

صوفيا لورين بالمايونيز

تعرفت على "القبطان" في المسجد، وهو الاسم الشائع له بين الأصدقاء والجيران وحتى أصحاب المحلات والعمال الذين يعملون بها، بعد تقاعد القبطان عن العمل ورحيل زوجته لم يجد شيئًا يُسلي به وحدته سوى الطهي، فهو ذَوَّاقة من طراز فريد، يستطيع أن يعرف مكونات أي نوع من الطعام بالتوابل، كما يحدد مقاديرها جيدًا، وهل كانت مضبوطة أو زيادة، عشق الأكل عشقًا يحرض على التخمة والبدانة رغم نحافة جسمه، طاف كل موانئ الدنيا وسواحلها وشواطئها وعاشر ناسها وأكل من طعامهم واحتفظ بأسرار كثيرة ومتنوعة من الأطباق المشهورة في كل بلد زارها.
رغم هذا العشق المجنون للطعام والطهي لم تمهله ظروف عمله من ممارسة هوايته إلا في أوقات استثنائية وبصورة غير منتظمة، وعندما تقاعد عن العمل تفرغ للطهي وساعدته أحواله المادية الميسورة من التجريب والتنويع، وأحيانًا اختراع أكلات كان يطلق عليها اسم ممثلات هوليوود، ومن عاداته الجميلة كان كلما يجيد طهي نوع جديد يدعو أحد اصدقائه لتناوله، وكثيرًا ما دعانا إلى أنواع وأصناف من الطعام لم نسمع عنها ولم نتذوقها من قبل وأغلب الظن أن العمر كان سيمضي دون أن نتذوقها والتعرف عليها، فمرة دجاج ريتا هيوارث، وأخرى مكرونة كلوديا كاردينالي، وأحيانًا لحم مارلين مونرو، وأومليت بينلوبي كروز وهكذا.
وعندما نسأله من هي "ريتا هيوارث" يقول : إنها أجمل نساء الأرض، ممثلة أمريكية مشهورة كان الجنود الأمريكيون يحملون صورها في جيوبهم أثناء الحرب العالمية الثانية، تزوجت الأمير على خان، وأشهر أفلامها "كارمن"، وأصيبت بالخرف في أواخر عمرها.. أما "كلوديا كاردينالي" فهي أيقونة من أيقونات السينما الإيطالية مثلها مثل "صوفيا لورين"، وأجمل نسائها، وكذلك "مارلين"، ولم أسمع مرة أن أحدًا سأله عن "بينلوبي كروز"، لكنه كان يتطوع بالحديث عنها، وعرفنا فيما بعد أنه أحب فتاة تشبهها إلى حد كبير، الأمر الذي جعله يضع لها صورة كبيرة في شقته، وقد ظننا في بادئ الأمر إنها صورة لإحدي قريباته.
عندما دعاني مرة لتناول سلطة الخضار بالمايونيز مع قطع من الدجاج الصغيرة ومشبعة بخلطة سرية لم يكشف عنها، أخبرني أنه أطلق عليها اسم (صوفيا لورين)، وعندما استفسرت عن سبب تسميتها باسم الممثلة الإيطالية الشهيرة، قال بحزم وجدية: هذا الطبق صالح لكل أوقات اليوم، صباحًا وعصرًا وليلًا، فـ"صوفيا" امرأة كل الفصول، خريفية وشتوية، صيفية وربيعية، وتحديدها في فصل واحد أو وجبة محددة به ظلم للجمال وللمتعة وللقيمة الجمالية الملهمة والشغوفة بالحياة، وعندما لاحظ اندهاشي، قال برفق: يمكنك التهامه أو الامتناع، والحقيقة لم أفوِّت فرصة التهام (صوفيا) فقد كانت لذيذة وشهية وساحرة كحورية شرقية حملت حُمرة الشمس وخُمرة القمر وقسوة البيداء.. وعندما لاحظ استمتاعي بالأكل، حرص ما بين وقت وآخر أن يدعوني لتناول هذا الطبق في بيته، فعندما كانت تلمع عينيه ويبتسم ابتسامة ماكرة أفهم على الفور، أن "صوفيا" تنتظرني، وقبل أن أبادر بكلمة تظهر معرفتي بما يخبئه، يقول لي:
صوفيا موحشتكش
= جدًّا.. نفسي أشوفها
يبتسم ابتسامته الماكرة.. ويقول
– هي مستنياك انهاردة
ذاع صيت القبطان في أرجاء الكومباند وانتشرت سمعته انتشار النار في الهشيم، حتى أن البعض راح يتقرب إليه طمعًا في تناول ما يطهوه مجانًا، وصار الرجل (القبطان) مرجعًا ومصدرًا موثوقًا به في كل ما يتعلق بالطعام، وللحقيقة الرجل كان يجد متعة غريبة في إطعام أصدقائه وأحبابه، وكان حريصًا ألا يتبقى شيئًا في ثلاجته مما يطبخه، وما يتبقى يوزعه بالتناوب ووفق ترتيب منضبط لعمال الأمن.

في يوم من الأيام استشاره المهندس يوسف ندا عندما دعا أهل خطيبة ابنه، وقال له محفزًا أريد شيئًا يرفع رأسي بعد الحفاوة التي لقيتها في بيتهم، فبماذا تقترح عليّ.. لم يفوِّت القبطان الفرصة، وطلب منه طلبين فقط لا ثالث لهما.. أولهما: أن يحضر قائمة الطلبات التي كتبها بعناية دون نقص أو زيادة، وثانيهما: أن يترك له المطبخ في بيته وهو سيقوم بالمهمة، وأضاف طلبًا ثالثًا بتوفير أحد (صبي) يساعده، على أن يكون هذا الأمر سرًا بينه وبين أهله بيته.
انتظر القبطان موافقة الدكتورة نهى زوجة المهندس يوسف ندا، التي تهللت أساريرها ورحبت بالفكرة التي لم تكن تخطر على بالها، فهي متيمة بكل ما يصنعه القبطان، وحاولت كثيرًا دعوته على الغداء، لكنها لم تجرؤ على هذا الأمر، وخشيت من المقارنة، خصوصًا أن المهندس يوسف ندا كثيرًا ما تناول أطباقًا عند القبطان، ورأت إنه من الذوق دعوته على غداء مرة مقابل ما يغدقه على زوجها، لكنها لم تفعل.
في صباح يوم العزومة دق جرس باب شقة المهندس يوسف الساعة الثامنة صباحًا، وقد فوجئوا به حاملًا حقيبة أدواته الخاصة، استأذنته د. نهى أن تكون مساعدة له في إنجاز مهمته لأن "يوسف" لا يعرف شيئًا في المطبخ ولن يفيده، رحب بالفكرة، وبدأ مهمته بمعاونة جيدة وواعية من مساعدة بدرجة دكتوراه، واكتفى "يوسف" بتصوير المهمة لتكون وثيقة للتاريخ..
أنجزت المهمة على خير، وكان حدثًا جميلًا استمتع به أهل البيت، تخلله الضحك الذي لم ينقطع لحظة، وعند الساعة الثالثة ظهرًا كان كل شيء جاهزًا على السفرة، وقبل موعد حضور الضيوف بساعتين، أبدع القبطان كما لم يبدع من قبل واستعرض مواهبه في صنع أطباق ذهبت بعقل الضيوف، حتى أن أم العروسة لم تكف عن طرح الأسئلة المتوالية على الدكتورة نهى التي لم تجد سبيلًا غير الاعتراف بأنها لم تفعل شيئًا سوى إعداد العصائر والمشروبات، وأن الأمر برمته يرجع للقبطان.
بدأ الأصدقاء وبمبادرة فردية في عرض أطباق القبطان على صفحات التواصل الاجتماعي، وسرعان ما صمم له أحد أبناء الأصدقاء صفحة على الفيس بوك، ثم تحولت بعد ذلك إلى قناة يوتيوب، وبعد شهور قليلة تعاقدت معه إحدى القنوات الفضائية ليقدم برنامجًا عن الطبخ، وبعد مرور عام أصبح القبطان وبرنامجه الذي حمل اسمه من أشهر برامج الطبخ في الفضائيات، واستضافته جميع المحطات والإذاعات، أجنبية وعربية، ساعده على ذلك اتقانه أكثر من لغة واطلاعه المستمر ومحاولاته المستمرة في اختراع أشياء لم تكن معهودة، أتذكر أنه دعاني لتناول ورق العنب مع سلاطة الزبادي، وأثناء استمتاعي بالأكل، قال لي: هل هناك شيء ناقص، أجبته: بالعكس، ثم أضاف بعضًا من حبات العنب على طبق سلطة الزبادي، وعندما اندهشت مما فعله، قال لي: جرب وقل رأيك.. فكان خرافيًّا وممتعًا للغاية.
لو كان استسلم القبطان للعزلة ما كان شعر بكل هذا الدفء والونس الذي ملأ حياته، فالمال لم يكن شاغله، فهو ميسور، فالرجل فتش عن الأشياء التي يعشقها ومارسها بحب ومن دون ضغوط أو تطلعات، فكانت طوق النجاة من الوحدة وأغدقت عليه كثيرًا من الخير.. ولأنه رجل أصيل وابن ناس لم ينسِ أصدقاءه وظل يغدق عليهم بهداياها ومحبته.. وما زال..