الاثنين ٨ أيار (مايو) ٢٠٢٣
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

رحلتي نحو الخلود

لطالما سحرتني قصص السابقين وأخبارهم وأخذت بمجامع قلبي منذ أيامي الأولى في هذه الحياة، أولئك الذين سطروا أسمائهم في كتب التاريخ بماء الذهب، ورحلوا بأجسادهم ولكنهم حاضرون بيننا وكأنهم هزموا الموت الذي لم يعرف الهزيمة يوماً! لقد رافقتني تلك القصص سنوات طويلة وشحذت همتي وقوّت عزيمتي على الوصول حتى ارتطم ذلك الحلم بصخرة الواقع، فصحوت من ثمالة المراهقة وانقشع الضباب عن نظرتي لذاتي بأنها فائقة الأهمية!

لا أذكر كيف ولّت تلك الأيام، متى قدمت جحافل ذلك الواقع المرير وحاصرتني؟ وكيف أخذتني الحياة من مقاعد الدراسة وغرفتي الدافئة في منزلنا وقذفتني في معترك الحياة؟ أستيقظ كل صباح كما يفعل الملايين من البؤساء في هذا العالم، وأعمل طيلة النهار ثم أعود إلى منزلي كما يفعل كل أب فيخلع تعاسته قبل أن يخلع حذائه ثم يفتح الباب ويدخل على عائلته بابتسامة حانية تخفي كل تلك التفاصيل المرهقة التي خاضها في النهار!

سألت أبي ذات مرة عن أحد العظماء في الزمن الغابر لشدة إعجابي بسيرته فقلت ببراءة: "كيف استطاع هذا الرجل أن يفعل كل هذا يا أبتي؟" فأجابني: "لا يستطيع من يرغب في تحقيق هدف عظيم أن يمارس الحياة الطبيعية التي نمارسها، لقد دفع هذا الرجل الثمن مسبقاً، كما دفعه من سبقه من العظماء، تخلى عن الحياة وزهد في مغرياتها في سبيل الوصول إلى الخلود". ولا زالت تلك الإجابة تدور في عقلي وقد أثبتت لي الأيام صحتها خاصةً بعد أن لاحظت الفشل الذريع لمعظم هؤلاء العظماء والمؤثرين في حياتهم الاجتماعية. لقد أرغمتني الحياة على دفع أثمان كل ما عملت على تحقيقه في السنوات الماضية، فكان ثمن شغفي في طلب العلم انحسار النشاطات الاجتماعية التي كان يتمتع بها أقراني، وكان ثمن تأسيس عائلة صغيرة تحطم الكثير من العلاقات الاجتماعية التي اكتشفت هشاشتها، لقد فشلت في الحفاظ عليها لتقصيري فيها وانشغالي عنها. وإذا أخذت الحياة أثماناً باهظة في أهداف كهذه، فما الذي كانت ستسلبه مني لو طلبت ما هو أعظم من ذلك؟

ومع ذلك، فالحياة الاجتماعية ليست العائق الأوحد في وصول المرء إلى هدفه، فطبيعة الحياة الحديثة تلعب دوراً مهماً في تقويض أهدافنا، أذكر جدالاً وقع بيني وبين أستاذ اللغة العربية حين كان يروي لنا عن مهارة العرب في حفظ القصائد الطويلة منذ سماعها للمرة الأولى، فقلت له مستنكراً أن حفظ قصيدة من مئة بيت منذ سماعها لأول مرة ضرب من المستحيل! فأجابني ضاحكاً: "كان العالم الذي يعيش فيه العربي بسيطاً للغاية، الخيمة والعائلة والموارد التي تحيط بخيمته، فإذا نفذت تلك الموارد حمل أمتعته وانتقل لمكان آخر، لقد كانت الحياة بسيطة للغاية ولا تكلّف أو تعقيد فيها كالحياة التي يحياها المرء في عصرنا الحالي، ولذلك، نجد أسلافنا أصفى ذهناً وهذا ما يمكنّهم من حفظ القصائد الطويلة". وهذا ما ذكره الدكتور علي الوردي في كتابه خوارق اللاشعور إذ قال "لقد ربحنا الحياة المدنية الجديدة من ناحية، وخسرنا من ناحية. فلقد تقدمت لدينا أساليب الحياة المادية تقدماً عظيماً بينما تأخرت فينا أساليب النفس وطرق استثمار قواها الخارقة".

وما يبعث على التشاؤم هو أن كل العظماء أو جلّهم لم يتذوقوا حلاوة النجاح في حياتهم، فقد كانوا مغمورين في حياتهم ولم يدرك أحد قيمتهم إلا بعد أن رحلوا عن هذه الدنيا، وفي ذات الوقت، تمنح هذه الحقيقة أملاً للمرء في أن تحتضن صفحات التاريخ اسمه بعد موته لعمل نبيل أو إنجاز حققه في حياته. إن مواسم الحصاد في الحياة بعيدة للغاية، وهذا ما دفعني للتفكير مليّاً في الطريق التي سأسلكها لأضع بصمتي الخاصة في هذا العالم. وبعد تفكير عميق، اكتشفت عدم ضرورة حصولي على لقب البطل في الرواية، فإن لم أتمكن من لعب دور البطولة، فحسبي أن أصنع الأبطال، فليس المهم أن أضع حبة الكرز الأخيرة على قالب الحلوى، ولذلك، وجدت في مهنتي كمدرّس وفي دوري كأب الوسيلة الوحيدة لخوض هذه الرحلة القصيرة قبل أن تنفذ أيامي المتبقية، وأعني رحلتي نحو الخلود!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى