فلسفة الحداثة عند المفكر عبد الله العروي
يعتبر سؤال (الحداثة) عند الأستاذ عبد الله العروي من ألغز الأسئلة، فهو من جهة سؤال يستوعب كُلَّ كُتُب سلسلة المفاهيم بحيث يقول العروي: (إن ما كتب إلى الآن يمثل فصولا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة) (1) ويضيف (إن كل ما كتبه يندرج تحت مفهوم مهيمن على الكل هو بالطبع مفهوم الحداثة) (2) وهو ما يبين أن مفهوم (الحداثة) يستغرق كل مؤلفات العروي بأكملها، بل إنه يصرح أن (منطق الحداثة) هو الذي دفعه إلى الشروع في كتابة سلسلة المفاهيم(3) إلا أن"الحداثة"- في نظر عبد الله العروي- واقع تاريخي ومبادئ تتشكل فيما بينها لتنتج مفهوم الحداثة.
أما من حيث هي واقع تاريخي، فيلخصها العروي- مع المؤرخين- في عدة مياسم يذكرها كالتالي:
ثورة إقتصادية.
إحياء للتراث القديم في الفلسفة والقانون.
إصلاح ديني ووجه للكنيسة، وإحتكارها التأويل المقدس.
ثورة سياسية موجهة ضد الفيودالية والكنيسة.
ثورة فكرية تعتمد على"العقل".
من هذا التطور التاريخي الذي وقع في"الغرب"يستلهم عبد الله العروي سؤال"الحداثة"، ويجمله في المفاهيم التالية:"الفردانية"،"العقلانية"،"الحرية"،"الديمقراطية"،"العلمية"، أو"العلمانية"، بمعنى"العلم الحديث"(4) ولقد سبق للأستاذ العروي أن لخص سؤال"الحداثة"– من حيث هي ثقافة الطبقة الوسطى الأوروبية – في المفاهيم التالية: مفهوم"الطبيعة"، مفهوم"الفرد"، مفهوم"الحرية"، مفهوم"السعادة"، مفهوم"العقل"... وذلك في تعبير بديع، بحيث قال:"تنطلق (الحداثة) من"الطبيعة"، معتمدة على"العقل"في صالح"الفرد"لتصل إلى"السعادة"عن طريق"الحرية"(5) وهو ما يبين موطن"الحداثة"، وليس العالم الشيوعي(6).
ومن جهة أخرى، هناك إرتباط عضوي بين سؤال"الحداثة"ومبادئ"الليبرالية"وخاصة ليبرالية القرن 18 (عصر الأنوار)(7)، بل إن"الليبرالية"هي أصل"الحداثة"وخلاصتها(8) لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا أن العروي يدعو على تبني"النظام الليبرالي"، ولقد صرح بهذا قائلا:"أنا لا أملك، شخصيا، أي تعاطف مع"النظام الليبرالي"(9)
إلا أنه يدعو إلى الليبرالية كمضمون؛ أي إلى فلسفة القرن الثامن عشر(10) والتي تتميز بالكونية(11) والثورية(12)... أما ليبرالية القرن 19 و20 فهي نظرية ومنهج سياسي، بل إنها هي استعبدت شعوب العالم الثالث(13). وأما الفكر الليبرالي الكلاسيكي الأوروبي فهو الذي ادخل إلى حد ما، التفكير التاريخي في جميع الميادين، بل إن الفكر الليبرالي هو أصل الفكر الأوروبي الحديث(14).
إلا أن الإشكالية الرئيس عند الأستاذ عبد الله العروي، حسب ما نطق به لسانه حاله هي:"كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية [أي يستوعب سؤال الحداثة، المتمثلة حتى الآن في الفكر الليبرالي للقرن 18] قبل (وبدون) أن يعيش مرحلة ليبرالية؟"(15)، بل إنه حتى"الماركسية الموضوعية"أو"التاريخانية"ما هي إلا"إستيعاب الليبرالية"تحت غطاء"الماركسية"(16)، ذلك أنه من الخطأ نقد التراث الليبرالي بإعتباره مواكبا وحليفا ومبررا للإستعمار، لأن ذلك سيفتح الباب أمام"الفكر التقليدي"(17).
وإذا كانت"الليبرالية"هي أساس الفكر الحديث(18)، فإن"الماركسية"هي"وارثة المنطق الليبرالي الحديث"(19) بل إن"الماركسية"هي أصول الفكر الحديث"(20) بل"إن"الماركسية"هي عصارة تاريخ الغرب ولباب ثقافته"(21) في نظر الأستاذ العروي، ولا ينبغي أن يفهم من عبارة أن الماركسية هي وارثة"المنطق الليبرالي"، أن هذه الأخيرة"مرحلة"يتم تجاوزها في"المنطق الماركسي"، بل إن"الليبرالية"هي"منتهى""التاريخانية الثورية"، وفي هذا السياق يقول الأستاذ العروي:"أما مثقف العالم الثالث فينطلق من التاريخانية الثورية [وهي تاريخانية ظهرت بعد الثورة الفرنسية، ويقابلها العروي ب"تاريخانية محافظة تبريرية"(فلسفة الدولة عند هيجل)] كما يقرأها عند ماركس وينتهي إلى ليبرالية ثورية على شكل القرن الثامن عشر، بسبب ظروف مجتمعه الخاصة(22).
إلا أن الماركسية التي كان يدعو إليها العروي، ليست ما يسمى باسم"الماركسية العلمية"، ذلك أنه قد أنكر"علمية الماركسية وعموميتها"(23)، بل إن"الماركسية"، بالنسبة للعرب، هي مدرسة"الفكر التاريخي". وهذا الأخير مقياس"المعاصرة"(24). ومن هنا يحق لنا أن نتساءل عن خصائص"الفكر التاريخي"؟ وعن خصائص"الماركسية"التي يدعو إليها؟
الماركسية عند الأستاذ العروي حاجة ضرورية للأمة العربية(25)، لذا تراه يقول:"مازلت أعتقد أن الأمة العربية في حاجة إلى أن تتتلمذ على"الماركسية التاريخية"(26). إلا انه يعتبرها"بيداغوجية"توضيحية تقرب إلى الأفهام غير الأوروبية تطور العالم الحديث(27)، وهي ماركسية معتمدة على أساس المنفعة(28)، وهذا يظهر حتى في تسمية ماركس عند العروي بحيث يسميه"ماركس النافع"(29)، وهو ما يبين ميل العروي إلى النزعة"البراغماتية"باعترافه هو(30). ولكن ما هي خصائص ماركس النافع؟
يجيب العروي:"إنني أحب أن أوضح أن ماركس الذي أشير إليه هو الاقتصادي والمؤرخ لا المحرض ولا الإيديولوجي"(31). وإذا كانت هذه هي صفات"ماركس النافع"- الاقتصادي والمؤرخ لا الإيديولوجي- إلا أن هذا لا يعني أن"الماركسية"غير معتمدة بوصفها"أيديولوجيا"، بل إن الكلام هنا محصور في تبني"الماركسية"على المستوى الإيديولوجي"(32).
ذلك أن"الماركسية"التي دعا إليها في كتابه"الإيديولوجيا العربية المعاصرة"ـ والتي وصفها ب"الموضوعية"ـ ما هي إلا"ماركسية"تتلون بأوضاع الأمة العربية(33). إلا انه لا يزعم بأن هذه"الماركسية"هي الحقيقية وما دونها الباطل، وهذا ما يظهر بجلاء في قوله:"لا أقول إن"الماركسية التاريخانية"هي"لب الماركسية"وحقيقتها المكنونة، وإنما أكتفي بتسجيل واقع والتقيد به، وهو أن الأمة العربية ما زالت محتاجة في ظروفها الحالية إلى"الماركسية"[يقصد"الماركسية التاريخانية"](34). وحتى إذا قيل للعروي: إن"الماركسية"التي تستعملها هي"ماركسية"تخضع للمصالح الخاصة بالأمة العربية، سيجيب:"لِمَ لا ؟ أؤممها، فهي رغم كل شيء، ليست بيولوجيا؟"(35)
إذا كنا تعرفنا على"الماركسية الموضوعية"التي دعا إليها في"الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، فما هي يا ترى مياسم"الماركسية التاريخانية"التي دعا إليها في كتابه"العرب والفكر التاريخي"؟ وما هي خصائص"الفكر التاريخي"الذي يعد - عند العروي - مقياس"المعاصرة"؟
مفهوم"الفكر التاريخي".
بدءا، نحدد"الفكر التاريخي"بالسلب فنقول: إن"الفكر التاريخي"لا يعني الفكر في مجال التاريخ فقط، وإنما هو إدخال"البعد التاريخي"في أي دراسة كانت، وكيفما كان الموضوع، بل وحتى خارج مجال الفكر، وهو ما يبين أن"الفكر التاريخي"يقوم على نوع من النظرة إلى الأشياء والى الحياة(36)، كما أن"الفكرالتاريخي"لا يتنبأ بالمستقبل(37). هذا بالإضافة إلى أنه لا يدعي بأنه أحسن أنواع التفكير وأرقاها، لان هذا حكم فلسفي(38)، في حين أن"الفكر التاريخي"ليس من الفلسفة في شيء [ يقصد العروي الفكر النظري] ولا يدعي الحقيقة الدائمة(39)، كما أنه لا ينفي وجود حقائق مطلقة، وإنما يقول إن الحقائق لا يمكن فصلها عن ظروفها الإنسانية والبشرية(40)... إلا انه لا يتكلم نهائيا عن الحقائق المطلقة التي يتقاتل عليها الناس ويموتون(41) وإنما يطرح السؤال التالي: كيف يمكن أن نتعايش مع أحد يقول إن كلامه لا نقاش فيه، وأنه يتكلم عن المطلق وعن أشياء لا تتغير؟(42)
على أنه يمكن أن نحدد دلالة"الفكر التاريخي"فنقول: إن"الفكر التاريخي"هو ضرورة ملحة وقتية عملية(43). ويمكن أن نقول بالجملة، إن مياسم مفهوم"الفكر التاريخي"هي:
* صيرورة الحقيقة.
* إيجابية الحدث التاريخي.
* تسلسل الأحداث.
* مسؤولية الأفراد (بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ)(44).
مفهوم التاريخانية
من"الماركسية الموضوعية"إلى"الماركسية التاريخانية"
لا شك أن مفهوم"التاريخانية"من أشكل المفاهيم في كتابات عبد الله العروي، بل هو بمثابة بؤرة سؤال الحداثة، ونظرا لأهميته سَنُوْليه عناية خاصة، ونظرا لاضطراب المفهوم كذلك، ذلك ان المتتبع لتعريفات العروي له يجد أكثر من ثلاثين تحديد له، ذلك أنه يسميها أحيانا باسم"التاريخانية"وأحيانا أخرى بوسم"الماركسية التاريخانية"، بل بمسمى"التاريخانية الماركسية".... إلا أننا سنحاول أن نحدد بعض ملامح المفهوم قدر المستطاع.
بدءا، إن مفهوم"الماركسية التاريخانية"محط جدال فكري عميق، وإذا كان العروي قد دافع عن المفهوم، فإن(لوي ألثوسير) قد نقد المفهوم، بحيث أنه كتب في الجزء الأول من كتابه""بحثا كاملا بعنوان"الماركسية ليست نزعة تاريخانية". إلا أن العروي يرفض ذلك ويقر بأن لمفهوم التاريخانية جذورا في فلسفة هيغل وماركس(45)، وهو ما يبين أن"التاريخانية"من إنتاجات القرن التاسع عشر(46). كما أنها نزعة في العلوم الإنسانية(47). وبالرغم من أن لمذهب"التاريخانية"جذورا في الفلسفة الألمانية، إلا أن العروي يقول إن له تصورا خاصا به، بحيث إذا كانت"الحقيقة"في نظر هيغل – مثلا - توجد في"التاريخ"ولها صفة"الإطلاق"و"الشمول"، فإن العروي لا يوافقه على ذلك، وهو ما يبين أن لمفهوم"التاريخانية"معنى خاصا عند العروي بحيث يقول:"أما في ما يخصني، فلمفهوم"التاريخانية"معنى مختلف ومغاير، لأسباب كلها تعود إلى تباين موقعي ومواضعي، وبما أن"التاريخانية"حَدَتْ بفلاسفة الغرب إلى الإنكباب على تاريخ مجتمعاتهم وحضارتهم، فإنها عندي دليل يُحيلني على مجتمعي وتاريخه، ولو اكتفيت بالتموضع في"التاريخانية"كفلسفة أو ككتلة أفكار، لكنت مجرد داعية شأن"البرجسونيين"أو"السارتريين"العرب"(48). وذلك أنه يمكن للغرب أن يكون"برغسونيا"أو"ظاهراتيا"(فينومينولوجيا)، أما الشرق العربي فهو مرغم عمليا على أن لا يرى ويستوعب إلا ما في السجل الهيغيلي"(49)؛ وبالتالي فإن"التاريخانية"ليست مذهبا فلسفيا تأمليا(50)، كما أنها لا تؤمن بوجود"الحقيقة المطلقة"، بل إنها لا تعنى بها بقدر عنايتها بالسلوك(51)، بل إن الحقيقة المطلقة"من المفاهيم التي ينبذها العروي في المجال الفكري، وتبعا لهذا ترفض"التاريخانية"ما يسمى باسم"لاهوت التاريخ"لأنه يفسر كل شيء بالمطلق، يقول العروي:"... لا نتكلم هنا عن الفكرة التي نجدها في كثير من الكتب التاريخية الإسلامية وخاصة المتأخرة منها؛ أي تفسير كل حادثة بالإرادة الربانية لأن التاريخ يصبح حينئذ قسما من علم الكلام"(52) ويضيف:"إذا كان كل حادث يقع بمشيئة الله، ما فائدة سرد الحوادث[...]؟(53) في حين إن عملية فهم التاريخ والسياسة مرتبطة بقدر من"العلمانية"(54).
أما في ما يخص تعامل"التاريخانية"مع الظواهر الإنسانية، فإنها لا تفسرها بمبدأ"العلة العلمية"(55) التي تنشد"الضرورة"و"الحتمية"، في مجال"الإنسانيات"، إذ"لا يعقل أن يعتبر الأفراد مسلوبي الإرادة"(56)، ولهذا تدخل"التاريخانية"فعالية الإنسان في بناء"الواقعة التاريخانية"(57).
هذا ويمكن أن نحدد التاريخانية بالإيجاب، فنقول: من مسلمات"التاريخانية"أنها تقول:"إن الإنسان كائن تاريخي". وفي هذه الخاصية تلتقي"التاريخانية"مع"التاريخية الوجودية"(58). ليس هذا فحسب، بل أجمع"التاريخانيون"على أن"التاريخ"هو تاريخ الإنسان الحر الواعي، وأن ما عداه تاريخ بالنسبة للإنسان وليس تاريخا في ذاته(59). وفي هذه النقطة تختلف"التاريخانية"عن"المادية التاريخية"التي تعتبر أن"التاريخ"تطور"بلا وعي"(60). هذا بالنسبة إلى نظرتها لأمر"التاريخ"، أما"التاريخانية"فهي السعي إلى الإحاطة علما بوقائعنا وبالوضع الذي نعيش فيه مع حل مشكلاتنا التاريخية على أرض"التاريخ"نفسه. لذلك تكون الدعوة إلى تجاوز المراحل أو قيم الغير دعوة فارغة تماما من كل مضمون وكل فعالية، فطريقنا الحق والقويم إلى التخطي والتجاوز لا يمر إلا عبر الإستيعاب وآلام الولادة"(61). ومن تم فإن:"التاريخانية ليست شيئا سوى قبول منطق العالم الحديث، الذي هو منطق أوروبا الغربية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر"(62). وهو ما يبين أن"التاريخانية"هي"أدلوجة البلدان المتأخرة". وأن إدراك"التأخر"هو إمساك بمنحى"التاريخ"(63). وإذا كان"التأخر التاريخي"معناه أن البلدان العربية"مسبوقة في الميدان الفكري والإجتماعي والعلمي والثقافي"(64) فإن هذا"التأخر"ليست له صفة"الإطلاقية"و"القدرية"، بل هو قضية"نسبية"إضافية لا يمكن معاينتها وإقرارها إلا إذا قسنا [من المُقَايَسَة] مجتمعنا بمجتمع آخر(65).
وهو ما يبن أن"التاريخانية موقف أخلاقي يرى"التاريخ"بصفته مجموع الوقائع الإنسانية، مخبرا للأخلاق وبالتالي للسياسة"(66). هذا مع العلم السابق أن:"العقلانية الاجتماعية والسياسية"تقوم على"الفصل"بين"السياسة"و"الأخلاقيات"(67). ويمكن أن نقول، بالجملة، إن التاريخانية تعتمد على أربعة مبادئ هي تباعا:
1- ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل).
2- وحدة الاتجاه (المستقبل/ الماضي).
3- إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس).
4- ايجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن)(68).
بعد أن تعرفنا على بعض المفاهيم التي تشكل سؤل"الحداثة"بالتفصيل يمكن أن نقول، بالجملة، إن سؤال"الحداثة"هي"استيعاب الليبرالية وتبني الماركسية التاريخانية". ولكن هل هذه"مطلقات جديدة"استبدلت بالمطلقات القديمة؟ يجيب العروي:"تعني"الحداثة فقدان الإطلاقية"حتى مع في ما يخصها هي ذاتها"(69).
[1]