الأحد ٢٥ آذار (مارس) ٢٠١٨
القدس جوهرة المدن..

غواية المكان في شعر جمال سلسع

أمين دراوشة

في الشعر الفلسطيني مثلت فلسطين مكانا حيا، كما مثلت مكانا للمقاومة والنضال والصمود، وحلم بالتحرر. وإن كنا نتحدث عن القدس فهي مكان يختزن التاريخ، ويتنبأ بالقادم الجديد. إن المدنية في مجتمعنا الإنساني المعاصر، تشكل ظاهرة مكانية عميقة، ففيها يعيش الإنسان، ويرتبط معها بعلاقة معقدة تؤثر فيه ويؤثر فيها، فهي ليست حدودا جغرافية وحسب، بل هي مكان ذي وجهين كما يقول الناقد ياسين النصير، الأول يمثل الإطار الخارجي ويشمل الظواهر المادية المعيشية، أما الثاني فمتعلق بالجانب "الروحي العميق للمدنية الذي يجعلها مكانا زمانيا، يثير بساكنيه إحساسا عميقا بالمواطنة، والتماهي مع واقعه وماضيه، ومع هموم ساكنيه ومطامحهم". (1)

وعدّ بعض علماء الاجتماع المكان" امتداداً للجسد، ومعبّرا عن قاطنيه، فوصف المرء للأماكن وانتقاله عبرها يسمح له بالتعبير عن القيم الفردية والجماعية لقاطني تلك الأماكن". (2) وكذلك وصف لحالتهم الاجتماعية والاقتصادية. وقد ميز بيتريم سوروكين بين المكان الهندسي ذي الأبعاد، والمكان السوسيوثقافي الذي يتعلق "بالمكانة الاجتماعية التي يشغلها الإنسان في طبقته وأسرته ومجتمعه ومن ثم يختلف المكان الهندسي عن المكان الاجتماعي". (3) ولا يصح الخلط بينهما أو أن يقوم أحدهما مقام الآخر. ويورد علي عبد المعطي في كتابه رأي موريس هاليفاكس في الزمان والمكان فهما "إطاران اجتماعيان للذاكرة، حيث يكونّان الإطار الذي تختزن فيه الذكريات الاجتماعية". (4) فهما الوعاء الذي يختزن التراث الحضاري ويحافظ عليه.

فالمكان كيان اجتماعي، ويحتوي خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، فشأن المكان شأن أي نتاج اجتماعي آخر لذلك هو "يحمل جزءا من أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه. ومنذ القدم وحتى الوقت الحاضر كان المكان هو القرطاس المرئي والقريب الذي سجل الإنسان عليه ثقافته وفكره وفنونه، مخاوفه وآماله، وأسراره وكل ما يتصل به وما وصل إليه من ماضيه ليورثه إلى المستقبل". (5) وفي علم النفس يورد عز الدين إسماعيل في كتابه إن علماء النفس يعتبرون "حقيقة المكان النفسية تدلل "إن الصفات الموضوعية للمكان ليست إلا وسيلة من وسائل قياسية تسهّل التعامل بين الناس في حياتهم اليومية". (6) وفي مقدمة ترجمته لكتاب جماليات المكان، قال غالب هلسه أنه ونظرا لاهتمامه في مسألة المكانية في الأدب العربي لاحظ أن: "العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته وبالتالي أصالته". (7) وفي دواوينه الشعرية كانت القدس جوهرة المدن، وظهرت كمدينة حزينة، وعطشى للفرح، يقول الشاعر في قصيدة "القدسُ تبحثُ عن قَطْرةِ ماء!": "عتمةُ حزنٍ... سكنتْ... فوقَ شبابيكِ الروحِ،وما اعطتني هديلَ حمامٍ بَقِيتْ تنزفُ روحيبدماء الوقت، فصارَ القلبُ حريقةْ". (8) إن التغيرات في المكان من قبل المحتل، انعكست على أسلوب حياة الشاعر وسلوكياته وحتى أحلامه. والشاعر يحس بالتقصير في تخفيف ألم القدس، ونسيانها أحيانا:

ويستمر بوصفها:

"أمسى النسيانُ مكاناً
يمشي بشوارِعِها...
كوثيقةْ
ومساجدُها وكنائِسها...
مثلُ صحاري
تبحثُ عن قطرةِ ماءٍ
ما طلَّ على عطشِ الروحِ،
سحابُ يهمي...
تستافُ رحيقَهْ!". (9)

ولكن القدس لا يمكن نسيانها، فهي شمس الحقيقة والتاريخ، يقول:

"لكنَّ شوارعَها...
تتكلَّمُ فيها حجارةُ شمسٍ
ما زالتْ في التاريخ،
عتيقةْ". (10)

وهو يسير في متاهاته التي لا تنتهي، وكأنه نسي غده وراءه، وغابة النسيان تطيح به، يقول:

"وأنا ما عدتُ أرى
منديلَ الفجرِ،
على كتفيها حديقةْ
كيف ألُّم على يدِها
بوصلةَ القمحِ؟
يدي ما حملتْ منجلَ حقلٍ
أمستْ في الأعذارِ،
غريقةْ!". (11)

إن التقصي عن هوية المكان في شعر جمال سلسع، يضع اللبنات الأساسية لدراسة هويته الشعرية، فالمكان بنية لها أبعادها، وظلالها النفسية والاجتماعية... فالمدنية المكان لا تشكل بالنسبة له فضاء جغرافيا فقط، بل هو كائن حي يلبسه الشاعر من المظاهر ما يجعل منه "معادلا موضوعيا لما يدور في داخله من أحاسيس ومشاعر". (12)

وفي قصيدة "أتسأل من أنا الفلسطيني؟!" يتحدث فيها عن عروبة القدس، وعن الأباء الذي يسكن كل شيء فيها حتى هديل الحمام، يقول:

"وعندما التقتْ
خطا السماءِ بالثرى
أنا هناكَ كنتُ أوقدُ الشموعَ،
لهفةً...
أرى السماءَ في عباءةِ الشذا
تُقبِّلُ الصلاةَ في عيونِ قدسِنا
فألمس الفصولَ،
في عروبةِ المكانِ،
تَنتشي جُذُورُها
على انتماءِ أرضي بالسماء،
منذُ قالَ ربُنا الإلهْ:
"وكانَت الثرى"
أنا هُنالكَ كُنتُ أحملُ الندى
ولا يزالُ في يدي
هنا أنا...". (13)
فهي أول الدنيا قبل تغريد الطيور والقمر والبحار...
"فللثرى بحارُها...وللطيورِ عشُها...
وللمروجِ أهلهُا...
فكيفَ ألغي حاضري
أنا هنا...
ولا أزالُ اسرجُ المكانَ،
صهوةً...
على دمي
أنا هنا...أنا القدسْ...". (14)

إن تجربة الشاعر الفلسطيني تجربة إنسانية، لذا فالمكان بالنسبة له متشابك مع الذاكرة الجماعية، هذه التجربة غالبا ما تستعيد المكان بواسطة الشعر، المكان الذي سرق وغاب، أو تعبر عن القلق والرعب من خسارة المكان الحميمي، فالذات الشاعرة ترتبط بالمكان بوشائج لا يمكن فصلها، هذا الارتباط القوي، والخوف من ضياع المكان يؤدي إلى ولادة المقاومة رغم النفي القسري، والاغتراب الذي يأكل روح الشاعر.
يقول في قصيدة "تكتبُ لمسةُ الربِّ الإلهِ عروبةَ القدسِ":

تكادُ بروحِها أنْ ترشفَ الأنوارَ،
من نبعِ السماءِ قداسةً
فتلألأتْ في صفحةِ التاريخِ،
تكتبُ لمسةُ الربِّ الإلهِ
عروبةَ القدسِ". (15)

هذه المدينة المقدسة، مدينة الرب، التي سار فيها الأنبياء، وصلوا فيها، وعاش فيها الشاعر طفولته المسروقة، والتي لا يكف الشاعر عن الاشتياق لها، أصبحت مدينة موجوعة بالاحتلال القاسي، حيث يصيح القمح ألما،

"وصاحَ القمحُ مذبوحاً
من البخسِ". (16)
ويقول:
"واليومَ أتركُها على ظمَأٍ
وفي أقفاصِ عزلتِها
تصيحُ كنكبةٍ أخرى،
تُبلِّل في همومِ نهارِها،
ما عاتبتْ في ليلِها
همسي". (17)

يحس الشاعر بالخوف والقلق واليأس لضياع مدينة المحبة، ويطلب من الله أن يساعده على تحمل ألمه، يقول:

"على قلقي أَعنِّي يا إلهي
يشربُ المحتلُّ تاريخي
وكأسُ القدسِ،
بينَ يديَّ مكسورٌ
فكيفَ على هبوبِ الشوقِ،
أرفعُ في العلى رأسي؟". (18)

فالقدس التي تسكن في وجدان الشاعر، وتملك لبه، لم يرتق في حبها، وتركها تضيع دون مقاومة، يقول:

"فَيَجْبِلُني النداءُ، على متاهةِ لحظتي
ندماً...
يطوفُ على همومِ القلبِ،
يشربُ من مذلَّةِ دمعِهَا
كأسي!
فما هبَّتْ سواعدُ خطوَتي
سيفاً...
فأبكتني شوارعُها
وأدمتني أزقَّتُها
فيا ويحي، الندامةُ أهلكتْ قلبي!". (19)

ويكرر في نهاية القصيدة، إن الله لن يترك القدس لمصيرها:

تكادُ بروحِها أنْ ترشفَ الأنوارَ،
من نبعِ السماءِ قداسةً
فتلألأتْ في صفحةِ التاريخِ،
تكتبُ لمسةُ الربِّ الإلهِ
عروبةَ القدسِ". (20)

ويستمر الشاعر في توبيخ نفسه، لانها قصّر في الدفاع عن القدس، يقول في قصيدة "رحيقُ القُدسْ":

"فأينَ سأمضي
وأمامي خوفٌ
وورائي عجزٌ؟". (21)

وأيضاً في قصيدة "لوعةَ الشمسِ"، يقول:

"ودمعُ ندامتي يحكي:
ما ارتديتُ...
سوى ثيابِ الجبنِ
لما توَسّلتْ
في ليلِها تُرسي!". (22)

ويقول في قصيدة "أنكرتني كلُّ أشواق المرايا!":

"كيفَ الدخولُ إلى غدٍ
ورسالةُ الأقصى
يمامٌ بينَ أنيابِ الدجى
دمُها يصيحُ، على أزقَّتها الحبيسةِ،
أينَ تحملُ همَّها...
والهمُّ قد أبكى عيونَ القُدسِ؟". (23)

إن إشكالية الإنسان في المكان "إشكالية وعي الذات بوجودها وإمكانياتها وحقوقها. وهي مشكلة وجودية". (24) وتبدو إشكالية معقدة ومركبة في حالة المبدع.
والشاعر هنا لا يستكين، ولا ييأس من المحاولة، ويقوده شغفه بالقدس للتساؤل إذا كان الأمر سينتهي بالقدس إلى الضياع الأبدي، أم إن الشعب الفلسطيني لا يتراخى كعادته في إطلاق ثورته، التي سوف تمسح الشقاء عن جبين القدس.

يقول في قصيدة "سينساني الوجودُ إذا نسيتُ القدسْ!":

"على عطشٍ يمورُ بروحِها
قد دلَّني وجعُ القصيدةِ،
ما انتهى شغفي
يؤججُ لوعتي
فهلِ انتهى فينا الرجاءْ؟
أما من ثورةٍ
صعدتْ إلى زمنِ الخطيئةِ،
تمسحُ الآلامَ أجيالاً
لتُنهي في الربى
زَمَنَ الشقاءْ؟ (25)

ويخرج من تساؤلاته إلى الإيمان بقدرة الشعب على الثورة، فلا شيء قادر أن يحيَّ الأرض غير ثورة المطر التي ستندلع في نفوس أصحاب الكبرياء والحق، يقول في قصيدة "لا شيء":

"لا شيءَ فوقَ الأرضِ
يعشقُهُ المكانُ،
سوى سحابٍ...
قد همى...
بيد الأباةْ". (26)
ويضيف:
"لا شيءَ يبعدُ
عن هوائي الاغترابَ
سوى الحنينِ
لأبجديَّةِ ثورةٍ
تُلغي الغزاةْ". (27)

إن قصائد الشاعر تخلق لأنها منتمية لهذه الأرض الطاهرة، تولد من جغرافيا فلسطين، فإذا كان المنفى رمز البرد القارس، والشعور بالوهن، فإن استعادة المكان الفلسطيني تمنح الشاعر الدفء. ولا يكف الشاعر الفلسطيني عن إعادة إنتاج المكان وإعادة تكوينة في قصائده، فخسارة القدس وحيفا ويافا...جعلت المدن والقرى الفلسطينية لا تنفك تحفر في ذاكرة الشاعر، وقلبه ينبض باسمائها وبياراتها وبحرها وأسوارها، إنها محاولات الشاعر للارتباط بالأرض من خلال الشعر بعد أن حرمته قسوة الواقع من ملامستها.

الهوامش:

1- انظر ياسين النصير. الرواية والمكان. دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع. ط1. 2008. ص 18-19.

2- شاكر عبد الحميد. "الوعي بالمكان ودلالاته في قصص محمد العمري". مجلة فصول. مجلد 13. عدد 4. 1995م. ص 260.

3- قباري إسماعيل . ص 59.

4- عبد المعطي. ص 127.

5- ياسين النصير. الرواية والمكان. دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع. ط1. 2008. ص 70.

6- عز الدين إسماعيل. التفسير النفسي للأدب. بيروت: منشورات دار الثقافة/ دار عودة. د. ط. د. ت.

7- غاستون باشلار. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. بيروت: منشورات المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. ط2. 1984م. ص 5-6.

8- جمال سلسع. حيفا في يديها سراجُ أمِّي. حيفا: منشورات مكتبة كل شيء. ط1. 2017م. ص 23.

9- المصدر السابق. ص23- 24.

10- المصدر السابق. 24 .

11- المصدر السابق. ص25.

12- أسماء شاهين. جماليات المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا. بيروت: منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2001م. ص 16.

13- جمال سلسع. حيفا في يديها سراجُ أمِّي. حيفا. مصدر سابق. ص 30.

14- المصدر السابق. ص 35.

15- جمال سلسع. إن الأرضَ لها لغة واحدة. عمان: منشورات دار فضاءات. ط1. 2015م. ص 101.

16- المصدر السابق.

17- المصدر السابق. ص 103.

18- المصدر السابق.

19- المصدر السابق. ص 104-105.

20- المصدر السابق. ص 105.

21- المصدر السابق. ص 108.

22- المصدر السابق. ص 111.

23- المصدر السابق. ص 113-114.

24- فاطمة الوهيبي. المكان والجسد والقصيدة المواجهة وتجليات الذات. الدار البيضاء: منشورات المركز الثقافي العربي. ط1. 2005. ص 32.

25- جمال سلسع. إن الأرضَ لها لغة واحدة. مصدر سابق. ص 117-118.

26- المصدر السابق. ص 81.

27- المصدر السابق. ص 82.

أمين دراوشة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى