الأربعاء ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم حسن عبادي

مبدعون رغم عتمة السجون

بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى مبدعون يكتبون خلف القضبان رغم عتمة السجون لاهتمامي بما يكتبه السجناء وبأدب السجون؛ زرت أحمد وكميل وعاصم، باسم، حسام وسائد، كريم ووليد، مروان وغيرهم ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تواصل معي المئات وشدّني ما كتبَهُ الصديق غازي زيدان: "هذا هو شعبنا الشعب الفلسطيني المجاهد الذي يكتب قصة انتصاره بالدم والعرق والجوع وقلّة الوسائل المعبّرة والتي يخلقها رغم العدو المحتل، موعدنا معهم يوم النصر العظيم" ، أمّا الزعتريّ أبو سهيل كروم فكتب من مخيّمات الشتات: "رايات المجد والافتخار إلى القابعين خلف جدران السجون الإسرائيليّة، لهم ولنضالهم تنحني الهامات".

وتبقى قضيّة أسرانا المعادلة الصعبة ونتهرّب من مواجهتها!

"حتلقيني هناك!"

التقيته صباح يوم 29 آب في سجن "هداريم" وقابلني بابتسامته التي بدت وكأنّها مستمرّة منذ لقائنا السابق يوم 31 تموز؛ عانقتُ الأسير ناصر حسن عبد الحميد أبو سرور عبر الحاجز الزجاجيّ البغيض، أمسك كلٌّ منّا سمّاعته وبعد التحيّة باغتني: "جيت لحالك؟"، اعتدت رِفقة صديق في زياراتي للسجون، فأجبته بعفويّة: "جيت مع حفيدي ماهر!"؛ إذ رافقني أمس لشراء مستلزمات المدرسة للصفّ الأوّل، مُتعة لا توصَف، رنّ نقّالي فرَدّ على المحادثة وإذ به أساف من سلطة السجون لترتيب لقاء اليوم. في طريقي هذا الصباح لازمني ذاك المشهد، أفكّر بالأسير الذي حُرِم من متعة تحضير ولده أو حفيده أو ابن أخته للصفّ الأوّل؟!؟
تحدّثنا عن مشروع إصداره الأوّل الذي يراه ولادة ابن بكِر، فهو يريد دار نشر وليس مطبعة، عن ظُلم المرأة؛ الامرأة في مجتمعنا تحت الشُبهات، كلّ رجل من حولِها يرغب في شقّ ثوبها أو بابها أو كليهما معًا، وحرب الرجل غير المعلَنَة ضد المرأة هي أطول حروبات التاريخ، عن حريّة التعبير السليبة في مجتمعنا فنسينا من ماتوا وعلى أكتافهم صارت لنا منابر، ومقته للرقابة على أنواعها فأنت مجموع أجزائك وإذا تنكّرت لجزئك فليس أنت! لهذا يتوجّب علينا تحطيم الرقابة ليولد جيل واع، لا يلتقي الوعي والرقابة معًا، خاصّة أنّ عاداتنا السريّة أكثر من المُعلنَة!
تحدّثنا عن الشعر والشعراء؛ إذا حضرت المُفردة ورافقتها صورة ورقصتا معًا على موسيقى واحدة فـأنت تقول شعرًا؛ حدّثني عن رغبته باحتضان شذا، ابنة أخته، التي "تراه" أكثر من غيرها رُغم فقدانها البصر، وداد وانشراح ...ومزيونة التي كانت روحها معنا ولقاءه الأخير بها حين انتصبت رُغم مرضها وباحت له بسرّها، كعشيقة خجولة: "إمّك مقرِبطة. بدّيش أموت. إذا عزرايين بقرّب بقُصّ راسه"... تنتظر عناقه حرًا طليقًا!!!

قبل أن نفترق قال: "لي عندك طلب...غمّض عينيك وخذني لحيفا لخمس دقائق"، تذكّر مشوارَه في رحلة إلى حيفا عام 1991 ولم يرها، فأبقت غصّة عنده! وعدته أن نسهر الليلة قبالة بحر حيفا على شرفِه فصاح: "حتلقيني هناك!"

لك عزيزي ناصر أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، نلتقي قريبًا في حيفانا لنحتفل بإشهار إصدارك البِكر!

رومي: عيد ميلاد سعيد

غادرت حيفا السابعة صباح الأحد 15 أيلول للقاء أسير في سجن هداريم؛ سمعت عنه وقرأت له الكثير، "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي" ومقالات عديدة، وكان لا بدّ لنا من أن نلتقي، لكونه ركنًا أساسيًّا من أركان الحركة الأسيرة ولأهميّة ما يكتب، ولأنّ اسمه ذُكر في الكثير من لقاءاتي في الأشهر الأخيرة بأسرى أحرار يكتبون خلف القضبان... وكان لهذا اللقاء نكهة مُغايرة!

حدّثني بحماس عن أهميّة مشروعه التعليميّ خلف القضبان، مسيرته مع طلبة البكالوريوس والماجستير من الأسرى، ناقشنا غرامشي وتشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، نظرته ونبرة صوته تشعّ أملًا وإرادة وكلّها تفاؤل، رغم غباشة زجاج الحاجز الفاصل بيننا ورغم برودة ولؤم سمّاعة الهاتف الحديديّة التي تواصلنا عبرها.

تحدّثنا الكثير عن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون، فكرة "لكلّ أسير كتاب"، أهميّة الكتابة والنشر للأسير، ومثل هذا التواصل يفتح نافذة للأسير يتنفّس عبرها. أنسنة قضيّة أسرانا بعيدًا عن الأسطرة، فلكلّ أسير قصّة، والقصص العظيمة لم تُحكى بعد، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيق قصص أسرانا لأنّها الشاهد والدليل على مأساتنا ونكبتنا المستمرّة.
كلّمني بثقة وأريحيّة، شموخ وأنفة ... وحِرقة. يحزّ في نفسه عدم مرافقة حفيدته تاليا للمدرسة في يومها الأوّل في الصف الأوّل، عدم تمكّنه من معايدة حفيدته رومي في عيد ميلادها الثاني يوم الخميس الفائت، لكنّه رغم ذلك يشعّ إرادة وتفاؤل بغدٍ أفضل لأنّ أطفالنا يستحقّون الحياة.

لك عزيزي مروان البرغوثي أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.

ابتسامة عالقة

التقيته صباح الأحد، مباشرةُ بعد لقائي برفيقه مروان في سجن "هداريم"، قابلني بابتسامته الطفوليّة الملائكيّة التي ما زالت عالقة في ذهني وترافقني منذ لقاءاتنا السابق يوم 12 حزيران، واللقاء من يوم 31 تموز؛ عانقتُ الروائي الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي عبر الحاجز الزجاجيّ اللئيم، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وأكملنا حديثنا.

تحدّثنا عن قراءاته وكتاباته الأخيرة و"المُصادرة" الكتابيّة التي تبنّاها من إدوارد سعيد، حدّثته بدوري عن رواية "عليّ، قصّة رجل مستقيم" لصديقي حسين ياسين ووعدته بنسخة منها لقرب أسلوبها من مشروعه الكتابيّ المستقبليّ، وبشّرته أنّ أيمن صار أبًا!

تحدّثنا حول لقائي بعائلته في نابلس، تفاعل قُرّائه مع كتاباته، الأمسيّة العمانيّة آخر الشهر حول روايته الأخيرة "خسوف بدر الدين"؛

خبّرني عن تشجيعه لزملائه الأسرى على الكتابة وضرورة النشر كمُتَنفّس لهم؛
أكملنا نقاشنا حول يافا، رام الله وباريس وما بينها، والرواية التاريخيّة الحديثة التي يوظّفها لنقل رسالته.
لك عزيزي الباسم أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفا ونابلس وكلّ أرجاء الوطن ونكمل حديثنا، بدون زجاج وسمّاعات وحواجز.

***الأسير ناصر حسن عبد الحميد أبو سرور من مواليد 1966، أُعتقل يوم 4 كانون الثاني 1993 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد.

***الأسير مروان البرغوثي من مواليد 1958، أُعتقل يوم 15 نيسان 2002 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن لخمسة مؤبدات و40 عامًا.

***الأسير باسم خندقجي من مواليد 1983، أُعتقل يوم 2 تشرين الثاني 2004 حكمت محكمة سالم العسكريّة بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد ثلاث مرات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى