وصفة التدبير في عالم عربي
وصفة التدبير في عالم عربيبلا نظير بين قطيع بلا وعي ونخبة بلا ضمير، مقاربة خلاصية
مقدمة
في سياق التحولات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها العالم العربي، يبرز مفهوم "وصفة التدبير" كمحاولة لصياغة نموذج إداري وتنظيمي يعالج التناقضات الداخلية في هذا الفضاء الفريد. يُقصد بـ"عالم عربي بلا نظير" تلك المنطقة الجغرافية والثقافية التي تجمع بين تراث حضاري عريق وواقع معاصر مليء بالتناقضات، حيث يقع بين "قطيع بلا وعي" – أي الجماهير التي تفتقر إلى الوعي النقدي والمشاركة الفعالة – و"نخبة بلا ضمير" – أي الطبقة الحاكمة أو المثقفة التي تفتقر إلى الالتزام الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية. يثير هذا الوصف تساؤلاً جوهرياً: ما هي الوصفة الخلاصية لتدبير هذا العالم، أي النهج الذي يهدف إلى الخلاص والإنقاذ من خلال إعادة بناء الوعي الجماعي والضمير النخبوي؟ للإجابة على هذا السؤال، سنعتمد مقاربة خلاصية، مستلهمة من الفكر الاجتماعي والفلسفي الذي يرى في الخلاص عملية تحول جذري، كما في التصوف الإسلامي عند ابن عربي أو الفلسفة الوجودية عند كيركيجارد، لكن مع تطبيق عملي يركز على إعادة صياغة الهيكل الاجتماعي والسياسي. هذه المقاربة ليست نظرية مجردة، بل هي دعوة للعمل التحرري، مستندة إلى التحليلات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، مع التركيز على الجوانب التاريخية، النفسية، والاقتصادية. سنبدأ بتشخيص الواقع العربي كفضاء تناقضي، ثم نستعرض مكونات الوصفة الخلاصية للتدبير، لنصل إلى تطبيقاتها العملية، مع الاعتماد على نماذج من الثورات العربية والإصلاحات الراهنة. كيف تمثل المقاربة الخلاصية أداة لإنقاذ الواقع العربي؟
تشخيص الواقع العربي: بين القطيع البلا وعي والنخبة البلا ضمير
يمثل العالم العربي، الذي يمتد من المحيط إلى الخليج، فضاءً فريداً بلا نظير في تناقضاته، حيث يجمع بين ثروات طبيعية هائلة وفقر اجتماعي مدقع، وتراث ثقافي غني وانحسار في الإبداع المعاصر. في هذا السياق، يُصور "القطيع بلا وعي" الجماهير التي تحولت إلى كتلة سلبية، تفتقر إلى الوعي النقدي بسبب عوامل مثل الفقر، نقص التعليم، والإعلام الموجه. هذا الوصف ليس تحقيراً، بل تشخيصاً اجتماعياً مستلهماً من فرانتز فانون في "معذبو الأرض" (1961)، الذي يرى في الشعوب المستعمَرة قطيعاً يحتاج إلى وعي ثوري للخلاص. في العالم العربي، أدت عقود من الأنظمة الاستبدادية إلى تهميش الجماهير، محولة إياها إلى "قطيع" يتبع الإشاعات والعواطف دون تحليل، كما في انتشار النظريات المؤامراتية خلال جائحة كوفيد-19 أو الانتخابات الشكلية في بعض الدول. مقابل ذلك، تُمثل "النخبة بلا ضمير" الطبقة الحاكمة والمثقفة التي تخلت عن مسؤوليتها الأخلاقية، مفضلة المصالح الشخصية على الخير العام، كما في نقد إدوارد سعيد للمثقفين، الذي يصف النخبة العربية بأنها تابعة للسلطة بدلاً من نقدها. في عام 2025، يظهر هذا في الفساد المنتشر في بعض الدول، حيث تتحالف النخبة مع رأس المال العالمي، متجاهلة الفقر والتهميش، مما يعمق الفجوة بين الطبقات. هذا التناقض ليس مصادفة؛ إنه نتيجة لتاريخ الاستعمار والاستبداد ما بعد الاستقلال، حيث تحولت الدول العربية إلى أنظمة تابعة، تفتقر إلى تدبير حقيقي يعتمد على الوعي الجماعي والضمير النخبوي. من منظور خلاصي، يصبح هذا التشخيص خطوة أولى نحو الإنقاذ، إذ يرى في الخلاص عملية تحرر جماعي، مستلهماً من الفكر الإسلامي كما في مفهوم "التوبة" الجماعية عند محمد إقبال، الذي يدعو إلى إعادة بناء الذات العربية من خلال الوعي والأخلاق.
مكونات الوصفة الخلاصية للتدبير: من الوعي إلى الضمير
تتكون وصفة التدبير الخلاصية من عناصر مترابطة تهدف إلى إنقاذ العالم العربي من تناقضاته، بدءاً بإحياء الوعي لدى القطيع. يعتمد هذا على التعليم النقدي، كما في نموذج باولو فريري في "تربية المضطهدين" (1970)، الذي يرى في التعليم أداة للتحرر من خلال الحوار والنقد. في السياق العربي، يمكن تطبيق ذلك من خلال إصلاح المناهج التعليمية لتشجيع التفكير النقدي، بدلاً من التلقين، مما يحول القطيع إلى مجتمع واعٍ يشارك في القرارات السياسية. أما النخبة بلا ضمير، فتحتاج إلى إعادة تأهيل أخلاقي، مستلهماً من أخلاقيات أرسطو في "الأخلاقيات النيقوماخية"، حيث يصبح الضمير فضيلة مكتسبة من خلال الممارسة والمساءلة. خلاصياً، يتطلب ذلك إنشاء آليات رقابية مستقلة، مثل مجالس أخلاقية للمسؤولين، وتشجيع المثقفين على دور نقدي كما في فكرة "المثقف العضوي" عند غرامشي. اقتصادياً، تشمل الوصفة إعادة توزيع الثروات لتقليل الفجوة الطبقية، مستلهماً من نموذج "العدالة الاجتماعية" في الإسلام، كما في مفهوم "الزكاة" كأداة للخلاص الجماعي. سياسياً، يركز التدبير على بناء ديمقراطية مشاركة، حيث يصبح الخلاص من خلال الانتخابات الحرة والمؤسسات الشفافة، كما في تجارب تونس بعد الثورة. نفسياً، تهدف الوصفة إلى بناء هوية جماعية قوية، مستلهماً من فرويد في "الحضارة وسخطها" (1930)، لكن ببعداً خلاصياً يرى في الوعي الروحي مفتاحاً للتغلب على الاغتراب. هذه المكونات ليست منفصلة؛ إنها تشكل وصفة متكاملة تهدف إلى الخلاص من خلال التحول الجذري، محولة العالم العربي من فضاء تناقضي إلى نموذج للعدالة والتقدم.
التطبيقات العملية للوصفة: دروس من الثورات والإصلاحات
في تطبيق عملي، يمكن رؤية الوصفة الخلاصية في تجارب الثورات العربية منذ 2011، حيث حاولت الجماهير في تونس ومصر إحياء الوعي من خلال الاحتجاجات الاجتماعية، لكن فشلها جزئياً يعود إلى غياب الضمير النخبوي.
خلاصياً، يمكن تعلم الدرس من خلال بناء تحالفات بين الجماهير والنخبة الملتزمة، حيث ساهم الوعي الشعبي في إسقاط الديكتاتورية، لكن الصراعات اللاحقة تبرز الحاجة إلى تدبير أخلاقي. يظهر التطبيق في إصلاحات قانونية، حيث يركز الدستور على العدالة الاجتماعية، محاولاً تحويل النخبة إلى ضمير جماعي من خلال برامج مكافحة الفساد.
اقتصادياً، يمكن تطبيق الوصفة في دول الخليج من خلال تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، مع مشاركة الجماهير في القرارات، لكن الخلاص يتطلب إضافة بعد أخلاقي يضمن توزيع الثروة. اجتماعياً، يشمل التطبيق حملات توعية عبر وسائل التواصل لإحياء الوعي، مستلهماً من حركات شبابية، التي تحولت من قطيع سلبي إلى مجتمع واعٍ يطالب بالحقوق. خلاصياً، يصبح التدبير عملية مستمرة، تتطلب مراقبة ذاتية لتجنب عودة التناقضات، كما في نموذج الديمقراطية التي تحاول الخلاص من خلال تقوية المؤسسات.
خاتمة
في النهاية، تمثل وصفة التدبير في عالم عربي بلا نظير محاولة خلاصية للإنقاذ من تناقضات بين قطيع بلا وعي ونخبة بلا ضمير، من خلال إحياء الوعي والضمير كأساس للتحول. التشخيص يكشف عن جذور التناقضات، بينما المكونات والتطبيقات تقدم طريقاً عملياً نحو الخلاص. مع استمرار التحديات مثل التغير المناخي والفقر، يظل هذا النهج مصدر إلهام، مذكراً بأن مستقبل العالم العربي يعتمد على قدرته على الخلاص الجماعي من خلال تدبير أخلاقي وواعٍ. فهل تكون هذه الوصفة الخلاصية كافية لرسم مستقبل مشرق للعالم العربي؟
