الخميس ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم عادل سالم

شمعة رحلت وما زال نورها باقياً

في غمرة المجازر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة الصمود من قبل قوات الاحتلال الصهيوني البغيض، توفي في العاشر من كانون الثاني ٢٠٠٩ المفكر والأديب العربي المصري، الصديق محمود أمين العالم. لعله مات قهراً على ما يجري في غزة، وهو يشاهد على شاشات الفضائيات صواريخ الاحتلال تتساقط على رؤوس أشقائه ومحبيه في زمن التراجع العربي الرسمي والانكفاء العالمي لقوى التحرر، بعد ان طغت على السطح الهيمنة الاميركية وحليفتها اسرائيل بآلتها العسكرية والمالية والهوليوودية والمكدونلدية، وأصبح كل من يناصر المضطهدين والمظلومين والمناضلين من أجل الحرية والمساواة مطارداً لا أمان له ولا مكان يلجأ اليه في كل العالم.

محمود أمين العالم عرفناه منذ ستِّينيَّات القرن العشرين حينما كنا نتلهف في فلسطين إلى قراءة مقالاته وتحليلاته باحثين عنها في المجلات التي كانت تصلنا مهرّبة عندما كان الاحتلال الاسرائيلي يمنع الصحف والكتب والمجلات التي تذكر إسرائيل بسوء أو تنتقد سياستها العنصرية. كان محمود العالم مثار إعجابنا وتقديرنا، فقد كنا نعده واحداً منا يحمل آلامنا ومشاعرنا وتطلعاتنا إلى الغد المشرق.

كان صوتاً للشعوب المكافحة من أجل التحرر وسنداً للضعفاء والمضطهدين ونبراساً للشباب الصاعد الذي يكافح من أجل مستقبله ومستقبل وطنه وأمته. فلا عجب أن أكون أحد محبيه الذين حلموا باللقاء به والاستزادة من علمه وفكره.

بعد ثلاثين عاماً، شاءت الظروف أن ألتقي به في القاهرة، موطن الأدب العربي وفجر النهضة العربية في احتفال أقامه (ديوان العرب) في ٨\١\٢٠٠٥ في قاعة نقابة الصحافيين لتكريم بعض المبدعين العرب وتقديم الجوائز للفائزين في مسابقة القصة القصيرة. كانت المصادفة أن يكون العالم أحد المكرمين في ذلك الاحتفال. وعندما تقدم مسروراً لاستلام درع التكريم من على منصة الاحتفال، شعرنا حقيقَةً أنه كان يكرمنا بتقبله درعنا. فقد كان قامة أدبية وفكرية أكبر من أي درع وأعظم من أي تكريم. كان يقف على أكتافنا بكل شرف وإباء وكنا سعداء بذلك. كانت البسمة لا تفارق وجهه، هكذا هم أنصار الحرية والتقدم في العالم، يبتسمون للشمس صباحاً لأنها تشرق على كل المظلومين في العالم، تعدهم بانتهاء ليل العبودية وتبشرهم بالنصر المعمد بدماء أبنائهم. ويبتسمون لليل إذا أرخى سدوله لأنه يخيم على قوى الشر في العالم ليمنح للضعفاء فرصة لالتقاط أنفاسهم.

كان بشوشاً ومتواضعاً بعكس كثير من الكتّاب المشهورين الذين يصيبهم الغرور ما ان يصبحوا من مشاهير عصرهم. لم يتردد عندما دعوناه لاحقاً للمشاركة في احتفال (ديوان العرب) عام ٢٠٠٦. لبَّى نداءنا على الفور وكان يقدم الدروع للمكرمين الجدد، كعادة كل الشموع التي تحترق لتنير للآخرين دربهم. ما أطولها من شمعة!! فقد ظلت تحترق حتى بعد رحيله عنا وما زال نورها يضيء لنا الطريق ويشق الظلام، ظلام التخلف والعبودية والاحتلال والهيمنة الأميركية.

رحيله شكل خسارة لنا، ليس للمصريين فحسب بل لكل العرب. ليس عرب الدولار ولا عرب أميركا بل عرب الحرية والمساواة والديموقراطة واحترام حقوق الانسان، عرب المدافعة عن أوطانهم وشعوبهم وأمتهم.

لقد كان محمود العالم، وما زال، ملْكاً لكل محبيه وحاملي فكره في زمن تتراجع فيه الأفكار أمام إغراء الدولار وشغف الاستهلاك بحيث أصبحت خيانة الأخ لأخيه مجرد خلاف في الرأي.

كم نحن بحاجة الى مفكرنا وأديبنا الراحل الذي خسرنا برحيله قامة فكرية وأدبية لا تعوض.

طبت حياً وطبت ميتاً يا محمود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى