السبت ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧
رُؤى ثقافيّة «287»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

نحو استعادة الشِّعريَّة العربيَّة

«قراءة في سديم اللهجات»

لا تبدو إشكاليَّة الشِّعر اللهجيِّ كامنةً في اللغة فحسب، ولكنَّها كامنةٌ في العَروض كذلك. فلا بُدَّ لك أن تكون شاعرًا عامِّيًّا، أو عالمـًـا بصيرًا بأوزان الشِّعر العامِّيِّ، لتميز مستقيمه من معوجِّه. من أجل هذا تُصبِح كتابة الشِّعر العامِّيِّ عبثًا في عبث، وإنما هو شِعرٌ ينبغي أن يُسمَع، لا أن يُقرأ. وأنت واجدٌ هؤلاء الذين يكتبونه يرتكبون أخطاء إملائيَّة، وعَروضيَّة، فوق مسائل اللغة والنحو التي أمست في خبر كان. ولنضرب على ذلك شاهدًا من قصيدة للشاعر النَّبَطي الكبير (محمَّد بن أحمد السديري)(1):

يا شن بقلبي منه صبّحت مكضومْ
يعلم به اللي عن عباده غناوي
وعيني يا بو ماجد حريب لها النومْ
وكنّه يعالجها الطبيب المداوي
إلى أن يقول:
أنا الوحيد وقومي أكثر من الرُّومْ
وفي لمَّة العربان كنّه خلاوي
وحتى صديقي صار من حسبة القومْ
وضاعت عزوم مكثّرين العزاوي

فلا بُدَّ أنَّ القارئ سيجد من الحيرة ما وجدتُ في وزن هذه القصيدة، إلَّا إنْ كان يحفظها أو قد سمعها سلفًا. وهو حينئذٍ في غُنيةٍ عن كتابتها أو قراءتها!

فلمَن يكتب هؤلاء هذا الشِّعر؟!

وبعيدًا عن الأخطاء الإملائيَّة، المتعمَّدة أو غير المتعمَّدة، سيجد صدور بعض الأبيات من البحر الطويل، الذي يسمِّيه أرباب الشِّعر النَّبَطيِّ (الهلالي)، وأعجازها من (المسحوب)، وهو البحر السريع، ذو السحبة بترفيلٍ في التفعيلة الأخيرة من شطر البيت. حتى يهتدي القارئ إلى الوزن الصحيح، أو ربما ييأس. فإذا اهتدى، عرف أن الأبيات تُقرأ بأخطاء لغويَّة وإملائيَّة، لا تظهر في الكتابة. فالبيت الأوَّل صواب صدره: «يَـشَيِّنْ»، كُتبت «يا شن»، أي «يا شيئًا...». وهو من وزن الطويل: «يَشَـيِّنْ/ بقلبي منْـ/ـه صبَّحْـ/ـت مكضومْ». لكن ماذا عن عجزه؟ إنه كما هو مكتوب في ديوان الشاعر من المسحوب، لا من الطويل، هكذا: «يعلم به الـ/لي عن عبا/ده غناوي»! ذلك أن ثمَّة صوتًا في بداية الشطر، لم يتنبَّه الكاتب إلى ضرورة إثباته؛ لأنه يعتمد على حِسِّه السماعي، ويتصوَّر أن الناس مثله! وصوابه: «ويعلمْ/ به اللي عن/ عبادهْ/ غناوي». وبذا صار الوزن يشبه شِعر (صدَّام حسين) المزعوم، كل شطر يسبح في بحر! أمَّا البيت الثاني، فكُتب بصورة صحيحة. حتى إذا وصلنا إلى بيت القصيد:

أنا الوحيد وقومي أكثرْ من الرُّومْ
وفي لمَّة العربان كنّه خلاوي

جابهتنا المعضلة نفسها في القراءة. حتى نهتدي- أو نيأس- إلى أن الشطر الأوَّل يُقرأ بخطأ لغويٍّ وإملائي، لم يظهرا في الكتابة، هكذا:

أنا إلْـ/وحيد وْقو/ميَ اكثرْ/ من الرُّومْ

فـ«أنا إلْـ» هذه فيها بيت الداء! بحيث تصبح همزة الوصل في «الوحيد»، همزة قطع: «إلوحيد»، وبدون هذا يختلُّ الوزن، ويضطرب القارئ. وهذا- فوق كونه خطأً لغويًّا وإملائيًّا- هو من الضرائر الشِّعريَّة غير الجائزة عند العرب. وقِس على هذا ما لا حصر له من الظواهر التي جنتها الكتابة على النص.

إنها إشكالات لغويّة لهجيَّة بالغة التعقيد، إذن، تزيدها الكتابة فسادًا على فسادها وتعقيدًا إلى تعقيدها، ما يجعل كتابة هذا الشِّعر بلا معنى، إلَّا إنْ قُيِّض اختراع كتابةٍ أخرى خاصَّةٍ تساعد على تَقَرِّي ما يُكتب منه. ذلك أن العربيَّة بناءٌ واحد، متكامل، بنحوها وصرفها، وإملائها، وعَروضها. والعرب- حين قعَّدوا قواعدها، ووضعوا طرائق رسمها- بَنَوا ذلك على اللسان العربي كما عهدوه، وَفق نواميسه الفصحى؛ ومَن يسعَى اليوم إلى تركيب هذا على ذاك يَفقد نصَّه وقارئه معًا. فليبق هذا الشِّعر سماعيًّا، إنْ لم يكن احترامًا للعربيَّة، فليكن احترامًا لهويَّة هذا الضرب من الشِّعر، ونظامه اللغوي، وبنائه الفَنِّي، ووصوله إلى جمهرة متذوِّقيه.

إن جمال هذا الشِّعر في إنشاده وسماعه، لا في كتابته وقراءته. من حيث هو شِعرٌ شفهيٌّ لا كتابي، شكلًا ومضمونًا.

ومع ذلك- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- فلا مراء في أن بعضه حافل بسِجلٍّ غنيٍّ عن أعراف العربيَّة الأُمِّ، وإشارات العرب الشِّعريَّة. فمن سيفقه إشارة (أبي الطيِّب المتنبي) الشِّعريَّة في قوله، مثلًا:

شِمْنا، وما حُجِبَ السَّماءُ، بُروقَهُ
و[حَرًى يَجُوْدُ] وما مَرَتْهُ الرِّيحُ

ما معنى "حَرًى يَجودُ"؟

لن تجد المعنى في معجمات العربيَّة، ولا في شرح الشُّرَّاح. وإنما سيقولون: معناه أنه سحابٌ حَرِيٌّ بأن يجود بالمطر وجدير. وذلك صحيح، لكن ظِلال المعنى الشِّعريِّ غائمةٌ هاهنا. وتتمثَّل في وصف السحاب المرجوِّ المطر بأنه «حَرًى»، مع الاستغناء بالوصف عن ذِكر الموصوف، وكأن «الحَرَى» كان تعبيرًا عربيًّا دارجًا عن السحاب المُؤْذِن بالغيث. ولن تتذوَّق المعنى إلَّا إذا تفيَّأتَ خميلة الأصل، التي اندثرت أغصانها من تعبيرات الشِّعر العربي الفصيح. وستجد آثارها على لسان العامَّة. وستسمعها في مِثل قول (خالد الفيصل):

[مِحْـرِيٍ بالخيْـر] يا مـزنٍ نِـشـا
يا حلو عِقْبِ الوَسِمْ رَجْعِ السَّحابْ(2)

فـ«المحري بالخير» من الـمُزْن هو «الحَرَى الذي يجود» من السحاب.

وهنا تتبدَّى أهميَّة دراسة الشِّعر اللهجيِّ لاستعادة روح الشِّعريَّة العربيَّة، التي ران عليها الزمان، وتقطَّعت بيننا وبين مائها أرشيةُ الزمان. إنَّ البحث في هذا الشِّعر عن جذور العربيَّة هو كالبحث في أرض الجزيرة عن آثار العرب الغابرة. ليس لهوًا ولا لعبًا، ولا محض خنزوانةٍ أعرابيَّةٍ فارغة، أو حُبًّا عاطفيًّا في البداوة، بل سعيٌ لاستحياء الشِّعريَّة الأصيلة من سديم الآثار اللهجيَّة.

(1) (1994)، ديوان محمَّد بن أحمد بن محمَّد السديري، (جُدَّة: شركة المدينة المنوَّرة)، 11.

(2) «مِحْـرِيٍ بالخيْـر»، بصوت (محمَّد عبده): https://goo.gl/pxy7UA (الأستاذ بجامعة الملك سعود، بالرِّياض)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى