتنفس, شعر الطبيب بشيء غير طبيعي، حدّق حوله، ثم عاد ينظر إليها. لكنها لم تكن نفسها. لم تعد بحاجة إلى قواها كما ظنت؛ لأنها أدركت أن القوة الحقيقية لم تكن في الهبات التي تلقتها، بل فيما كانت عليه دائمًا, نظرت إليه بعينين مشعتين بالحقيقة، وقالت بهدوء: أنتم من تحمون العالم؟ أم من تسجنونه في الظلام؟ لم يجب. لكنها لم تكن بحاجة إلى إجابته. الغرفة من حولها بدأت تتلاشى، الجدران أصبحت أقل صلابة، كأنها لم تكن سوى وهم. والسوار في يدها… بدأ يذوب, وقفت ببطء، تقدمت نحوه، وعندما حاول التراجع، همست له بكلمات حملت كل القوة التي احتاجتها يومًا: لقد فشلتم, وفي لحظة، اختفى كل شيء. لم تعد هناك جدران، ولا غرفة، ولا طبيب. كانت في مكان آخر تمامًا. كانت حرة, أما المكان الذي تركته خلفها، فقد غمره الظلام إلى الأبد, وكانت هذه بداية المقاومة الحقيقية.