الاثنين ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧

مسرح رفيق علي أحمد ... حياة تكمل الحياة

بدالغني طليس - الحياة

العلاقة وثيقة بين ما يكتبه رفيق علي أحمد في مسرحياته وبين ما يعيشه، كأنما العروة الوثقى بينهما. لكنه يأخذ بتصرف من المواقف الشخصية الحياتية، أي بإضافة أشياء وإهمال أشياء أخرى. وكذلك يأخذ بتصرُّف من المواقف العامة في المجتمع، أي باستعمال العقل في تظهير هذا الموضوع من دون ذاك وتحليله. وفي الحالتين، أي في الخاص والعام، يحرص رفيق على اختيار المناسب لا الحشو، ثم يعمد إلى توليف الوقائع وربطها بعضها ببعض في شكل تُمحى فيه الحدود بين ما يعنيه هو كإنسان ومواطن وتجربة، وما يعنيه المجتمع ككتلة بشرية لها «نظامها» الخفي، وسُلّم قيمها المعروف والمجهول في آن!

من هنا، فإن رفيق علي أحمد يجعلك في مسرحه، المونودرامي تحديداً، حائراً بين أن تصدّق أنه يتحدث عن نفسه وحياته فقط، أم يتحدّث عنك أنت أيضاً. ولعل أبرز مواهبه على الخشبة أنه يقفز بك أدائياً مــن حال إلى حال، من قضية إلى أخرى، من همّ الى آخر برشاقة النسمة الهادئة، مع أن ما يطرحه في هذا المشهد قد يكون مختلفاً جذرياً عن المشهد الذي يليه مباشرة في طبيعته وحيثياته وتفاصيله. ومن دون أي «نقزة» أو «هزّة» تعبر المسرحية إلى المُشاهد في قالب تعبيري بسيط جداً ومعقد جداً عُرف به رفيق كنموذج متميز ليس له بتركيبته الفريدة ما قبله في لبنان، وربما في العالم العربي.

عندما شاهد رفيق في إحدى الزيارات إلى باريس، ذلك الفنان المسرحي الفرنسي الرائع يقدم مسرحية وحده على الخشبة، خطرت على باله فكرة «المونودراما».

اختمرت الفكرة سنة بعد سنة، ثم تجسّدت في «الجرس»، تلك المسرحية التي اتصل بها رفيق الطفل برفيق الشاب، بالقرية، بالمدينة، بذلك الاحتشاد الصاخب لأفكار ضجّت بها الحرب الأهلية اللبنانية. نجحت المسرحية ما لم تنجح مسرحية من قبل لشاب يأتي بفن جديد إلى بلد كان يُقال إنه يُبنى من جديد في مطالع التسعينات من القرن الماضي.

استقبلت المدينة الفنان الريفي المديني بكل الحب والشغف بالاستمتاع بالجديد ما أسس في ذات رفيق علي أحمد لخطوة تالية أرادها أكثر «ثقافة» بالمعنى الفكري للمسرح فكانت مسرحية «المفتاح» التي ذهب بها ككاتب إلى الحروب الصــليبية بــما لــها وما علــيها في التــاريخ، وبــما فيها من الجدل العميق والتحليل والاستنتاج المعرّض للنقض والنقض المضاد، فكان رد فعل الجمهور عليها أقل حرارة من «الجرس» بكثير، وفــشلت مــحاولة رفــيق في إلبــاس ذلك الشاب الريــفي الــمديني ثــوباً أقــل ما يقــال فيه إنه خطر مضموناً ومتطلّب جداً شكلاً. لقد كان مستحيلاً إقناع المُشاهد بحروب صليبية مخزنة في الذاكرة بسنابك الخيول، على خشبة من خلال شخصين اثنين فقط، هذا في الشكل. أما في المضمون فقد أراد رفيق أن يناقش تلك الحروب فكرياً وإنسانياً فنسي «الصورة» (أي ما على الخشبة). يضاف إلى ذلك أن الصراع المسيحي - الإسلامي الذي جسّدته الحروب الصليبية في التاريخ، كان أكبر من أن تحيط به مسرحية محدودة الإمكانات، أو أن يتقبله مجتمع كالمجتمع اللبناني الخارج من حرب كان ذلك الصراع وجهاً من وجوهها في بعض التحاليل أو في بعض الأذهان، وليس لمسرحية مهما يكن كاتبها ومخرجها وبطلها أن ينجو بنفسه من التأويلات «الطبيعية» في وضع كوضع المجتمع اللبناني المنشغل بتفاصيل تحولاته السياسية حينذاك.

عاد رفيق علي أحمد فوراً بعد «المفتاح» إلى رواية حياته وحياة مجتمعه في مسرحيات مثل «زواريب» و «قطع وصل» و «جرصة».

تــرك هــَمّ التــاريخ والفــكر وتــقدّم الــى الــواقع، بالصــيغة إيــاها النابعة من معاناة خاصة - عامة. وبسرعة استعاد زمام المبادرة، وأكمل بناء شخصيته المسرحية «المونودرامية» التي اتخذت في مسرحيته الأخيرة «جرصة» شكلاً أكثر قوة وتأثيراً وصدامية من ذي قبل، مستفيداً من مكانة حققها من جهده الإبداعي السابق في مسرحه الخاص، لكن أيضاً من حضوره بطلاً أساسياً فــي ثــلاث مسرحيات لمنصور الرحباني هي «سقراط» و»حكم الرعيان» و»جبران النبي» حــيث دخــل رفــيق إلى جــمهور جــديد عــليه نسبياً هو الجــمهور الرحــباني الــذي أحبّه وانحاز إليه... وهذا ما يــفسر تنــوّع مــزاج جــــمهور مســرحيته الأخــيرة «جــرصة» وتــعدد فــئاته، مــا أدى إلى احتلالها موقعاً متقدماً لــدى الناس والإعلام.

في مسرح منصور الرحباني كان رفيق علي أحمد «كائناً» رحبانياً، فأغنى تجربته الشخصية في «المونودراما»، بقالب مسرحي مختلف وكبير هو المسرح الغنائي الاستعراضي، وبشخصيات ذوات مغازٍ وأبعاد فنية وتاريخية مهمة أضافت شحنات أدائية «تكنيكية» جمالية إلى ذاته كممثل، مبنية على نصوص تلعب بين المسرح والشعر، بين الموسيقى والاحتفال، بين الحداثة المشهدية والماضي الإنساني.

لا يفكر رفيق علي أحمد بالمسرح إلا أنه حياة تكمل الحياة.

بدالغني طليس - الحياة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى