ابن المقفع، عالم لم ينفعه علمه
اعتقدت لسنوات طويلة أن كتب الأدب العربي ولا سيما القديمة منها ليست إلا قولاً مزخرفاً وبياناً حسناً، وما أعجبني من الموروث الأدبي إلا الشعر. لست ممن يحكمون عن جهل ولكنني وقعت في هذا الفخ، فتجنبت كتب الأدب لسنوات طويلة وقرأت كتباً كثيرة في علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ، ثم جاءني خاطر عن هذه الكتب؛ أيعقل ألا يوجد فيها ولو قليل من الحكمة؟ وعقدت العزم على قراءتها فقلت لنفسي إن وجدت فيها الحكمة فقد وجدت ضالتي وإن لم أجد فلعلي أحسّن بياني وأتقن فنون القول، واخترت مجموعة من الكتب كان منها كتاب الأدب الكبير لابن المقفع، فوجدته يزخر بالحكمة ويحمل بين طياته تجربةً فريدةً وفهماً واسعاً للنفس البشرية، وهو كتاب لا يتجاوز الثمانين صفحة ويمكن قراءة في ساعة واحدة.
يتألف الكتاب من ثلاثة فصول؛ الأول هو أدب السلطان وما ينبغي له أن يفعل وأن يتجنب، وأما الفصل الثاني فهو في أدب صحبة السلطان، وأما الفصل الثالث فهو في أدب الصحبة والمجالس. يبدأ ابن المقفع بمقدمة سريعة في الكتاب عن فضل الأقدمين، وحرصهم على كتابة ما تعلموه على الصخور خوفاً أن يسقط عمن بعدهم، وهم مشفقين علينا في ذلك إشفاق الأب على ابنه، ويحثنا على التعلم من علم الأولين والاستفادة من تجاربهم.
ثم يتحدث ابن المقفع عن أدب السلطان، وينصح السلاطين بألا يقع في قلوبهم حب المدح فتكون باباً لاقتحام الناس وغيبتهم، فمن يستطيب المدح كمادح نفسه، ثم يخبرهم عن رضا الناس بأنه غاية لا تدرك، فلا ينشغل السلطان إلا برضا الله ورضا من كان فوقه ورضا صالح الناس من الرعية، وعليه بصفوة الناس في كل قرية وقبيلة فليقربهم من مجلسه ويستشيرهم في كل أمر فمن شاور الرجال شاركها عقولها.
وليحرص السلطان على أن يطلع على أمور عماله، فإن أساء أحدهم خاف من السلطان قبل أن تقع عقوبته، وإن أحسن أحدهم استبشر بالخير قبل أن يكافئه السلطان. وكذلك في أمر رعيته، فليعمل على سد حاجة الأخيار منهم، وقمع طغيان الأشرار فيهم، وليحذر من جوع الكريم وشبع اللئيم! وفي سماع النصيحة فليصبر السلطان على من خالفه من ذوي النصيحة، ولا يسمعنّ النصح إلا من أهل العقل والسن والمروءة.
أما المال فلا يغني جميع الناس فليخصص به أهل الحق، وأما القلب والوقت فلا يتسعان لكل شيء فليفرغهما للمهم، وليتجمل السلطان بالصبر فلا يعجلنّ بغضب أو رضا، ولا يكوننّ قليل الكلام ولا مفرط البشاشة، فالأولى كبر والثانية سخف.
وفي صفات السلطان فلا يكذبنّ لأنه غير مكروه على ذلك، ولا يبخلنّ فهو أقل الناس خوفاً من الفقر، ولا يحقدنّ فهو أجلّ من أن يتنزل إلى مثل هذا، ولا يكوننّ حلافاً، فالرجل لا يحلف إلا لمهانة يجدها في نفسه أو لحاجة إلى تصديق الناس إياه أو لعبث بالقول أو عيي بالكلام! ولينظر بعين الريبة في كل أمر فما أكثر الذين يزينون له الأمور من الجلساء والوزراء.
وفي نصيحة ثمينة للسلاطين الجدد، يقول ابن المقفع: إذا كنتَ في بداية حكم جديد أو في مرحلة تأسيس دولة جديدة، ورأيت أموراً تسير بشكل جيد من دون تخطيط منك أو دون مشورة، ورأيت أعواناً ينجحون في أعمالهم من غير جهد كبير أو من غير أن تعطيهم شيئاً، فلا تنخدع لهذا ولا تطمئن إليه، لأن الحكم الجديد له هيبة في نفوس بعض الناس وطمعاً في نفوس بعضهم الآخرين وهو ما يعين الناس على أنفسهم فيعينك عليهم، ولكن هذا لن يدوم طويلاً فما يلبث إلا أن يستقر الحكم ويعود الناس إلى طبيعتهم فلا تترك الحزم والعمل الجاد.
أما في صحبة السلطان فهي ابتلاء إن استطعت أن تصرفه عنك فافعل، وإلا، فاسمع ما يقوله ابن المقفع: "إذا رأيتَ السلطان يجعلك أخًا فاجعله أبًا، ثم إن زادك فزِدْه"، فلا تعاملنّ السلطان معاملة الند! وإن استطعت أن تصاحب من عرف عنك صلاحك قبل ولايته فافعل، فالوالي لا علم له بالناس إلا بما قد علمه من قبل أن يصبح والياً، وكل الناس بعد ذلك يتزينون أمامهم وخاصة الأنذال والأرذال، ولذلك، نجدهم مقدمين على غيرهم من أهل الفضل الذين تعف أنفسهم عن التصنع.
إذا حدثك السلطان فأصغ إليه ولا تنظر إلى غيره ولا تشغل أطرافك بعمل ولا قلبك بحديث نفس، واحرص على هذا، وتجنب تملق السلطان ولا تكثرنّ الدعاء له في كل موضع إلا إذا كنت تكلمه على رؤوس الناس فلا ضير في تعظيمه وتوقيره. واعلم أن لكل رجل غالبة حديث عن بلد من البلدان أو عن علم من العلوم أو عن صنف من أصناف الناس، أو وجه من وجوه الرأي، يحدث بها في كل جلسة، فلتحذر من أن يُعرف عنك غالبة حديث وخاصة في مجالس السلاطين، فهي دلالة على الهوى، ولا يقبل السلطان رأي من كان له هوى، فاختلاط الرأي بالهوى عندهم خديعة وخيانة وكفر.
واستعن على بلاء صحبة السلطان بالصبر ورياضة النفس على ما تكره، فوافق السلطان فيما خالفك به، ولا تكتم سرك عنه ولا تستطلعه على أسراره، واجتهد في رضاه ونشر فضائله إن أحسن وستر قبائحه إن أساء، ولا تذكرنّه بحقك عليه بقول صريح، بل بنصحك واجتهادك في خدمته، ولا يقع في قلبك عتب عليه، فيظهر على وجهك إن كنت حليماً أو على لسانك إن كنت سفيهاً، وتلك عورة إن ظهرت للسلطان نفر منك أو استخدمها من حوله فذكرها له وأوقع بك، وإن ذكرك أحدهم بسوء عند السلطان فكن حليماً ودافع عن نفسك بالحجة والعقل، ولا تتحدث إلا لضرورة أو جواباً لشي سئلت عنه.
وإذا ابتليت بصحبة سلطان لا يريد صلاح رعيته، فلا حيلة لك إلا الموت أو الهرب، فاصبر حتى تجد إلى الفراق الجميل سبيلاً، وحين يرى السلطان رأياً أو يفعل فعلاً خاطئاً، فتجنب تصحيح الخطأ بالمواجهة، بل زين له الطريق الصحيح وكن صبوراً على ذلك، حتى تستحكم منه، واعلم أن الصواب يؤيد بعضه بعضاً ويعين على الإبصار في مواضع الخطأ وتصحيحها، فكلما زاد الصواب قلّت الأخطاء.
واحذر من أن تبدي للناس أمراً وتخفيه عن السلطان، وجانب المسخوط عليهم فلا يجمعنّك وإياهم مجلس ولا منزل، ولا تثنٍ عليهم خيراً عند الناس، وإذا أردت أن تشفع لمسخوط عند السلطان، فلا تفعل قبل أن يستيقن السلطان من مباعدتك له، حينها، ضع عذره عند السلطان برفق.
أما حاشية السلطان فاحرص على ألا تعاديهم مهما بلغت عند السلطان من مكانة، ولا تزاحمهم على مكانتهم عنده، فإذا حدثتك نفسك بذلك فامنعها! وإذا أظهر أحدهم رأياً حسناً فلا تنتحله، وإذا استطعت أن تزينه وتسند ذلك إليه فافعل! وإذا سأل السلطان حاشيته وكنت فيهم فلا تكوننّ أول مجيب، فإن سبقت القوم واجهوك فيما قلت، وإن سبقوك اعترضت أقاويلهم بعد تدبر وتفكير، وإن قضي الأمر قبل أن تتحدث كنت في أمن وعافية.
وفي أدب الصحبة فأول ما ينصح به ابن المقفع أن يبذل المرء دمه وماله لصديقه، فإذا نابت صديقك نائبة وحل عليه البلاء فقد وقع عليك أيضاً، فالأصدقاء هم خير مكاسب الدنيا؛ زينة في الرخاء، وعُدَّةٌ في الشدة، فاحرص عليهم أكثر من حرصك على نفسك. وإذا سرّك ألا يدبر عنك صاحب فلا تزيدن في الإقبال عليه فإن الإنسان مجبول على أن ينفر ممن يلصق به ويلصق بمن ينفر منه. والبس للناس لباسين؛ لباس التحفظ والحذر تلبسه للعامة، ولباس الراحة والاستئناس تلبسه للخاصة من الثقات.
وإذا أعجبك رأي صاحبك فلا تنتحله وانسبه إليه، فإن انتحلت رأيه وكان حاضراً في المجلس، جمعت مع الظلم قلة الحياء! ولا تكذّب حديث صاحبك أو تسخّف قوله أو تجادله في خطأ، وإذا أردت ذلك فافعله بالستر في خلوة بينكما، ولا تكثرنّ ادعاء العلم مع أصحابك فإما يجادلونك فيه فيظهر جهلك وإما يخلوا بينك وبين ما ادعيته فيظهر منك التصنع والعجز، واستح من إخبار صاحبك بأنك عالم وأنه جاهل، تصريحاً أو تلميحاً! وإن لمست في نفسك فضلاً على صاحبك فتحرّج من ذكره فإن ظهر منك هذا سيعيبك أكثر مما يقرر لك من الفضل، ولا تغلب صاحبك عند كل كلمة ورأي فذلك ضعف عقل ولؤم أخلاق. وإياك أن يرى صاحبك منك ولعاً بأحد أصحابه أو إخوانه فإنها ثقيلة على نفسه، وحسبك اللطف بهم دون الولع.
ويقول في أدب المجالسة والحوار؛ لا تجالس الرجل بغير طريقته، فلا تلقى الجاهل بالعلم، فيضيع علمك وتحمّل جليسك بما ينوء به، كما يحمل الأعجمي غمّ مخاطبة الفصيح، وليحذر المرء من لسانه فليس في كل حين يحسن كل صواب، وليس من تمام الرأي أن يكون سديداً فقط ولكن أن يُقال في موضعه، ولا تخلطن الهزل بالجد ولا الجد بالهزل إلا إذا تعرضك سفيه فيمكنك الخلط والإجابة بهزل وجدّ مع طلاقة وجهك وثبات منطقك. وإذا كنت في مجلس فلا تعيبنّ أو تشتمنّ أمة من الناس في انتمائهم أو صفاتهم أو أسمائهم فقد يقع قولك على بعض أعراض جلسائك. ومن الأخلاق المذمومة مغالبة المتحدث واعتراضه في كلامه ومقاطعته، ومسابقته في الحديث ومشاركته فيه لتخبر الجلساء أنك تعلم ما يعلم، وفي ذلك خفة وسوء أدب وسخف! فتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم وعدم مقاطعته والإقبال بالوجه والنظر إليه، ووعي ما يقول. واحذر المراء، ولا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدق فلا تخبر بما تسمع كما يفعل السفهاء. ومن سوء المجالسة أن يرى الرجل نعمة في صاحبه فيتحدث بلسان الواعظ عن زوال النعم وفناء الدول، ولا ينزل قوله هذا في الموعظة بل في الضيق من نعمة وجدها في صاحبه!
وفي اختيار الصحبة، فاحذر من مؤاخاة الناس قبل التثبت من معادنهم، فإن آخيت أحداً ثم قطعته كانت سبة عليك واتهُمت بالخيانة ولو كنت معذوراً فيما فعلت، فالصاحب ليس كالمملوك تعتقه متى شئت، ولا كالزوجة تطلقها متى شئت. وإذا رأيت صاحبك مع عدوك فلا تغضب، فإما هو صاحب ثقة وأنفع مواطنه أقربها لعدوك، فيكفيك شره أو يستر عنه عيوبك، وإما هو رجلاً ليس من خاصة إخوانك ولا حق لك بأن تقطعه عن الناس. وإذا رغبت في صحبة رجل ذو هيبة، وعجزت عن ذلك لمكانته الرفيعة، ثم ضاقت به الدنيا وعرفت أن دنوك منه لا مذلة فيه فاغتنم ذلك. ولا تصاحب أحداً إلا لمروءة، وإن غنمت بهذه الصحبة فاحذر من أن تغريك المودة فتسقط الحدود بينك وبين صاحبك فيسقط معها وقار الصحبة.
وفي التعامل مع الصاحب، يقول ابن المقفع؛ إذا استشرت صاحباً فاعلم أن الرأي ليس بمضمون والمستشار ليس بكفيل، وقد يشير عليك ثم لا تجد عاقبة ما تأمل، فلا تلومنّه ولا تقل له: "أنت فعلت هذا بي، ولن أطيعك في شيء بعدها". وإن كنت أنت المشير وعمل برأيك فلا تمنن إذا نجح ولا تلومنّه إذا لم يعمل به. ولا تعتذر إلا لمن يحب أن يجد لك عذراً، ولا تستعن إلا بمن يرجو نجاحك ونيل حاجتك، ولا تحدّث إلا من يرى حديثك مغنماً إلا إذا اضطررت فلا حرج في ذلك. وإذا جاءك صاحب معتذراً فتلقه بوجه مشرق إلا أن تكون قطيعته غنيمة.
أما في الأخلاق العامة، فيحثنا ابن المقفع على السخاء والعلم، ويقول في السخاء بأنه سخاءان؛ سَخاوةُ نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس، فإن جمعهما فبذل وعفّ فقد جمع الخيرين. ويقول في العلم أنه علمان، علم للمنافع وعلم لتذكية العقول، وليحبب المرء نفسه العلم حتى يلزمه فيصبح لهوه ولذته وتعلله وشهوته. ومن أقبح الأخلاق الإفراط في التعلّق بالنساء لما فيه من ضرر الدين والجسد والمال والعقل والمروءة، وأنه أسرع طريق لذهاب هيبة الرجل، والمبتلى بهذا التعلّق لا يرضى بما عنده، بل تنظر عيناه دائمًا إلى ما عند غيره. وإن جميع النساء متشابهات، وما يتخيّله الرجل من جمال المرأة البعيدة أو المجهولة وهم وخداع؛ لأن كثيرًا مما يتركه الرجل عنده قد يكون أفضل مما ينجذب إليه من غيره. وإن مال لامرأة وتمكن منها وجد أنها كغيرها، ومع ذلك، يظل أسيراً لهذا الوهم ويعيد التجربة مع امرأة جديدة، وهذا هو الحمق والشقاء، فمن لم يهذب نفسه ويكبح شهواتها في وقت القدرة، فإن أقل ما يقع به أن تفتر شهوته وتضعف قواه ويفقد الشعور باللذة ويفقد مروءته معها. وإذا احتار المرء في أمرين لا يدري أيهما الصواب فلينظر أيهما أقرب إلى الهوى مخالفة، فإن أكثر الصواب في مخالفة هوى النفس.
وله في الحسد رأي سديد إذ يقول أن أفضل ما يناله المرء هو صحبة من هو خير منه، فإذا كان صاحبك أعلم منك، أخذت من علمه واتسع فهمك، وإذا كان أقوى منك، سدّ عنك ما تعجز عنه وحماك إذا احتجت، وإن كان أوسع منك مالًا، نالك من خيره ومعونته، وإن كان ذا مكانة بين الناس، قضيت حاجاتك بجاهه، وإن كان أتقى منك وأقرب إلى الله، حملك صلاحه على أن تكون أصلح وأقوم.
وإذا أردت أن تكون صاحب دهاء وذكاء، فلا تطلب أن يعرفك الناس بذلك، ولا تُظهر رغبتك في أن يُقال عنك إنك داهية. لأن الناس يتحسّبون ممن عُرف بالدهاء ويعاملونه بالحذر، فالضعيف يهرب منه والقويُّ قد يتحدّاه أو يقف له موقف الخصومة.
فالدهاء المعلن يجعل صاحبه مكشوفًا ومُستهدفًا. وأذكى الناس من يُخفي حِيلته وفهمه قدر استطاعته، حتى يظنه الناس سهلاً في طباعه، واضحًا في سلوكه، مستقيمًا في طريقته، لا يُضمر أمرًا ولا يعتمد حيلة. فإذا وثق به الناس ولم يشعروا بدهائه، استطاع أن يستخدم عقله بسلام دون أن يثير ريبة أحد. ومن العقل والحكمة أيضًا ألا تُظهر المكر أو المواربة مع العاقل المستقيم؛ لأن مثل هذا الشخص سيفطن إلى نواياك الخفية، فيمقتك ويكرهك، ويقطع عنك ما كان يمكن أن تربحه منه. وإن أردت السلامة، فليكن في قلبك خوفٌ داخلي وهيبة من الأمور قبل الإقدام عليها، تفكير وحذر، ولكن من غير أن تُظهر هذا الخوف للآخرين؛ لأنك لو أظهرت ترددك وضعفك، تجرّأ عليك الناس، وازدادت المخاطر التي تخافها. فالحكمة أن تكون حذرًا في باطنك، ثابتًا في ظاهرك.
وفي حديثه عن العداوة فيحذّر ابن المقفع من إخبار العدو بأنه عدو فذلك يجعله أكثر حذراً ويمنحه الفرصة للاستعداد والمواجهة، كما أنه أرفع لقدرك أن يرى عدوك أنك لا تتخذه عدواً، وإذا استطعت تجاوز العداوة واغتفارها فهذا أجل وأرفع. وإذا مضيت في العداوة فأنصحك بالتقرب من أصدقاء عدوك وإخوانه واجعلهم أصحاباً لك فيعينوك عليه، وإذا عوديت ليكن ردك بقدر العداوة، فلا تعادي جهراً من يعاديك سراً، ولا تكافئ الضرر بمثله، فلا تسرق رداً على السرقة، ولا تخن رداً على الخيانة. ولا تُهمل مراقبة عدوك، بل عليك أن تُحصي بدقّة عيوبه ونقائصه وزلاته وكل ما يمكن أن يكون نقطة ضعف لديه، فلا يغيب عنك صغيرها ولا كبيرها، واحفظ هذا كله لنفسك فلا تفضحه ويعرف عدوك أنك عرفته فيحتاط له، وتكون كمن يملك سهماً فرماه في الهواء بدلاً من أن يسدده إلى الخصم. أما عيوبك فغالب عدوك بإصلاحها، وإن عجزت عن بعضها فاحفظها جيداً واجعلها نصب عينيك فقد يعرفها العدو ويستخدمها ضدك. ويختتم ابن المقفع بنصيحة هامة، فيقول بأن المرء إذا سمع عن شيء يعرفه في نفسه وكان يطمع في إخفائه عن الناس سيظهر ذلك على وجهه، فلتحذر من هذه المواقف واستعد لبغتاتها جيداً.
وبعد أن قرأت درر القول في الأدب الكبير، انتابني فضول شديد للتعرف على كاتبها، فمن هو ابن المقفع؟
وُلد عبد الله بن المقفّع، واسمه قبل الإسلام روزبه بن داذويه، نحو سنة 106هـ/724م في جور بفارس، ثم نشأ في البصرة حيث تلقّى علوم العربية والبيان حتى فاق العرب فصاحةً ونظماً. عاش ابن المقفع في أواخر العصر الأموي وبدايات العصر العباسي. كان أبوه يُلقَّب بالمقفع بعد أن عاقبه الحجاج بن يوسف لتهمة السرقة من مال المسلمين فضربه على يديه حتى تشنجت أصابعه وتفقعت. نشأ ابن المقفع على المجوسية المانوية، ثم أسلم متأخرًا، ودخل العربية دخول المتمكّن، جامعاً بين الفارسية التي ورثها، والعربية التي أتقنها، واليونانية والهندية التي اطّلع على أدبها، ما أتاح له الاطلاع على ثقافات واسعة حتى أصبح أحد ألمع كتّاب القرن الثاني الهجري.
امتازت مؤلفاته بعمق الحكمة وجمال العبارة، فدوّن الأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة، ونقل كليلة ودمنة إلى العربية نقلًا بديعاً حرر فيه الأسلوب وزيّن العبارة، حتى صار من روائع التراث العالمي. وكان ابن المقفع صاحب مروءة ووفاء، حاضر الذهن سريع الجواب، لكنه كان شديد السخرية، لا يتجنب لذع الكلمة ولا يمتنع من الطعن فيمن يستخف بهم. ومن هنا بدأت خصومته مع والي البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، إذ كان يعبث به ويهزأ منه، حتى إنه كان إذا دخل عليه قال: "السلام عليكما"، مشيرًا إلى سفيان وأنفه الكبير، فاشتد ذلك على الوالي وأضرم في نفسه حقدًا دفينًا، ثم قتله بتهمة الزندقة ولم يوجد في آثاره ما يدل على ذلك، وإنما كانت جرأته على سفيان هي من أودت به
اشتد الخلاف بينهما حين قذف ابن المقفع أمَّ سفيان بكلمات جارحة أمام الناس، فازداد غيظ الوالي وأقسم ليقتلنه قتلة فريدة. فلما استدعاه واجهه بقوله: "أما تذكر ما كنت تقول عن أمي؟" وحين طلب ابن المقفع العفو قال له سفيان: "أمي مغتلِمة كما قلت، وسترى إن لم أقتلك قتلة لم يُقتل بها أحد قبلك". فأمر بتنّور فأوقده حتى احمرّ، ثم أمر رجاله بتقطيع أطراف ابن المقفع عضواً عضواً، وكلما قطعوا عضواً قال: "ألقوه في النار"، فيشاهده يحترق أمامه حتى مات من شدة التعذيب.
وبعد أن فرغت من قراءة الكتاب وقصة ابن المقفع سألت نفسي: "كيف يضل رجل حكيم كابن المقفع فيعبث مع الوالي ويثير في نفسه هذه العداوة فيقتله؟". أعتقد أن الفترة التي عاش فيها ابن المقفع كانت مليئة بالاضطرابات السياسية فعند انقضاء دولة وقيام أخرى يكثر الهرج والقتل، وقد يكون ضحية لهذه الفترة المضطربة، ومن الممكن أن مؤلفاً من مؤلفاته قد تسببت بقتله، أو ربما قد زينت له نفسه ما فيها من الحكم والعلم وفصاحة اللسان وحسن القول فتجرأ على الوالي، وقد يكون سفيان ظالماً جائراً ورأى في ابن المقفع من العلم والفضل ما لم يجده في نفسه فأضمر له العداء، وربما قد تواطئ ابن المقفع مع أعداء الدولة ثم انكشف أمره. ولكن، أياً كان السبب، أرى أن ابن المقفع كان له من العلم حظ عظيم ولكنه لم ينتفع به، ولا أظن أنه كان سيموت هذه الميتة الشنيعة لو عمل بكلّ أو بعض ما كتب في هذا الكتاب، وليس هذا حال ابن المقفع، بل حال الكثيرين من أهل العلم الغزير الذين لم ينتفعوا بعلمهم فتقدم عليهم من هم أقل علماً وحكمةً، فاللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع!
