الأربعاء ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

عوالم الليل

ما راعني شيء في عالم اليقظة إلا تمكنت منه في عالم النوم الذي يخضع فيه كل صعب فيصبح كما نريد، ويقترب فيه كل بعيد، ويعود فيه ما انقضى، وتتعطل فيه قوانين الزمان والمكان، فكأن الواقع يغيب مع الشمس ويولي هارباً مع حلول سلطان الليل الذي يغشى الكون بهيبته ووقاره.

الليل، مستراح المعذبين من آلامهم، من صخب الدنيا وأحاديث الناس، تغيب فيه وجوه الحاضرين وتأتي أطياف الغائبين فتداعب خيال المرء وتطمئنه بأن الصبح بعيد فالشمس على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، وطريقها طويلة ووعرة.
ولا يعرف المذعور طمأنينة إلا في دجى الليل، ولا سيما في تلك اللحظة التي يطبق فيها أجفانه عن هذا العالم ويتهيأ للسفر إلى عالم يصنعه كما يشاء، فلا حدود ولا قيود ولا سدود ولا جنود، ينتقل عبر الأزمان كما تطير النحلة من زهرة إلى زهرة، ويطوي شرق العالم وغربه في لحظة وكأنه عفريت من عفاريت الملك سليمان.

وفي الأيام العصيبة، أستعجل الليل ويستبطئني، ثم يحلّ هذا الضيف الكريم، فأغفو ولا أبالي بما وقع في ساعات النهار، فأراني في زمان لا يشبه زماني هذا، أجول مدينتي وكأن الحرب ما اقتحمتها يوماً، أنظر في المرآة فأجد وجهاً نضراً لم تفسده السنون وحوادثها، أتلفت من حولي فأجد الصحبة القديمة، والحبيبة الأولى، وشيوخ المدينة، ويتناهى إلى سمعي أصوات ألفتها منذ عهد قديم، تمتزج فيها ضحكات وجدالات، في منزل متواضع كان لسنوات طويلة عالماً صغيراً ليتني بقيت محبوساً فيه ولم أخرج منه إلى العالم الكبير!

بقيت على هذا الحال زمناً طويلاً، أتقلب بين لهيب النهار ودفء الليل، حتى غابت شمس ذلك اليوم المشؤوم وجاء ليله، أغمضت عيني فشعرت بنسمات الليل تداعب وجهي، وما هي إلا دقائق حتى فتح الليل أبواب العالم الآخر، رأيت كل شيء في مكانه إذ لم يجرؤ الزمن على العبث بالمشهد ليفسده؛ تجتمع العائلة في نفس المنزل، والأصدقاء القدامى في نفس الركن، والحبيبة الأولى واقفة عند مفترق الحلم، والمدينة القديمة، تلمع كجوهرة انتُزعت من قسوة الواقع وأعيدت إلى متحف الماضي.

كل جزء في المشهد كما كان منذ عقدين من الزمن، إلا أنا!

كنت أنا، بسنّي ووجهي الذي نقشته السنين، بروحي التي تحمل أثقال التجارب والذكريات، ومع ذلك، ظلّ كل شيء حولي كما هو، كأنني دخلت عالماً يحرسه الحب لا الزمن، ويمنعه الحنين من أن يتبدّل أو يذبل.

لم يأبه أحد إلى ملامحي الجديدة، ولم ينكروا عليّ فعلة الزمان الذي تمكن مني وعجز عنهم، فلا زلت ذلك الفتى المراهق في أعينهم جميعاً، وأما أبي فلا زال قوياً، وأمي في ربيع العمر الذي سرقته الأيام، وأما الرفاق، فأحاديثهم الحالمة التي تطغى عليها السذاجة والجهل بما يخفيه الدهر تدور على مسامعي ولكنني لا أشاركهم فيها كما كنت أفعل في ذلك الزمن، وإنما أنصت بهدوء يغلبه الشوق والإشفاق.

وأما بيت جدّي المتواضع الذي كان تجتمع فيه العائلة فوجدته قد تعاظم حتى أصبح كالقصر، وقد تجولت فيه لساعات طويلة، ومع ذلك، توجست خيفة من مشهده الغريب.

وفي زاوية المشهد، تقف الحبيبة الأولى وكأنها لم تغادر مكانها منذ ذلك الزمن البعيد، تنظر إليّ وثغرها متبسم، لم تسألني عن السنين التي مضت، بل كانت تنظر إلى قلبي، إلى شوق عظيم يتفجر فيه كالبركان، وإلى حب لم يذبل رغم العواصف التي مرّ بها.

اقتربت منها وقبل أن نتلامس، همس الليل في أذني قائلاً: "أنت تحلم".

وما خفت من اكتشاف زيف عالم جميل اختلقه عقلي وزارته روحي تلك الليلة، وإنما أفزعني شيء واحد، أن قوانين الزمن خضعت في الحلم فتركت كل شيء فيه كما كان إلا أنا!

ثم فهمت الرسالة.. فهمت أن هذا العالم القديم الذي أزوره في الحلم لم يُخلق ليعيدني صغيراً،

بل ليذكّرني أن ما كان، ما زال حيّاً، وأن الأماكن التي شكلت أولى نبضات قلبي لم تمت، وأن الوجوه التي رحلت أو غيّبها الزمن لا زالت تحيا في الذاكرة.

ولم يسأل أحد منهم كيف كبرت؟ وكيف نالت منك الأيام؟ ولماذا عيناك محمّلتين بهذا الحزن؟ لقد أسقطوا كل الاعتبارات واستقبلوني بوجهي الجديد، وروحي المثقلة، وأخبروني بأنهم ينتظروني في وطني الجديد؛ الحلم، في كل ليلة حين يضيق صدر النهار وتشرق شمسه التي لا أريدها، وطنٌ لا يحتله الزمان، ويفتح لي ذراعيه في كل مرة ويعيدني إلى العالم القديم، حيث استقبلني الجميع فيه كما استقبلت الأم ابنها بعد عودته من الحرب، فلم تسأله إن عاد منتصراً أو مهزوماً، بل عانقته بشوق وحسبها هذا العناق.

وقد أدركت سخف هذه الآلام التي أكابدها في يقظتي، وأن أثقال النهار لا سلطان لها عليّ إذا حلَّ الليل، ولست أبالي لقسوة الوجوه التي أصادفها في الواقع، ولا يعنيني الناس الذين ينكرون ملامحي الجديدة، ولا أولئك الذين يتهيبون من قلب صقلته التجارب، فلا يرون الإنسان كما هو بما يحمله من حب صادق وفكر نبيل، بل يرونه كما يريدون ويشتهون.

وعرفت أن الليل ليس مجرد ظلام يسبق الفجر، بل هو وطنٌ سرّي للقلوب المتعبة، لا يشيخ ولا يغدر، تسكن فيه الروح من أهل النهار، وتتحطم على أعتابه هيبة الزمان وجبروته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى