الاثنين ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨

لماذا لا يلمع ويثرى إلا مدعو النضال والوطنية ??!

تجربة شخصية

يعرف الغربيون ميلا كبيرا ودائما لتسجيل المذكرات الشخصية، وكتابة السيرة الذاتية، حيت ينصرف الكثير منهم عن الشأن العام ويفضلون الكتابة عن تجاربهم وحياتهم الخاصة بتفاصيلها الصغيرة، حتى المحرجة منها، ومن النادر جدا أن لا يمتلك الواحد منهم مفكرة شخصية يدون عليها تجاربه ويومياته. والسيرة الذاتية ثلاثة أشكال. فهي إما توثيقية في شكل يومات إذا كتبت في عين المكان وفي تاريخ حدوث الوقائع، أو مذكرات إدا كتبت بعد ذلك التاريخ إما من وحي الذاكرة أو بالاعتماد شبه الكلي على ما توفر من وثائق المرحلة المشتغل عليها، وهي، في الأغلب الأعم، روائية مسرودة بضمير المتكلم كما في رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري أو بضمير الغائب كما في "الأيام" لطه حسين.

الشيء الذي لا نجده في ثقافتنا العربية عامة، والسلوك المغربي خاصة، الذي يفضِّل أن تتم الأمور الشخصية والذاتية خلف الأستار والأبواب المغلقة، ما جعل المقالات والكتابات التي تتمحور حول ذات الكاتب وشخصه تندر إلى درجة الانعدام. والمتوفر منها والذي امتلأت به ارفف المكتبات العربية، لا يعدو في ‬معظمه سوى كتابات وروايات حول الذاتية و تمجيدها، ‬لاسيرا ذاتية كما هي‮ ‬باقي‮ ‬السير البشرية ‬دائما ما تأتي‮ ‬باهتة وباردة فاقدة لحرارة الحياة ونبضها الساخن لأنها دائما ما تأتي‮ ‬أو بالأدق دائما ما‮ ‬يكتبها صاحبها بروح مثالية انتقائية لا شوائب فيها ولا أخطاء ولا خطايا بما‮ ‬يتناقض أساسا وطبيعة أي‮ ‬سيرة إنسانية وبشرية لابد وان مرت بتجربة الخطأ والصواب. وحدها ‬السيرة الذاتية‮ عندنا ‬تمشي‮ ‬على الصراط المستقيم بلا أخطاء وبلا هنات وهو ما‮ ‬يمكن أن تسميه‮ التغزل بالنفس.

ففي الغالب ما نحرص على أن نخفي تجاربنا وقصصنا الشخصية عن أعين الناس، وعندما نلتقي بهم نفضل الحديث عن الأمور العامة كأننا نخاف من ذواتنا ونخشى عليها من الفضيحة! فكم فكرت في الكتابة عن تجاربي الشخصية، وسرد قصص واقعية وأحداث تخصني، لكن ما أن أتهيأ لذلك حتى أجد نفسي انحرفت عن الهاجس الذاتي إلى الشأن والهم العام! ربما لكوني أخشى أن أكون أنانياً لو جعلتُ ذاتي هي محور كتابتي، على الرغم من أنني أعتقد أن الذات تكون قوية الحضور حتى لو كتب الشخص عن شأن عام أو فكرة موضوعية غير ذاتية. لأن التجارب والقصص والسيَر الشخصية يمكنها أن تقدم الكثير من المعرفة و تتيح للقراء أن ينظروا للحياة بعيون الكاتب وبذلك يتسع المدى والرؤية. فكم نحن بحاجة إلى أن نشجع بعضنا البعض على الكتابة عن الهموم والأفكار والمواقف والازمات التي تمر بحياتنا وتجعلنا نعيد النظر في الكثير من القناعات والمسلمات والتصورات التي نكون قد كوناها خلال عيشنا مع الناس والأشياء من حولنا وقصتي أو تجربتي مع جماعة المشور واحدة من تلك القصص أو التجارب الشخصية التي جعلت قناعاتي تهتز أمام تبدل معايير السلوك وقواعده الصحيحة في مجتمعنا، إذ أصبحت كلها مؤقتة ظرفية مناسباتية وإختيارية إلى درجة أن السلوك الصادق القويم قد يتسبب لأصحابه ظلما وتجنيا.

بدأت تجربتي الشخصية هذه فجأة بعد الانتخابات الجماعية 92 حيث وجدتني مسؤولا عن تدبير شأن عام لجماعة الحضرية المشور فاس الجديد المحدثة بظهير 1992، حال مكوناتها جد متوسطة إلى ضعيفة جدا، رغم ما تخرج من بين اسوارها العتيقة من شخصيات علمية وثقافية وسياسية وفنية ذاع صيتها داخل الوطن وخارجه، أمثال العلامة الفقيه (علال الجامعي)، والوزراء (أبا حنيني) و(بن بوشتى) و(عبد اللطيف الفيلالي) ومن الفنانين صاحب الفرانه المرحوم (بلعيد السوسي) والمسرحي (الكغاط) والزجال (الطيب لعلج) ...

ما علينا، ما أردت أن أحكيه ليس هو تاريخ فاس الجديد (فذاك شأن المؤرخين) بل اردت إشراك غيري في تجربة من تجاربي مع الشأن العام والذي كثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة وبصفة ملفتة للنظر، فخلاصة تجربتي هي أنه بإمكاننا تسيير البلاد والعباد بأقل الخسائر إن لم يكن بربح عميم إذا توفرت النية الحسنة والتخطيط المحكم والعنصر البشري المبدع والمؤثر.

بعد إحداث المجلس البلدي السابق الذكر، توليت فيما توليته مهام (الأشغال البلدية به)، فأثارني موضوع النفايات بالجماعة، فدهشت لما علمت أنها بيد شركة خاصة، تكلف ميزانية الجماعة (غسيل الفندق) مقابل عدد من الحمير ومعدات بسيطة زنبيل وشواري وخباشة وكراطة ووو ... إستغرق مني التفكير في هذا الأمر أياما عديدة .. وحرمني النوم ساعات طويلة، جزعت وأصابني القلق لما لم أجد حلا عند زملائي المستشارين محدودي التجربة مثلي، لكنني لم أستسلم فطرقت كل الأبواب، وإستشرت كل أهل الذكر والذين يعلمون في شؤون الحمير والزبل وجمعه وحمله وتكلفته، فجالست الحمارة وأولاد سيدي عيسى، فعلمت أن ثمن الحمار الجيد (تيربو) كما قال أحدهم -متفكها أو مستهزءا لايهم – لا يتعدى 500درهم، وأن كل لوازمه لا يمكن أن تكلف أكثرمن100درهم .

لم تكن مهمة جمع المعلومات سهلة، لكنها كانت أقل صعوبة من إقناع مستشاري هذه الجماعة بضرورة حماية المال العام، وقد صدق (آينشطاين) حينما قال :(الوصول إلى القمر أسهل من تعديل فكرة خاطئة عند إنسان) وذلك لإن أغلبية المستشارين كانت فرقا متسيبة غير متجانسة، لا تتوفر على الكفاءة والمعرفة والإرادة الضرورية لتسيير المدينة (الحي)، ولا على النظرة الشمولية لتطويرها، فقد كانوا عبارة عن هياكل عاجزة، متضاربة في توجهاتها، متداخلة في إختصاصاتها، غير مستقرة ولا منتمية ولا تملك تراكما سياسيا، منشغلة بالحفاظ على مواقعها، وتحقيق المزيد من المصالح الخاصة، ومع ذلك نجحت تدريجيا في تعبئة عدد لابأس به منهم رغم تباين الاديولوجيات وتنوع التوجهات وكثرة الخلفيات، وتعدد التطلعات، فلم تستطيع نقط الخلاف هذه على كثرتها أن تمنع تحالفهم ضد هدر المال العام. وبعد دراسة مستفيضة لكل جوانب المشروع على بساطته، وتم الإجماع على فسخ العقدة ووضعت خطة حكمة لتولي الجماعة مسألة النظافة بنفسها .فتقرر شراء الحمير وجميع معداتها .

لكن الذي حدث ولم يكن في الحسبان، أن ضجة كبرى أقامت الدنيا ولم تقعدها ضد قرار حل العقدة مع الشركة إياها، (فهاك يا تلفونات ... وهاك يا تدخلات ... وهاك يا ...وهاك يا)

ما كنت أنتظر شكرا على واجب فرضته المواطنة الحقة، بل توقع من قادة الحزب الذي كنت أنتمي إليه ساعتها التشجيع على مبادرة رائدة في مجال خلق الثروات والحفاظ على المال العام، لكن المفاجأة كانت عظية، والدهشة أعظم، فرغم إنتفاء إي سبب منطقي يفرض أن أصبح هدفا يتمتع الجميع بمهاجمته بعدوانية شرسة، فقد أجمعوا في إتفاق شبه مبرم بينهم، على مواجهتي باللوم والتقريع وتعريضي لمختلف الممارسات القمعية، ونعتي بكل الصفات القدحية وقيل عني أني غيروطني، ومعاد للدين، وعدواني، وغريب الأطوار، ومجنون، وغير وفي ولا منطقي ومهووس ومتكبر وعاطفي ومتهور ووو... ولائعة التعيار والمعايرة " طويلة جدا .

لم نصدع صاغرين لأوامر من وقفوا ضد حل العقدة، وساندوا شركة الأزبال بحجة أن صاحبها(ديالنا) ... مؤملين نصر ربنا، غير قانط ولا يائسين مصداقا لقوله عز وجل (( وإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) صدق الله العظيم، بل سرنا في طريق مهده الله أمانا محققين لجماعتنا مند ذلك الحين، أي مند 1993 إلى يومنا هذا إعفاء من مصاريف كانت زائدة زائدة زائدة .....

سأكتفي بهذه التجربة لأني لو تركت العنان لقلمي لأوردت عشرات من التجارب المشابهة التي تمت هنا وهناك في غفلة عن الماكرين الإنتهازيين ولظن البعض بي الظنون وتوهم أني ما اردت بخاطرتي هته إلا تيئيس المواطنين بدل التذكير النافع للمؤمنين خاصة وأنا أختم تجربتي بسؤال ملح جدا، لماذا لا يجدالمبدعون الحقيقيون التقدير المطلوب، في حين يلمع ويثرى مدعو النضال والوطنية ؟؟؟؟؟؟ سؤال سيظل معلقا إللا أمد بعيد ....

تجربة شخصية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى