الاثنين ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٨
بقلم البشير البقالي

سمة «صراع» في «سيرة حمار»

«ماذا جنيت لكي ألقى هذا العذاب وألظى بهذا الشقاء، أهي حوبة الاستمتاع بما ليس لي؟ أهي الاغتراف من شراب محرم؟ أهي رغبتي أن أطير وأحلق في الأجواء وكان حريّا بي أن أذكر أن ليس على الإنسان أن ينفصل عن الواقع؟ ألا يكون فيما قاسيت كفارة لي؟ أيكون قدري أن أظل حمارا يحمّلني حمّال أثقاله، ويسومني بالعذاب، ويضن علي بالأكل، ويتهددني بالخصي، ويعبث بي برابرة في شؤون معتقداتهم، يقدسني هؤلاء ويزري بي أولئك فينصبونني غرضا لأحقادهم وجهالتهم.. أقدري أن أُحرَم صحبة رجل حكيم وأن أرى ما نزل به من ظلم، فلا أستطيع أن أدفع عنه الضر؟ أقدري أن يوظفني صاحب سيرك لا يقيم للحيوانات وزنا إلا بالقدر الذي تضطلع بالدور الذي يريدها له ثم يتخلص منها بلا أدنى إرعاء.. أقدري أن أُدفَع لعشرة حمير يهزؤون بي، ويريدونني حمارا مثلهم أكتفي بالأكل والنزو. تعبت ويئست وأظلمت الدنيا في عيني؟».(1)

يبدو الكلام هنا في شكل اعترافات سردية أقرب إلى المونولوج المسرحي، فيه تذكير بأطوار الحكاية من خلال أسئلة متلاحقة لا يُراد منها الجواب، كل سؤال يجسد مرحلة من مراحل الأحداث والمغامرات التي خبرها البطل الراوي والصراع الدرامي الذي خاضه. وهي أسئلة حارقة تنضح بالمعاناة كأنها زفرات صادرة عن جمرة في النفس ولوعة إنسانية ملتهبة، تفيض بلوم الذات والألم واليأس والعجز، وترسم إيقاعا متصاعدا لمأساة جوهرها السؤال عن المصير.
إن الوضعية التي يعيشها البطل السارد في هذه الصورة تشير إلى الأسئلة التي على القارئ أن يطرحها حوله؛ أهو مذنب أن ضحية؟ وإذا كان ضحية، فهل هو ضحية خطيئته أم طموحه الزائد أم واقعه أم قدره؟ وهي أسئلة شبيهة بتلك التي تُطرَح عادة حول أبطال المآسي الإغريقية.

إن الصورة بشكلها السردي الانفعالي العفوي تستدرج القارئ وتسترعي انتباهه إلى إيقاع مأساوي، إذ تصور وضع البطل في شكل مأساة وجودية، وتحدد عناصرها ومفاصلها وأجزاءها بدقة متناهية وتوجيه مقصود، وتحفز القارئ على الغوص فيها وتحديد أطراف الصراع، وتضعه أمام تحدٍّ يتمثل في تحويل معانيها إلى مقولات وإدراكات قرائية مقبولة.

وإذا أعدنا تأمل الصورة بإحساس إنساني بعيد عن متعة القراءة، نستشعر تدفق مشاعر فيها لواعج الحيرة وثقل الهموم الوجودية والإلحاح في مساءلة القدرية. وعلى الرغم من أن البطل حمار فإن المشاعر التي تخلفها الصورة مشاعر إنسانية موغلة في التأثير المباشر. لذلك، وعلى امتداد هذه الدراسة، لم أنظر إلى الحمار وكأنه أسطورة، ولن أقف على أبعاده الخارقة، لاعتقادي بأن حسن أوريد أخذ حكاية الحمار على أنها خيال، ولكنه ظل يتعامل مع معانيها على أساس أنها حقائق واقعية صلبة. وهذا هو السر في صدق المشاعر التي تبوح بها هذه الصورة السردية.

ولعل أسئلة القدرية المتلاحقة والمتكررة، توحي بأن الراوي ليس في حال استسلام، رغم العجز الذي كشف عنه اليأس والظلام في نهاية الصورة. كما توحي ذات الأسئلة بأن الراوي كان في كل مرحلة يصارع، ولم يكن مكتوف اليدين. بدليل انتقاله من وضع إلى وضع، ومن حالة إلى حالة. وإلى جانب ذلك فهي تحمل أيضا وعيا دقيقا بمراحل الصراع وتعالقها الجدلي وتناميها الدرامي بتدرج.

وباستحضار سياق الرواية، نجد أن الصراع بدأ نفسيا لحظة تحول البطل الراوي إلى حمار، حيث خاض صراعا مريرا مع الذات، وشق أسئلة وجودية كبرى إثر الإحساس بالاغتراب عن الوجود المتوازن وحدوث اختلال بين الماهية والوجود. غير أن الصراع تطور بعد ذلك وانفتح على جبهات خارجية، هي التي تلخصها الصورة التي انطلقنا منها في هذا المحور.

إن التنامي الدرامي في «سيرة حمار» جاء على شاكلة تدرج الإيقاع المأساوي في مسرحية «أوديب ملكا»؛ من الهدف إلى المعاناة إلى الإدراك(2). ولعل المضمون الوجودي للرواية هو الحدث المأساوي الذي يقدمه الكاتب، وهو حدث له شكل؛ أي بداية ووسط ونهاية. يبدأ بهدف معقول، في ضوء سيرة أذربال الذي نهل من العلم والفلسفة زادا كبيرا، وخط هدفا هو البحث عن الحقيقة، غير أن هذا الهدف سيتخلخل بسبب الهوى والخطيئة والاستمتاع المحرّم، فيتحول البطل إلى حمار، وتتفاقم لديه معاناة داخلية حول وضعه الإنساني الضائع بعد أن طمح في الترفع عن واقعه وضاجع حرمة الأكابر. وعلى هذا الأساس سيتغير الهدف الأول، وتبدأ حركة درامية جديدة بهدف جديد.

إن الهدف الجديد كان بداية لمرحلة المعاناة التي تلت التحول، وهي معاناة ستظهر في صور عديدة ومغامرات منفصلة، لكنها مترابطة في إطار الصورة الكلية للرواية وبنيتها الصراعية العامة. وتوزعت الحكاية على خمس متواليات سردية، جسدت التجارب والمغامرات التي خاضها البطل الراوي في سفره الذاتي ورحلة البحث عن سيرته الإنسانية الأولى. ورغم التمويه بكثرة الأسئلة في الصورة أعلاه، إلا أنها يمكن تأطيرها في خمس متواليات سردية صراعية.
تبرز حركة المتوالية الصراعية الأولى بعد أن تحول أذربال إلى حمار، وهي تبدأ بهدف يتمثل في أن يخبر أباه وساكنة أليلي بحقيقة ما جرى، خصوصا في ظل تناسل الحكايات حول اختطافه وقتله. لكنه هدف مُجهَض منذ البداية، لأنه لا يستطيع الكلام، إذ نقرأ:

«وكيف لي أن أقول له إن ابنك مُسِخ حمارا، وحتى لو أردت، كيف لي أن أفعل، وهل سيدرك نهيقي»(3). ونقرأ كذلك في سياق ترويج وتحليل حكايات مقتله:

«والحال أن شخصا، عفوا، حمارا يدرك الحقيقة كلها، ولو كلفت المدينة نفسها عناء الاستماع إليه لأبلغها الحقيقة. ولكن من ذا يستمع للحمير».(4)

بعد هذا الهدف المجهض يبدأ فصل من المعاناة، في ظل الضرب والحبس في مربض الحيوانات مع كلب وبقرة وديك، لم ينعم معها بالأكل والنوم، وكذا في ظل التفكير وعدم القدرة على الكلام، وغير ذلك من مظاهر المعاناة الوجودية.

على أن أرجوحة الصراع الدرامي ستنشط أكثر بعد خطبة حاكم المدينة وكلمات النعي التي قيلت في حفل تأبين أذربال في جنازة رمزية، حين سيكشف الزيف الذي حملته الكلمات. وقد استنكر الراوي ذلك في حينه، وفضح مظاهر الزيف وحوافزها السياسية والمصلحية، ونهق احتجاجا عليها، وكان مصيره الضرب المبرح حتى فقد الوعي، إذ ذاك رأى نفسه في صورته الإنسانية يلقي خطبة على قومه.

ومن خلال هذا العرض الموجز لأحداث هذه المتوالية، يتبين أن الصراع تركز حول السرد، وبعابرة أخرى حول التاريخ؛ وهو صراع بين زيف السير الرسمية والحقيقة الضائعة، ورغم تركيز السارد على الحمار ومعاناته، فإن ذلك لم يحجب كفايةً محور الصراع، فقد أدت الدولة عبر التاريخ دورا انتزاعيا في الصراع على السرد، بوصفها مؤسسة القول والسرد. وهذه المتوالية تكشف أن السرد الرسمي فيه كثير من الزيف، وذلك ما يصارعه الراوي في العمق.

وقد تبلور الصراع على مستوى الخطبتين كذلك؛ خطبة حاكم المدينة، وخطبة البطل الراوي من خارج الوعي، ولعل توظيف الخطبتين يشير إلى أن المواجهة الصراعية حجاجية إقناعية، بالنظر إلى الوظيفة النوعية للخطبة. مما أضفى مزيدا من القوة والجدل على سمة الصراع، لكنه صراع غير متوازن، فخطبة الحاكم كانت علنا وكان لها جمهور غفير، بينما خطبة الراوي ظلت خارج الوعي، مثلما أن احتجاجه على كلمة النعي الزائفة كان مجرد نهيق.

وخلال المعاناة، كان ثمة إدراك يتشكل، هو ما مَكَّن البطل السارد من تفسير الوضع الإنساني القائم وكشْف سلبية الإنسان الذي يصدق ما يقال له دون إعمال الفكر، وكذا تفسير حوافز الزيف في السيرة والسرد الرسميين، وهي حوافز ترتبط بالمصلحة السياسية أو المصلحة الشخصية، وهكذا يتضح أن هذه المتوالية تدرج فيها الإيقاع الدرامي من هدف إلى معاناة إلى إدراك.

لقد باعت بلدية المدينة الحمار لتاجر ضمه إلى أسطوله من الحمير والحمالين ليحمل عليه السلع إلى الأسواق. وهنا تبدأ المتوالية الصراعية الثانية، وفيها أيضا يظهر هدف مرحلي للبطل الراوي نلمسه من خلال قوله:

«وقد قدّرت أني إذا خرجت من المربض لسوف أرى العالم وأستنشق عبير الحرية وأنسى هذا الإصر الذي يغلّني، وهو وضعي الحيواني».(5)

لقد طمع البطل في مجرد فسحة وسلوى وتنفس الهواء، إلا أن هذا الهدف سرعان ما تحطم على أعتاب سلسلة من المعاناة، فقد قسا عليه التاجر ومرافقوه، وحملوه أثقالا ناء تحتها مسافة طويلة إلى سوق بعيدة تدعى كارما، وتعرض للضرب أثناء الطريق، ولما وصل إلى السوق عانى من الروائح والذباب والغبار. وتحرشت به أتان قلّبت عليه أوجاعه الوجودية وركله حمار. وأثناء العودة تعرض لضرب عنيف من قبل مرافقي التاجر بسبب أثر الانتصاب على قضيبه، وبلغت المعاناة مدى أبعد حين عزم مالكه على خصيه. هنا أدرك الحمار حجم التهديد الذي يشكله هذا التاجر عليه وعلى مستقبله، كما أدرك أن عليه أن يهرب كي لا يتعرض للخصي.
مرة أخرى يبدو أن الإيقاع الدرامي لهذه المتوالية الصراعية تنامى من هدف إلى معاناة إلى إدراك. وقد تمركز الصراع حول الاستغلال والهيمنة واللاإنسانية التي تمارسها قوى الإقطاع والرأسمالية، إذ تستغل الناس والكائنات لأجل الاغتناء وإركام الثروة دون اعتبار لأية قيمة أخرى غير المصلحة والمال.

وما أسعف البطل الراوي في الإدراك هو قوة الملاحظة لسلوك التاجر، إضافة إلى كونه لم يُضِع لغة الإنسان، إذ نقرأ:

«ولحسن الحظ أني لم أُضِع لغة الإنسان في هذا المسخ الذي حاق بي، إذ لَفَعل بي بنو الإنسان الأفاعيل».(6)

وعلى إثر الإدراك، قرر الحمار أسنوس الهروب من الخصي الذي توَعَّده به مالكه. لينخرط في تجربة أخرى ومغامرة جديدة.

المتوالية الثالثة تبدأ بهدف جزافي يعكسه أمل البطل في أن يعود إلى سيرته الإنسانية، بعد أن هرب من الخصي. غير أنه وقع في أسر بني سنوس الذين اتخذوه معبودا لهم، لتبدأ معاناة جديدة من نوع آخر، حيث سيلاحظ انحدار قيمة الإنسان والعقل والأخلاق، في ظل سيادة الطوطمية والشعائر الأسطورية التي جعلت الإنسان أشبه بالحيوان؛ يقوم على ردود الأفعال والمعتقدات والأحكام القطعية. وكان عليه خلال هذه المرحلة أن يمتثل لمواصفات بني سنوس لمعبودهم، وإلا تعرض لبطشهم، كما كان عليه أن يتحمل جهلهم ويبارك مناسباتهم ويشهد مجونهم ويرعى حرمة جدهم الذي لم يخلف نسلا. مما رَاكَم لديه مشاعر الاستلاب والأسْر الروحي.

إلى جانب ذلك ظهر خط صراعي غير مباشر بينه وبين أسياد القبيلة، حيث أدركوا أنه ليس حمارا وفق المواصفات، وهم فقط يجارون الجماعة، ولا يؤمنون بما تؤمن به، إنما يظهرون الإيمان لأجل الاستفراد بالخيرات والنساء، وغير ذلك من مظاهر الصراع الذي تمحور حول الأسطورة والشعائر.

وموازاة مع هذا الصراع يطفو صراع آخر حول اللغة، حين اقترح الراوي على خادمه أن يطور لغة الحمير لتتضمن بعض الفكر. غير أن هذا المقترح أغضب القائمين على شؤون القبيلة، وحذره الخادم من ذلك، كما حذره من اقتراح تغيير نمط الإنتاج الذي رضيت به الدهماء وغضب عليه الأسياد.

على أن ذروة الإحساس بالمعاناة ومكابدتها في هذه المتوالية ستظهر حين وقع الحمار أسنوس في أسر بني ييس، حيث وجد نفسه مقحما في صراع قبلي شعائري بين قبيلتين نصبتاه غرضا لأحقادهم، وكاد أن يتعرض للرجم لولا استعماله المنطق الحيواني بأن نزا على الفرس؛ معبودة بني ييس، فأشكل الأمر عليهم. وفي سياق عزمهم على رجمه، نقرأ هذه الصورة التي تكشف بعضا من المعاناة النفسية للبطل الراوي:

«كيف لي أن أواجه هذا الوضع؟ هل بالمنطق الإنساني؟ وأي منطق هنا؟ أن أنصب كبش فداء لأمور لم أجترحها. وهل من المنطق أن أرجم؟ وهل أتيح لي أن أدافع عن نفسي كي أتصرف بمنطق الإنسان؟...».(7)

وقد استمرت معاناة البطل السارد، واستمرت لديه كذلك مشاعر الاستلاب والاغتراب، في ظل أسطورية إنسانية، وكذا هموم وجودية تتعلق بتشاكل هوية حمارية وهوية إنسانية، إلى أن تفتق إدراكه بأن لا يمكن تغيير قوم يعبدون ما اختلقوا، وانحدروا إلى درك الحيوانية.

ولم يكن الصراع متوازنا في هذه المرحلة أيضا، حيث كان الخصوم مؤازَرين بأقوامهم، يُنزلون رغباتهم على الأرض، بينما كان البطل السارد وحيدا معزولا يعاني ويصارع دون أن يستطيع حتى الدفاع عن نفسه، وحدها الفرس كانت تقيم التوازن وأنقذته من حيث لا تدري من بطشهم بعد أن نزا عليها وأشكل عليهم أمر عبادتهم. إلى أن تخلص منه بنو ييس، وألقوا به بعيدا في الظلام.

قادته الرحلة بعد ذلك إلى متوالية صراعية أخرى، حين وقع على عين دافئة. ويتجلى الهدف في هذه المتوالية من خلال قول الراوي:

«وقعت على عين دافئة بوادي تتخلله مروج وتعلوه أشجار الصنوبر، وقد رصّت العين بالحجارة في شكل دائري كما هو الشأن لحمامات الرومان، وغيشتها لأغتسل وأستحم. وأذهب عني دفء المياه المنبجسة من جوف الأرض التعب والوهن أنساني رحلتي عند قوم يعبدون ما اختلقوا».(8)

إن الهدف المرحلي هنا يتجلى في التطهير من أعباء مرحلة كانت فعلا مأساوية، والتخلص من التعب والوهن، إلا أن هذا الهدف سيكسره ظهور الشيخ الحكيم. لتبدأ رحلة صراعية جديدة فيها معاناة كذلك، اتسمت بقوة عاطفية وانفعالية، حيث إن الصراع لم يكن مع قوى خارجية. بل مع الذات والهوية والوعي والإدراك والذاكرة؛ إنه صراع استنباط المعنى من الواقع.

لقد غيّر الحكيم رؤية الراوي ووسّع إدراكه، حيث حطم المعتقدات، وبسط خصائص الحقيقة وسبل تقفيها، وحرّضه على رفض الزيف، وأطلعه على الذاكرة والتاريخ، وأوصاه بأن يحكي عنه وعن موريتانيا، ليس لمجرد المتعة، وأخبره برؤية العراف عن قوم سيأتون وسيسلبونهم روحهم، كما بيّن له مصادر الحكمة ومتطلبات الحب. وخلال كل ذلك كان الراوي يتفاعل، وكان وعيه يتشكل وإدراكه يتنامى، وكان مستمعا مثاليا اغترف كثيرا من ثمار الحكمة والوعي، كما اغترف من ينبوع الحب المتاح في ظلال الحكمة.

وبالنظر إلى حركة هذه المتوالية وعمقها الصراعي، فقد كانت مفصلية في الرواية، شكلت طاقة إضافية للراوي في بحثه عن ذاته. حتى الرؤية السردية ارتقت من مستوى الرؤية الأخلاقية إلى مستوى الرؤية التربوية، نظرا لأن وعي الراوي تنامى وقدرته على إنتاج المعنى تضاعفت، بل حتى أحاسيسه الجنسية كانت أشبه بأحاسيس الإنسان، رغم أنه ضاجع أتانا. كما تغيرت بعد ذلك وضعية الراوي وارتقت إلى مستوى التأمل بعد أن اقتصرت على الملاحظة والوصف في معظم المراحل السابقة.

ولقد كان الراوي بطلا سلبيا قبل أن يلتقي بالحكيم، كان يكتفي بردود الأفعال والانسياق. وحتى إفلاته في المراحل السابقة كان من خلال بيعه، ثم هروبه، ثم الإلقاء به في الظلام، ولم يكن إفلاتا عن استحقاق، لأن الوعي والإدراك كانا أقل من الواقع. لذلك استحال عليه استرجاع إنسانيته، واستحال عليه كذلك استحقاق التحرر.

وتنتهي المتوالية بإدراكٍ مرير، هو فداحة الظلم الإنساني، وعقاب كل من لا يخضع للإيديولوجيات السائدة، حيث إن الحكيم سيحاكم ليس فقط لإخفائه حمارا وأتانا، وليس لصلفه وحده، بل ولأنه كذلك خارج أسوار المدينة، كما أن الحمار سيبيعه مالكه لأنه لا يشبه الحمير.
من هنا تبدأ المتوالية الصراعية الأخيرة بعد أن اشتراه صاحب سيرك. وتبدأ هذه المتوالية، بدورها، بهدف نستشعره في قول الراوي:

«وأخيرا اشتراني لاعب سيرك ينتقل بين المدن، وقد عرّضني لجملة من الاختبارات وأمرني أن أتقدم فتقدمت، وأن أتخلف ففعلت. وأن أرفع قائمتيّ الأماميتين وأقوم على الخلفيتين وأمشي عليهما فأتُمِرت. كنت حريصا أن أنجح فيما طُلب مني لأني خشيت أن أبقى عند ملاكي القديم الذي سوف يحملني الأثقال، وقد يعتزم خصيي...».(9)

لقد اجتهد الحمار أسنوس كثيرا لإقناع صاحب السيرك، مدفوعا بهدف الإفلات من ملاكه. وهو هدف يبدو فيه الاختيار والرغبة والفعل والمبادرة من قِبَل الراوي، بل إنه هدف مِحَكِّي ثابر من أجله. وهذا في حد ذاته تحول، حيث كان الهدف في المتواليات السابقة إما مفروضا أو مجرد رد فعل، لكنه هنا صار فعلا واختياراً.

ومع ذلك فقد أعقبته معاناة قاسية بعد أن صار فقرة في السيرك، يقوم بحركات بهلوانية توحي بكثير من الاستلاب والهيمنة والرضوخ والإرضاء. كما أنه كان مُضطرّا لأن يشهد مظاهر الظلم وميل الإنسان إلى القوة والغلبة والانتشاء بحس لعبة دموية يتمزق فيها الإنسان ويفرح بها الجمهور، وعانى كذلك من ظلم الحيوان للحيوان. وظل إلى جانب ذلك يتلظى بهمومه الوجودية ووصايا الحكيم، وعدم القدرة على التنسيق بين زملائه من الحيوانات، كما أحس أن هذه الألعاب أشبه بالسياسة. وأثناء معاناته كان متأملا ومفسرا وليس ملاحظا فحسب.

ومن أبرز المظاهر الصراعية، في هذه المتوالية، منازلة البطل السارد لأسد هائج بتدبير من صاحب السيرك، وكذا مواجهته الفكرية الصامتة لصاحب السيرك بعد انتصاره على الأسد ونيله وشاح الحرية، وكذلك صراعات فترة النقاهة التي تخللها نكوص نفسي حادّ وتقهقر في الوجدان والأمل، قبل أن يأنس بدونا، ويقرر بعدها العودة إلى أليلي.

إن مركز الصراع في هذه المتوالية هو السلطة والسياسة والواقع الإنساني القائم على المادة وعلى القوة والغلبة. وكان الجمهور محور التوازن فيه، حيث ازدرى في البداية الحمار، لكنه سرعان ما صار يهتف له. وهذا تحول نوعي في مغامرات البطل أسنوس، لكنه لا يغير من الوضع الإنساني إذ يزكي الميل إلى القوة والغلبة. وانتهت المعاناة بإدراك أن عليه أن يتجه إلى حيث حصل التحول أول مرة أملا في العودة إلى سيرته الإنسانية. وذاك ما حصل بعد رحلة شاقة ومحفوفة بمخاطر شتى.

هكذا إذن انتظمت الرواية في حلبات صراعية منفصلة مرحليا، لكنها متصلة على مستوى البناء الدرامي العام للحكاية. وقد تدرجت جميع المراحل الصراعية من هدف إلى معاناة إلى إدراك، وبذلك انطبعت بالإيقاع المأساوي الذي شكل حركة المتواليات الصراعية، وكذا حركة الرواية ككل، حيث تحرك الحدث وترقرق من خلال أشكال من المعاناة متعاقبة ومتدرجة، فكريا، حتى وصل إلى فهم حقيقة الوضع الإنساني، وكان أعمق صورة عن الحياة الإنسانية من أي بيان مباشر أو إدراك مفهوم عقلي عنها، مع أن النص تضمن كل الإدراكات، ولكن بشكل جمالي سردي رمزي.

ولعل الإيقاع المأساوي الذي طبع الرواية، هو المفتاح لفهم حمولتها الدلالية. وقد جاء الإيقاع منسجما مع نظرية الإنسان الحديثة التي ترى أن الإنسان ثلاثة أطوار من الأدمغة؛ الدماغ الأول بدائي غريزي، والدماغ الثاني انفعالي، وفي هذين الدماغين يشارك الإنسان الحيوان. أما الدماغ الثالث فهو الدماغ المعرفي العقلي(10). ووفق هذا الترتيب تنامت وارتقت صورة البطل السارد، وتنامت كذلك بنية الصراع بتدرج وارتقاء، مما أضفى عليه مزيدا من الانسجام والتوازن التخييلي.

وبالعودة إلى عناصر الصراع في المتواليات السردية التي رصدناها، نجد أنها تتخذ ثلاثة أبعاد؛ سياسي واقتصادي واجتماعي، تجلى من خلال الصراع بين الأسطورة واللغة والسرد والتاريخ والسلطة والإقطاع من جهة، والرمز والذاكرة والوعي من جهة أخرى. مما يوحي بأن الحكاية تحاور جدلية الدولة والهوية.

خلف كل ذلك، كان ثمة صراع قائم بقوة؛ بين النص بوصفه معنى، وبين الواقع بوصفه مصدر المعنى. فلقد بدا البطل الراوي أعزل في كل صراعاته، عاجزا عن الكلام وعن الدفاع عن نفسه وعن إدراكه، يفتقد اللغة والقدرة على الكلام، بينما كان خصومه محاطين بأتباع وجماعات وجماهير. ومع ذلك نحس بقوة الحمار وقوة تعبيره وتصويره واختراقه، حتى ليظن القارئ أن الحمار كان فعلا يتكلم داخل النص. ومرد ذلك أن الراوي كان يتحدث إلى القراء، وتمكَّن من جرهم إلى صفه ومعتَركه، وجعلهم طرفا بجانبه في المغامرات التي خاضها، يرفضون الواقع المحكي ويدينون الطوطمية والظلم والزيف والاستغلال، كما يدينون مشاعر جمهور السيرك. وبذلك كان الصراع متوازنا في العمق، فلم يكن البطل الراوي وحده، بل كان معه جمهور مخاطبيه. الخصوم كان لهم صوت في النص، والحمار كان له صدى خارج النص، والحكاية كانت في زمن، بينما الصدى في زمن آخر.

لما تحول البطل الراوي إلى حمار، رأى نفسه في مرآة، وعبْر حكاية كالمرآة كشف واقع الحياة والناس، وجعل القراء كأنهم ينظرون عبرها، يعاينون الوضع الإنساني، لتنفتح الحكاية على صراع آخر خارج النص، هو صراع الإنسان مع ذاته، إذ يشعر أنه معنى برمزية الحكاية.
إن إيقاع الصراع كان عنيفا على البطل الراوي، وكذلك على القارئ، ورغم أن النص يوحي بالإمتاع، فإنه يدق سؤالا جادا في النفس والواجدان. ولعل صراع الراوي في بحثه عن إنسانيته، إنما هو صراع بحث عن الحقيقة المستترة، أو كشف لها...

هوامش:

(*)- هذه المقالة محور من دراسة نقدية ما زالت مخطوطة بعنوان (المتن والحاشية في سيرة حمار- قراءة في سمات السرد وسمات التجاوز).

(1)- سيرة حمار، ص: 105- 106.

(2)- عن: فرنسيس فيرغسون، الأسطورة والشعائر في مسرحية أوديب ملكا، ترجمة وتلخيص: محي الدين صبحي، مجلة المعرفة، العدد34، أكتوبر 1964.

(3)- سيرة حمار، ص:25.

(4)- سيرة حمار، ص: 26.

(5)- سيرة حمار، ص42.

(6)- سيرة حمار، ص: 46.

(7)- سيرة حمار، ص: 46.

(8)- سيرة حمار، ص: 70.

(9)- سيرة حمار، ص: 86.

(10)- شاكر النابلسي، محامي الشيطان- دراسة في فكر العفيف الأخضر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1- 2005، ص: 16.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى