من لغة الهذيان إلى هذيان اللغة
تقديم:
قد يكون العنوان الذي اصطنعته لمقالتي قريبا مما يصنعه أهل الصحافة، غير أنني أجد نفسي مضطرا لذلك، حينما أحاول الاقتراب من الرواية الجزائرية قراءة، فأصاب بضرب من الدوار وأنا أتزحلق من سطر إلى سطر، ومن صفحة إلى أخرى، باحثا عن حكاية تحملها اللغة، وما يتبع ذلك من رؤى وصور، وقيم، وفلسفة للحياة ورؤية للعالم... وما شئنا من المصطلحات التي ترتبط بالفعل السردي عموما. غير أننا في الكتابة الجزائرية خصوصا والعربية عموما افتقدنا ذلك الرابط الخفي الذي يلحِّم النص الروائي ويعطيه حق التجنيس، وحق الانتماء الأدبي.. وعندما يغيب ذلك الخيط الرفيع، تَسلم اللغة إلى ذاتها فيما يشبه الهذيان الحالم، الذي يجري وراء الكلمات المغموسة في شراب الشعرية الثملة، والتي تصيب القارئ بدوار سريعا ما يلقي بالرواية جانبا ولا يعود إليها إلا مضطرا.. ربما كان التأرجح بين هذيان اللغة ولغة الهذيان سببا في تدني المقروئية التي يشتكي منها كتاب الرواية أنفسهم ابتداء.
1-غيبة النقد المتخصص:
إننا نسعى في إطار مشروع خاص لقراءة الرواية الجزائرية، إلى قراءة تبتعد عن المناهج الحداثية الواصفة، التي انتهت حسب كثير من الملاحظات الناقدة إلى كتابة نص نقدي واحد يصلح لكافة الكتابات الروائية والشعرية. يكفي فيه تغيير الأسماء واستبدال الأنواع، ليغدو صالحا مع هذا الكاتب وذاك الشاعر.. وقد كان الأدباء المبدعون أول من تذمر من ذلك الحياد الذي حرمهم الكلمة الناقدة الخالصة التي تقوم المعوج، وتزكي الصالح. وكأننا حين التمسانا الحياد في مواجهة الإبداع، فتحنا الأبواب أمام كل تجريب فاستوى في مضماره التجريب الفذ الحاذق، والتجريب الفج المتهالك. وصار الكل يطالب بالاعتراف لينال السبق والحظوة.
لقد نقلنا النقد الجاد إلى جلسات المقاهي الضيقة، التي تجري فيها الأحاديث مجرى "النميمة" وخلصنا من خلالها إلى كثير من الآراء النقدية التي تتميز بالحدة الجارحة والإقصاء المشين. وإلى كثير من الآراء الناقدة المستبصرة. غير أننا في هذا وذاك لم نسجل نقدا حقيقيا ترفعه صفحات المجلات والكتب والدراسات. بل تعمدنا تركها للمناهج الواصفة التي تتسلق أسوار الإبداع شأن الطفليات لتقول قولتها المكرورة هنا وهناك. مادامت عاجزة عن استصدار حكم قيمة، سيتحسن الحسن ويستهجن الهجين. وتركنا فضيلة ذلك كله للكتابة الصحفية التي إن قالت شيئا فإنما تقوله سريعا ثم تطويه طيا أسرع.
كتبت "فضيلة خ" في مقال لها تقول: " شكلت الرواية العربية والبحث في آليات تصنيع الفعل الثقافي موضوع مداخلة للكاتب الجزائري "واسيني لعرج" في ملتقى القاهرة الرابع للإبداع الروائي، الذي بدأت فعالياته أول أمس بمشاركة العديد من الروائيين، والذي يجري تحت شعار "الرواية العربية الآن". وكان من بين المحاور التي تطرق إليها الكاتب "واسيني لعرج" في مداخلته القيمة الجديدة للروايات الحديثة مقارنة بالنصوص السابقة، لكن متحاشيا خلال هذه المقارنة إصدار أي أحكام القيمة. ففي حين وصفت المداخلة بالقيمة، إلا أن الصحفية انتبهت إلى خلل فيما قدم "واسيني الأعرج" مشيرة إلى تحاشي إصدار أحكام القيمة على النصوص القديمة والحديثة في آن. وكأنه سلوك يمليه عليه "واسيني الأعرج المبدع " -الذي يشارك غيره ميدان التجريب الإبداعي -على الرغم من أن المتحدث في المداخلة المذكورة آنفا هو "واسيني الأعرج الأكاديمي" وكأن الصحفية بحدسها الثقافي تدرك جيدا الثنائية التي يتمتع بها "واسيني الأعرج" وأنها في ذلك الموقف كانت تتابع الأكاديمي الذي يمتلك حق إصدار أحكام القيمة فيما يعرض من أعمال في سوق الأدب.
ربما لا يكون هذا الخبر وأمثاله مدعاة إلى إثارة الجدل حول هذه المسألة، لولا أننا نجد "واسيني الأعرج"، يصرح في مداخلته قائلا بأنه: " لاحظ غياب دور النقاد المختصين، حيث اضطلع رجل الإعلام بهذا الدور، واقتصر النقد الأدبي أو كما وصفه الكاتب ب نقد الهوامش في المقاهي الأدبية. ووصف الكتابة الحديثة ب" الأدب المؤقت » وإننا حين نتوقف عند هذا الخبر الذي ساقته الصحفية على لسان "واسيني الأعرج" نلمح ثلاثة مواقف من الحركة الثقافية العربية، وهي مواقف قيمة، تصدر عن "الأكاديمي":
– غياب النقد المتخصص.
– النقد الهامشي/ نقد المقاهي.
– وجود الأدب المؤقت.
بيد أن المتصفح لما ينشر في الدوريات، وما ينجز من دراسات في أطوار الماجستير والدكتوراه، يقر بوجود النقد المتخصص الذي تنوعت مناهجه ومقارباته. غير أنه النقد المحايد الواصف الذي لا يغير شيئا في واقع الإبداع. وحين نجد واحدا مثل "واسيني الأعرج" ينعت النقد المتخصص بالغياب، فإننا ندرك أنه لا يقصد النقد الأكاديمي الذي تنتجه الجامعات، والذي يستند في مقولاته على المناهج الحداثية الواصفة التي تتحاشى أحكام القيمة. إنه باعتباره مبدعا يريد أن يعرف رأي الآخر فيما ينتج.. رأيا يتعلق بالإجادة والاستحسان أو بالرداءة والاستهجان. لأن المبدع يعلم يقينا أن الذي يشحذ همته ويدعوه إلى مراجعة أدواته، والغوص بعيدا في أعماق التجريب المثمر هو النقد الذي يكشف له عن مواطن القوة والضعف فيما يأتيه من أساليب وما يخط من خطط، وما ينهج من سبل، وما يرود من أفكار.
إن المبدع الحق بأنف من الأحاديث الهامشية التي لا تبتعد كثيرا عن الثرثرة المشينة، والغيبة الذميمة، التي يسمح فيها كل ناعق لنفسه أن يبدي رأيا، فيرفع ويحط، ويزكي ويبخس، وهو لم يكلف نفسه قراءة سطر واحد من إبداع ولا بيت واحد من شعر. إنها الحقيقة التي يعرفها كل مبدع حينما تنتهي جهوده على ألسنة هؤلاء لتكون مادة للنكتة المرة، والشذب الجارح.
ثم ينتهي "واسيني الأعرج" إلى "الأدب المؤقت" أو"الأدب الاستعجالي" كما يحلو للصحافة تسميته ونعته. فلا يرى فيه إلا كتابة تهتبل الفرص المتاحة لتثير ضجيجا حول الراهن، مستغلة في ذلك مآسي المجتمع، لتصنع منها مادة للسرد، تركز فيها على صور الدمار والقتل والاغتصاب والدم... وكأنها تحاول أن تستجمع في نص واحد كل أشكال المأساة وفضاعتها. أو تلتفت إلى الرائج في السوق العالمية لتجعله مطية الظهور والشهرة. وليس بريئا أن يكون سؤال "وهيبة منداس" عن استثمار المأساة يبطن مثل هذه التهمة، ويكون جواب "واسيني الأعرج" نقدا للآخر وتبرئة للذات حين يقول:" مشكلة الإرهاب في الجزائر تحولت إلى سجل تجاري لكن بالمقابل سؤالي كم بقي من هذه الروايات، لا أعتقد أنني وقعت في هذا الفخ وإرضاء دور النشر لأنني صادق. وهناك من اتهمني باستثمار مسار الأمير عبد القادر كشخصية وطنية وعالمية، ويقول أن "الأمير عملة رابحة" وأجيبهم "ياريت" من يطلق الإشاعات والدسائس راهنوا على أي حصان رابح والمشكلة أنك كمبدع لما تختار شخصية مثل "الأمير عبد القادر" هي القضايا المعقدة وبالتالي عليك أن "تمنح ظهرك للضرب" وتحمل نزاهة اختيارك.
إن "واسيني الأعرج المبدع" هو المتحدث في هذه الشهادة، حين يدفع عن نفسه تهمة المتاجرة بالمأساة الجزائرية، ويجزم أنه لم يقع في ذلك الفخ إرضاء لدور النشر، مع أننا نعلم أن عددا من روايته الأخيرة قد استثمر ذلك الواقع أيما استثمار، وأنه خرج منه لرؤية عربية أوسع. فكان رد المبدع يحمل كثيرا من التوتر والحساسية، التي تكشف عن تأثره البالغ بها، فهو يقول:" أعرف جيدا من يطلق هذه الشائعات عبر الصحف الجزائرية فتارة أتهم أنني اتجهت إلى دول البترودولار إبداعيا ومدحهم وذلك كلام فارغ لا أساس له من الصحة، كما روايتي الأخيرة جاءت بعد 4 سنوات من رواية "كتاب الأمير". والذي قال أنني أصدر بوتيرة متسارعة أوقع نفسه في عمق الخطأ والغريب أنني هوجمت وأنا في قمة أزمتي الصحية دون مراعاة ذلك.
صحيح أنه كلام المقاهي، والغيبة الأدبية، غير أنه دخان لنار تشتعل في وقود لا يمكن إنكاره، وعلى النقد الصحيح الذي يريده المبدع قبل غيره من الدارسين، الفصل في هذه الشائعات استنادا إلى النصوص التي يكتبها المبدع أولا وأخيرا.
إن صورة الناقد الحقيقي الذي يريده المبدع تتجلى في:" القارئ المتمرس الواعي (الذي) يدرك من هو الكاتب الوفي لقضية ما. واعتبرت نفسي في السنوات الأخيرة في واجب وطني وقومي وإنساني غير منفصل، قضايا تمسني كإنسان. ذلك الواجب الذي أصدر من أجله كتاب الأمير، ثم "كريماتوريوم" التي تتحدث عن المحرقة الفلسطينية.
2-الكتابة الإبداعية عند واسيني الأعرج:
لقد سبق أن تتبعت الكتابة الإبداعية عند "الزاوي أمين" مبتعدا عن المناهج الحداثية الواصفة مكتفيا بالنص الإبداعي وحده. وقد انتهت القراءة إلى الملاحظات التالية:
– التشضي الداخلي والخارجي.
– اللاأدبية.
– امتهان اللغة.
وهي اصطلاحات حاولت أن أتعرف من خلالها على حقيقة النص الذي أقرأ. وهو عين الفعل الذي مارسته مع نصوص "واسيني الأعرج" بمصطلحات أخرى مستوحاة من النص:
2.1-النقطة والحلزون:
كل كتابة لا بد أن تبدأ من نقطة معينة تكون المرتكز الذي يتأسس عليه بناء النص الإبداعي. وهي النقطة التي يجعلها القارئ مرتفعا يطل من ورائها على التخوم التي تنفتح أمامه تباعا مع تقدم الجمل الفقرات. وكلما انطلق القارئ مبتعدا عن النقطة المرتكز، كان المعنى الذي يتشكل بين يديه، ينشأ من منطق سردي يقوم على العلة والسبب. وكلما استطرد الأمر على هذا النحو كانت القراءة هينة واضحة سلسة. غير أن كثير من المبدعين يرفضون هذه النمطية في الكتابة، ويصدفون عنها ابتغاء لون من التأرجح بين حاضر القص وماضيه. يرتفعون وينزلون بين أزمنته جيئة وذهبا، ولكنهم يحتفظون بالخيط الواصل بين أجزاء القص كلها. إنه حبل "أريان" الأسطوري الذي يدلها في المتاهة الأرضية. وهو ضرب محبب من الكتابة يدفع بالقارئ إلى المشاركة الفعلية في تشكيل المشهد السردي، ولا يستسلم لهدير اللغة تقوده حيث تريد.
ذلك أن:" كل فلذة من الأدب تكتسب أدبيتها بقدر ما تحتل من رقعة الخيال، فأشكال الأدب –في حقيقة الأمر-إنما هي قطع من خيمة التخيل، قد تطول أو تقصر، ترتفع أو تنخفض، تتجلى في ألوان بهيجة أو باهتة، لكنها –كي تصبح أدبا-لابد لها من تغطية سطح الواقع وهي تصنع طرفا من سمائه. ولن نستطيع تأملها ونحن نحدق في الأرض ونلتصق بترابها بيد أن قدر الخيال والتخيل محسوب بدقة من طرف الراوي، حتى لا تضيع حكايته في بلبلة من الصور التي لا رابط بينها، فتغدو القراءة فيها ضربا من التجديف في بحر الظلمات.
إن هذا النمط من الكتابة يتطلب من المبدع حضورا يقظا في نصه، حتى لا ينجرف بعيدا عن نقاط المرتكز التي أرساها أولا في بداية نصه، ولا يكون عرضة هو الآخر لفعل"الحلزون" الذي تدور حلقاته حول نفسها متبادعة عن المركز فيقصر دونها الحبل الدال على مخرج المتاهة. لأنه يتوجب علينا أن ندرك في جميع الأحوال أن: " المبدع يؤول العالم. في حين أن القارئ يؤول الكتاب ومعنى ذلك أن المبدع حين يتأمل العالم في تعقيده الكبير، يعيد إنتاجه فنيا من خلال سؤال هو النص ذاته:" لا قيمة لسؤال المبدع في غياب وجود القارئ. هذا الأخير يقيم الصلة مع النص، وليس العالم. إنه عبر النص يكتشف العالم، ويتفحص السؤال الذي انتهى إليه بعد قراءته للنص تفحص السؤال ينم عن إدراك، عن معرفة ووصول أي: الانتهاء إلى كوامن النص وثوابته. ولا تفعل الرواية شيئا غير ذلك التأرجح المبدع بين تأويلين.
إن المحافظة على الصلة بين المبدع والقارئ ضرورية في كل فن. فإذا أجهد المبدع نفسه في فصم عرى هذه الصلة فقد أبطل السؤال، وأنهى مهمة التواصل الخلاق عبر اللغة والأخيلة، وأحال الرواية على قلعة بابل الحديثة.
إن هذه الحالة التي يضيع فيها الكاتب والقارئ سواسية في متاهات النص يسببها عاملان:
2.2-التناسلية:
أسميها "التناسلية" لأننا -في النص- أمام ظاهرة توالد الفكرة من الفكرة التي قبلها، دون أن يكون لها صلة واضحة بالأفكار التي كانت قبلها، وكأن القاص يسلم نفسه لمتوالية تتناسل تباعا كلما وجدت في الفكرة انقساما يتيح لها أن تنشعب يمينا أو يسرا، ولا يهمها الالتفات وراء أبدا. وكأنك بعد الصفحة والصفحتين في حديث لم تكن تتوقعه من قبل، وأنك مصاب "بدوار البحر" يتعذر عليك معه إيجاد الشرق من الغرب. وتغدو الأخيلة مثل الظلام الذي يكتسح وجه النهار، ويستعمر سواد الكلمات وجه الصفحات. إننا نشعر بالتناسلية العجيبة حين نقرأ هذا المقطع من "رمل الماية":" دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ الذي كان يملأ القلب والذاكرة. كانت تعرف أكثر من غيرها أن العد الزمني توقف عند هذه اللحظة بالذات. فالليلة السابعة استمرت زمنا لم يستطع تحديده حتى علماء الخط والرمل ولا حتى الذين عرفوا أسرار النجوم والبحار حين تفيض وتملأ الشواطئ المهجورة والأصداف. كانت دنيازاد تعرف الكثير مما خبأته شهرزاد عن الملك شهريار... »
تحتل اللغة الشاعرة في النص مركز الصدارة، حين توحي للقارئ أنها هنا مدار التأمل والتدبر، وأن الأحداث التي ترويها تأتي في الدرجة التالية. كما أنها تحدد لنا منذ البدء طبيعة المعجم الذي يجب أن نحتكم إليه. فعبارة " انسحبت باتجاه الفراغ الذي كان يملأ القلب والذاكرة" لا تقدم للقارئ حركة عينية تقوم في فضاء محدد، وإنما حركة باطنية تعانيها البطلة جراء موقف معين. إنها الحركة التي تتيح للسارد التمادي في التناسلية والاسترسال وراء الأخليلة التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد حتى نهاية الفصل الذي يختمه بالفقرة الشاعرية التالية: "تمنى أن يتنفس البحر دفعة واحدة، لكن ضيق صدره لم يسعفه كثيرا. جلس عند البوابة التي كانت تشبه خرابا مرت عليه قرون من الأزمنة، على صخرة مطلة على البحر. بدأ ضباب الجحيم السابع يغيب عنوجهه، وتندفع إلى صدره المدن البعيدة التي لم ينس روائحها ولا كآبتها وهي تودعه للمرة الأخيرة."وبين الصفحة السابعة والخامسة والأربعين فيض من القصص الجانبية، وشبكة من التقاطعات التي تتوالد فيما يشبه الانقسام الخلوي للخلايا غير السليمة. إننا أمام "فتنة القص" التي تشعرك بالدوار وأنت تلهث وراء هذه الأقصوصة التي بدأت وما كادت تنتهي إلا لينبت تحتها عدد من القصص، تندفع بشخصياتها التي تظهر بين السطور ظهورا فجائيا، يختلط فيه الواقعي بالتراثي والعجائبي في آن واحد.
إن القارئ يشعر بهلوسة عجيبة لا يعرف معها أيتابع السير مع الراوي أم يتوقف ليتفقد معالمه قبل أن تضيع من بين يديه.. إننا نقرأ في الصفحة التاسعة هذا النص:" كانت دنيازاد تعرف الإجابة، لكنها صمتت طويلا قبل أن تعض على شفتها السفلى...وأقسمت تلك الليلة برأسه الذي لا تلمسه نار جهنم أنها عرفت السر الذي كان يحمله المورسكي في قلبه المتعب منذ أن رأته في المواجهة التلفزيونية الأولى والأخيرة التي جمعته بالحكيم شهريار بن المقتدر قبل أن يرمي هذا الأخير سجينه تحت الأنفاق المليئة بالمياه النتنة وينزل على رأسه بالضرب على السطل الألماني.
إن المبدع واقع لا محالة تحت سلطة "فتنة القول" على حد تعبير الجاحظ، وأن هذه الفتنة قد تقوده إلى مالا يحمد عقباه، فتضيع منه القدرة على التحكم في أشتات المخيلة، لأن: " سؤال النص إشكال. وأنه قائم على الدوام. وفي انتصابه أمام مخيلة المبدع يحار هذا الأخير في اختياره. فالخارج فسيح، ممتد في لا متناهيته. والمبدع حين التوق لاحتوائه يصعب عليه لمه وضمه. فكم من نص قصير أعيد النظر فيه ليحول إلى نص أطول من ذلك. وكم من نص ترك خارج الخارج حيزا ليطاله في نص آخر غير النص المنجز. فالتحجيم والتركيز من الصعوبة بمكان
وما أسميناه بالتناسلية هو هذا الضرب من الانفلات الحاد الذي يستعبد صاحبة، إنه شبيه بالثور الذي كان يقوده صاحبه برسنه، ولما اهتاج صار يجر مالكة وراءه.
تقوم "فتنة القص" على رغبة قول كل شيء دفعة واحدة، وكأن بمستطاع القارئ أن يتابع الرؤى والأخيلة التي تزدحم بها مخيلة الكاتب. قد يتوقف القارئ عند "السطل الألماني" ليسأل عنه، عن دوره، عن وجوده في هذا الفضاء العجائبي.. عن التلفزيون من قبل.. غير أنه لا يعثر على رابط يجمع شمل الشتات حتى وإن اجتهد في التأويل، وبلغ أقاصي ما يمكن للعبارة أن تتحمله. إنه "الضياع في التعدد" مرة أخرى، يجري مجرى التكوينات المشهدية المتناسلة عن بعضها بعض.
2.3-الفوضى المهذبة:
نسميها "الفوضى المهذبة" لأننا أمام لغة سردية جذابة، آسرة، إلا أنها لا تروي شيئا.. أو أنها تروي أشياء عدة في آن واحد. فالخيط الذي كنا نتابعه منذ حين انفرط من بين أيدينا، وغدونا في وسط المتاهة السردية نتابع صدى الكلمات الجملية التي تطل علينا دون أن تمكننا من دلالتها التي نعرفها فيها منذ البدء.
إننا نبدأ مع " المخطوطة الشرقية" والتي تعد الحلقة التالية لرواية "رمل الماية" على النحو التالي: " في البدء كان اللون، وكانت الزرقة.
في البدء كان البحر، ثم الفضاء، فالهواء، وكان الذهول والدهشة.
في البدء كانت الظلمة والرعشة، وكان الرجل الوحيد في الدنيا الذي غطى الشمس بالغربال، ومشى عاريا على واجهة البحر قبل أن يندفن داخل موجة هاربة وهو يصيح في وجه قدره، ملء فمه:
"يا سيد الدين والدنيا يا سيد القلوب والجبال والقصور والحكم والأبجديات المنسية. يا سيد الألوان والغيوم والسماوات السفلى والأراضي العليا، اسمع الحكاية واحكم بحكمك، اسمع ما تبقى من الكلمات الضائعة واسمع الأشواق والأنوار وما تبصره العيون وما لا تبصره، وما يراه القلب والذاكرة، بعدها عتم الدنيا إن شئت، وخذ البحر بين يديك وامح لونه واشرب ماءه، واخرج ذاكرة الناس ثم ضعها تحت قدميك، وضع الشمس بين يديك، واعصرها مثل أوراق الخريف والرماد ولا تتوقف..."
وفي مثل الكلام الذي يتصدر رواية "رمل الماية" نصطدم أولا بحديث يشبه حديث القوالين الممسوسين الذين يخلطون بين الحقيقة والوهم. أو الذين يعمدون إلى جعل أحاديثهم غريبة الشكل واللغة. فإذا استحسنا هذا المدخل وقبلناه في البداية فإنه يسلمنا إلى "فوضى" تتلاحق فيها الكلمات، غير أنها تتجه في دلالتها وجهات أقل ما يقال عنها أنها مبعثرة. فإذا كنا نسلم أن لكل نص مدخل:" فإنه يمتلك أكثر من بداية. ثمة البداية الأصل أو الرئيسة، وهي بمثابة العتبة التي تقذف بنا في رحاب النص. كذلك توجد بدايات أخرى يمكن القول في حقها بأنها ثانوية، وتتعلق بالفصول المشكلة للنص الروائي.. إن البدايات الثانوية تعضد ما هو أصلي ورئيسي، كما تنوع عليه تفاديا للتواتر الممكن حدوثه على مستوى السرد
فالبداية بنية تأسيسية للنص السردي، تمتلك في صلبها البذرة الأولى التي ستتفرع عنها إحداثيات السرد وتنشعب. وكلما كانت البداية واعدة كانت مدعاة إلى القراءة والملاحقة لأن: " البداية تجسد حالة من السكون والاستقرار على مستوى السرد الروائي. عن هذا السكون يتحقق التحول نحو التفصيل وتداخل الأحداث، والأزمنة والشخصيات بغية الامتداد بخيط السرد.
إننا حين نلج عالم "واسيني الأعرج" من هذه البوابة، ونقع على ذلك الضرب من الحديث، نفقد كثيرا من يقيننا الواقعي، بأننا مقبلون على عالم متخيل، مبتوت الصلة عن الواقع المعطى الذي نعرف. وأول خطوة ستضعنا في " تربة عدم اليقين" زالت عنها كافة المعالم التي يمكن الاستهداء بها، شأن الداخل إلى مغارة مظلمة يلتمس ولو بصيصا من ضوء يدفع الدائرة الخانقة للظلام من حوله. إننا نشعر بأن الروائي: " الحديث فقد شيئا ما من إيمان القرن التاسع عشر بالواقعية، من التسلسل والتتابع المنطقي للعمل الروائي، من التطور الطبيعي للعلاقة بين الأفراد وبين تقدمهم الاجتماعي والأخلاقي. وهكذا في عالم أصبحت فيه هذه العلاقات الأساسية وقتية، فقد اتجهت الرواية لداخلها لتتفحص ليس فقط المنابع الرمزية والأسطورية للخيال الروائي، ولكن تعقيدات الوعي الإبداعي، وزاوية الرؤية ووجهة النظر وقواعد تقديم العمل الروائي
إنه الكهف الذي تحدث عنه "واسيني الأعرج " كثيرا في روايته. غير أنه الكهف الذي يتجه عميقا في أغوار النفس، فيخرج هذيانها، وينشر ضغينتها وأحقادها، فيما يشبه البوح الأخير. فقد تكون الرواية اعترافا بهواجس الكاتب لا علاقة لها بالإبداع أصلا. إنها كتابة المذنب الجاني، الذي لم تقترف يداه ذنبا، وإنما اقترف فكره الذنوب كلها.
لم تعد علاقة الكاتب بالعالم الخارجي واضحة مثلما يعانيها الإنسان البسيط الذي يعبر الشارع يوميا طلبا للرزق، وإنما غدا العالم في عين الكاتب كتابة يتوجب عليه صبها على الورق حتى يتمكن من إدراكها بوضوح باطني خاص. إنه شبيه بالمدمن الذي لا يميز الأمور بوضوح إلا من خلال إدمانه وسكره. وحالة السكر تلك هي التي تفرض عليه ذلك الاضطراب وتلك الفوضى التي تتعثر فيها القراءة التماسا لرمز أو اقتناصا لإشارة. لأن الرواية بين يديه تغوص:" عميقا في فيضان الوعي الفردي والجماعي ببنائه المتغير للعلاقات، وزمنه المتبدل، كما نظرت إلى عالم خارجي أقل صلابة وواقعية، إلى تاريخ فوضوي، ونظام اجتماعي مضطرب. لذا ركزت ونوهت بالعلاقات الغامضة للحياة الداخلية والخارجية. وبهذا أصبحت متطابقة مع فلسفة جديدة، وعلم نفس جديد، واقتناع جديد بتعدد وكثرة وجهات النظر المختلفة التي تصوغ أحاسيسنا بالتجربة وبالواقع
ففي اعتقاد "مالكوم برادبري" أننا في حاجة إلى مادة معرفية جديدة لملاحقة الفوضى التي تقترحها علينا الرواية اليوم. أي لسنا أمام ظاهرة إبداعية، بقدر ما نحن أمام ظاهرة مرضية، تحتاج إلى تحليل، وتفسير، وتأويل.. إننا في حاجة إلى فكر تصنيفي جديد يعيد جدولة "وجهات النظر" التي لم تعد تصدر عن أطر معرفية جامعة، وإنما تصدر عن حالات "سكر فردية" هي أقرب إلى الهذيان والهذر.. لقد بنت الرواية قلعتها الجديدة/ القديمة.. قلعة بابل ذات الألسنة الألف.
2.4-تجريم التراث:
قد يكون من المثمر في فن السرد استثمار التراث التاريخي والفكري لإغناء النص الروائي، وإمداده بظل تاريخي يجعل حاضر الناس موصولا بماضيهم. غير أن للتراث قداسته، لا من حيث ارتباطه بالديني، بل بوجوده مقوما من مقومات الأمة، وأثرا من آثارها التطورية. لذلك تستفيد الرواية من حضوره حضورا بيِّنا أي بنصوصه المقتطعة، أو بتناص فني لا يكاد يخفى على القارئ الفطن. لأننا:" نكتب دائما في "سبيل" أن نُقرأ. وما قصدي من الكلمة التي أدونها إلا أن يقع عليها النظر، ولو كان نظري. ففي فعل الكتابة نفسه يكمن جمهور مفروض. فهناك التزام ضمني بين المبدع وقارئه، فيه شيء من إرادة الخير. فالكاتب مهما كانت مرجعياته يحاول دوما إيصال رسالة إلى غيره ليشركه في عالمه الجديد. حتى وإن كان العالم الجديد ضرب من الاعتراف الشخصي المنغلق على الذات. تلك هي الحالة التي يشخصها "ميشال بيتور" حينما يقول:" إن الحالة الغريبة، النادرة جدا، هي حالة الكاتب الذي يعمل حقا لنفسه. ليتمكن فيما بعد من تحديد مكانه، وليس في نيته أبدا إعطاء ما يكتبه لغيره ليقرأه. كما هي حالة "كافكا" في مذكراته. في أغلب الأحيان تكون الكتابة الحميمية موجهة إلى كتابها بالدرجة الأولى. بيد أننا حين نصادف التاريخي وقد أُخرج عن حقيقته التاريخية، ليصير ضربا من التشويه يقع على فترات وشخصيات حققت في وجودها صورة النموذج في المجتمع العربي، يحق لنا التساؤل عن جدوى ذلك التوظيف، وعن إرادة الخير الكامنة في التواصل، وعن مرجعة الذات إن كانت الكتابة موجهة لها في المقام الأول؟؟
إن الذي يستفز الحساسية ويدعو إلى التساؤل، هو ذلك الضرب من التوظيف الذي يقلب حقيقة المشرق من التراث إلى التعتيم، فيجعل ما يفتخر به الناس عادة لوثة تاريخية من شأنها بلبلة الفكر عند الذين لا يفرقون بين الشخصية التاريخية والاسم المستعار منها لأجل التوظيف الفني. ومثال "معاوية بن أبي سفيان" واضح في رواية "رمل الماية": " ناداني معاوية (ويلح جميع الرواة والقوالين على أنه الرجل الذي خرج من تحت إبط الحاكم الرابع) ومعاوية للذين لا يعرفونه هو، أحد المسوخ التي وجدت في لحظة تعرق وبنت وجودها من القتل والخوف.... كان معاوية واسع البلعوم، يأكل في اليوم سبع مرات.. والمعدة الكبيرة نعمة من الله، يرغب فيها كل الملوك.. ص: 24. إن القارئ يدرك جيدا أنه أمام الشخصية التاريخية الحقة، وليس أمام توظيف فني لاسم من أسماء التاريخ. وتحديده ب"بالذي خرج من إبط الحاكم الرابع" يعينه ويحدده تاريخيا. ثم إن الذين سبقوه لم يكونوا حكاما بالمعنى الذي يشيعه الروائي وإنما كانوا خلفاء لرسول الله ولا يغفر للكاتب مثل هذا التشويه حتى وإن كان مرويا على لسان شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة. لأن الكاتب يتحمل مسؤولية ما يجريه على لسانها.
فإذا تجاوزنا الأوصاف التي ألحقها المؤلف "بمعاوية" من "مسخ" و"واسع البلعوم" و "الأكل سبع مرات" و"المعدة الكبيرة" فإنه يصف أهل الحديث ب"القوالين" وهي صفة ينعت بها ضرب من الناس يقصدون الأسواق يبيعون فيها كلاما يختلط فيه الشعر بالثر والقصص والخرافات..
بل لا يكلف الروائي نفسه مراجعة آية واحدة من القرآن الكريم، يدير حولها مشهدا ذا دلالات عديدة حين يكتب على لسان معاوية:
– هاه يا أبا ذر، الأغنياء يشكونك لأنك تحرض الفقراء عليهم.
– أنهاهم عن تكديس الأموال.
– الله هو الآمر الناهي،أنتكر علينا نعمته تعالى؟؟؟
– الآية تقول يا سيدي: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون (ها) في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم»
– لكن الآية نزلت في الأحبار وأغنياء أهل الكتاب من الرهبان ولا يشمل حكمها المسلمين.
– لا؟؟؟ نزلت فيهم وفينا.
خبأ معاوية رأسه من وراء الوراقين بحثا عن كلمات النجدة، لكن الكل كانوا صامتين. ينتظرون الأمر الجديد...
– أنت تشوه الآيات يا ابن بنت الرفيعة. حرف الواو (و) غير وارد في هذه الآية بالذات. صحح نفسك قبل أن آمر بقطع رأسك.
واتفق الرواقون، والبراقون، والسراقون، والصفاقون، يسندهم الحاكم الرابع من بعيد بظلاله الوارفة ومسحة يده الكريمة التي لا تطالها النار الحارقة. تآمر الجميع على حذف حرف الواو، حرف الفقراء من الآية... وشكلت لجنة من الوراقين الكبار الذين تخر الأمة لكلامهم المرصع بالصدق كما يقولون. ولم يدع للجنة كبار القوالين المعروفين كابن عباس، وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب.. واقتصرت العملية على كبار أثرياء المدينة كزيد بن ثابت، الذي بلغت ثروته بعد وفاته مائة ألف دينار، وسبائك ذهبية وفضة ما يكسر شفرات الفؤوس الحادة. وعبد الله بن الزبير الذي ترك له والده خمسين ألف ألف وسبعمائة ألاف عدا ونقدا. وسعد بن العاص بن أمية، وعبد الرحمن بن الحارث... واتفق الجميع على وضع حرف الواو في أقرب متحف عربي أصيل لا ينكر النعمة ويعترف بالجميل...ص:25.
قد يشعر القارئ أنه إزاء أسلوب ساخر حين تتوالى أمامه المعطوفات التي تصف أصناف الواقفين بين يدي الحاكم (معاوية) وأن الخبر ما سيق بهذا الأسلوب إلا ليكون له طعم النكتة التاريخية التي حفلت بها كتب التراث العربي. غير أن تصنيف الصحابة إلى أثرياء وغير أثرياء يفتح أمام القارئ هاجس الشك والسؤال، ويدفع الناقد إلى البحث عن جدوى إخراج صحائف جرد الممتلكات؟؟ إنها مهمة المؤرخ الذي يفرض عليه التاريخ تسجيل الوقائع، ولكنها حتما ليست مهمة الروائي الذي ينصرف إلى المتعة الأدبية.
[1]