أسعد مقتولٍ في العالم
ها أنا ذا أستطيع الطيران مثل أي جارح. الحقيقة التي اكتشفتها بالمصادفة ولا يمكنني التباهي دائما بمثل تلك المعجزة، التي قد لا تجذب الكثير من المؤمنين من البرهة الأولى، بدا لي عندما انزلقت من على سفح الصخرة الكبيرة أعلى الحمى المكان الذي أنتمي إليه وأنطلق منه. هبطت كما يهبط المولود من رحم أمه، ووجدت أني أفرد كلتا ذراعي مثل جناحي جارح، وأحوم حول الحمى الذي طالما شهد معاركي الطفولية وصراخي في ميادين الوغى الخيالية مع أولاد الأحياء المجاورة، مثلما ألف وقوفي المرتبك في خاصرة الطرقات الملتوية نشدانًا لنظرة من خلف الستائر الملونة هنا، أو غمزة من خلف مخمل الرغبة والحياء المراهق هنا. ما فكرت يومًا بالسماء، ولم يدر في خلدي أني سأتمكن من الطيران لولا السقطة التي كادت أن تحطم عظامي، هناك غمرني الضوء وقيل لي كن طائرًا يطير بجناحيه، فطرت. وإذا بجسدي يشق أسراب الطيور المذعورة مني بالأفق ويشوش على النجوم.
في البدء لم أكد أتعرف على نفسي جيدًا، الحدس هو ما أخرجني من ارتباك فوضى الأسماء في ذاكرتي؛ إذ لا هوية لي، فلا انا بشر ولا حجر، ولا طائر ولا سديم، كنت حينها الشيء الذي يطير بلا أجنحة، ويعوم في الأعالي بلا ماء، يوم حدث ذلك اختفت من على وجه الارض الأرانب والزواحف وبعض الغزلان البرية، التي كنا نتحين فرص مطاردتها يوم كنا صبيانًا في ذلك الفضاء الذي نشأت فيه. انقسم الناس في نواياي بعد أن شاهدوا ظلي يمتد على أسطح المنازل والمدارس والشوارع والحانات والمساجد، فمنهم من رأى أني أقدمت على ذلك من أجل جذب الفتيات الجميلات مستدلين على فكرة أن ليس هناك أنثى لا يخذلها الصمود أمام إثارة رجل يطير، ومنهم من رأى في تحليقي تغريرًا بالفتيان المولعين بالتجربة، وأنه لا شك أن تكون عاقبة ذلك قيادتهم إلى حتفهم لا محالة، من يعرف؟ وهناك من رأى أن مسألة طيراني دليلًا لا سبيل إلى دحضه على أننا نعيش آخر الزمان، كل ذلك كان يحدث بينما كان القليل من الناس ينظرون من أسطح المنازل وملامحهم تغص بالأسئلة المخنتقة، وبإمكاني هناك أن أرى الأطفال يلّوحون لي كمن يودع سفينة مغادرة. لم أشعر حينها بالحسد أو العدوان، اللهم الا بعض الإشارات هنا أو هنا من عمال المطارات بأني لن أحتاج من الآن فصاعدًا إلى جوازات السفر، وهناك من تطيّر وقال أن الخراب سيعم في السماء بعد أن أفسد البشر الأرض وسفكوا فيها الدماء، في حين أعلنت أسرتي أني لا أنفع أن أكون ملاكًا نظرًا لتاريخي الموغل في الخطايا.
منذ حادثة السقوط تلك أحسست بالتزام ما إزاء أغراض الناس وحاجيتهم، وصرت اقضي الليالي على المنائر والمباني العالية والأسلاك في الأزقة الخلفية، كان التزامي الجديد هو مراقبة الأفق، وشيئًا فشيئًا أمسيت حارسًا لممتلكات الناس، إذ كلما سمعوا صراخ اللصوص والسراق بعد منتصف الليل، علموا أني كشفت ثلة من المتلبسين بالغي، فألف ذلك بيني وبين قلوب التجار والكسبة المقيمين في ظل الحمى. حتى أمسى جليًا لي أنهم يشعرون بشيءٍ من الطمأنينة الممزوجة بالشفقة تجاهي. ترجمان ذلك أنهم كانوا يتركون لي آنية القمح والذرة وبعض الماء قبل مغادرتهم السوق عرفانًا بمناوبات حراستي اللامشروطة. لقد تطلب الأمر وقتًا كثيرًا ليعتاد الناس على مسألة طيراني، بدا مندوبو شركات الإعلانات والكوكوكولا بالتوافد لتقديم العروض تلو العروض من أجل تمثيل علامتهم التجارية، وسرت الشائعات بقدوم بعض صيادي الطيور التائهة أصحاب القبعات المدورة من أجل وضعي، أنا البشري الجارح في قفص بحديقة الحيوانات، في حين دفعت حالتي النادرة العلماء أخيرًا بالقول إن نهاية الانسان ستكون جارحًا يحترف التحليق في الهواء الطلق، بعدها أقر المسنون في زوايا الحمى بضرورة الاحتفاظ بي، مهما كنت؛ كوني أمثل إرثا ثقافيا وأجسد خطيئة من يتحدى التقاليد في الانزلاق من الصخوو، كما صرت جزءًا من معالم المكان ومركزًا لجذب السياح الأجانب من دول نامية، وفي نهاية المطاف تم نصب جدارية كبيرة في مدخل زقاق الأسرة تحمل صورتي بزي الطيران مع ابتسامة عرضها سبعين فرسخا كتب تحتها: أسعد مقتول في العالم.
مفاد الأحاديث التي بدأت تنتشر في كل مكان أن أصحاب القبعات المدورة يبيتون النية في الإيقاع بي، عملًا بالمثل القائل إن من لا يعرف قيمة الجارح يشويه، ورأى كبار السن أن مسألة الشواء هذه إنما هي مسألة وقت، حتى مع ما تمتلكه سمعتي الجديدة من قدر لا بأس به من تعاطف، مستغلين فضائحي مع العصافير الحنطية؛ لاسيما بعد أن فهم الناس مغزى مكوثي الطويل على أسلاك أعمدة الدخان المتصاعد من أماكن انتظاري, حتى تخرج لتطش على مسامات روحي حنطة ابتسامتها كما ينثر الملبس والحلوى في عرس جماعي. لم أكن واهمًا عندما عرفت أن ابتسامتها تعلم كل شيءٍ عني، وإلا لم تشعرني عيناها بالضعف والفراغ؟
ولماذا أنزل عن سلك النور إلى تحت ثوبها الشجري لالتقاط حبات الفجر اليابس في خريف شهوات الريح الموسمية؟ الأمر كله كان اشبه بحلم , عندما تتبعت حبات الحنطة التي كانت الأمهات تنذرها لوجه الله عند عودة أطفالها الضائعين في قتال الأحياء المجاورة. ولكي أكون جارحًا أمينًا كان موسم الحروب بين الأحياء المتاخمة لبعضها هي من أشد الفترات وفرة لأجود أنواع الحبوب المستوردة المنذورة لاطعامي حتى الشبع, ولم يكن مفاجئا لمن هم في مثل حالي أن جميع المحاربين الشبان اتخذوا مني شعارًا يعلو خوذهم وكأني طوطمهم الأثير ومعشوق النساء الوحيدات.
من العسير علي - رغم وصفي بسيد الأرجاء- أن افهم لماذا يتتبع جارح مثلي يعيش على نذور الموجوعات عصفورة قمحية إلى عشها الصغير المضيء بروحي يوميًا. لا علم لي إذا ما كانت تلك عادة أو طبعًا تتخذه الجوارح كلما مرت العصافير المخملية ذوات المناقير الناعمة وهي تحمل حبات القمح المتسرب من تحت أثوابها. ولإقناع الثرثارين أعلنت أنني وجدت أخيرًا السلك الذي يمنح لقدمي ثبات المخاطرة.
لا أعلم كيف أصبح القمر قادرًا على حضور الحفلات التنكرية فما للقمر والحنطة! هذي أولى كلماتي التي نطقتها منذ انزلاقي من على صخرة الجوارح كنت أفكر على الأغلب أن الشفقة وحدها يمكن أن تفسر لي نثر نداها صباح كل يوم مع استمرار تسرب خيط الفجر من تحت ثوبها الشجري، ومع مجيء الصيادين لم يكن واضحًا لم أدمنت لبس السواد لدرجة أني لم أستطع تمييز الليل من شعرها الطويل والرداء الذي خيم على الأفق.
تسرب الشك إلى أعماق روح الحمى منذ أن وطأت أقدام أصحاب القبعات المدورة مؤخرة الحرب حتى عجت المقاهي بروائح البارود والقذارة، وللمرء أن يدرك أنهم قدموا لاصطياد أرواح الناس، لا الروح الشريرة التي يمثلها وجودي المعشش على أسطح البنايات وأسلاك الأزقة الخلفية كما كانت تقول إذاعاتهم الموجهة، وفي الوقت الذي كنت أعد فيه العدة لقلبي، لم يكن الصيادون يرون فيّ إلا قطعة لحم آدمية يمكنها التحليق لبعض الوقت.
الصيادون، أو أصحاب القبعات المدورة هم أنفسهم دائمًا. لا أحد يعرف لهم أصلًا أو فصلًا، هم الموجودون في كل آن وزمان، هم أساطيرهم وقصصهم التي يحفظونها عن ظهر قلب. يجيدون أدوارهم ببراعة، ترافقهم أينما حلّوا افاعيهم وهررتهم ويحمل أمتعتهم وهوادج نسائهم غلمان لا ملامح لهم، يضعون على رؤوسهم ريشًا ملونًا للتمييز بين رتبهم ومقاماتهم، وما فهم عنهم آنذاك أنهم ينحدرون من شبه القارة المحرومة، وأن أسماءهم هي الألوان وأنهم لا يبتسمون؛ فسر ذلك بأنهم أفلتوا من عباءات أمهاتهم فابتلعتهم فخاخ التيه عن العودة للمنزل القديم.
لم يكن مفهومًا لم صدق الناس الصيادين؟ وهناك من عزا ذلك إلى طريقة تدوير قبعاتهم التي تنوم الناس مغناطيسيًا، طبقًا لفتاوى آيات الله الذين قالوا إن نهاية الإنسان هو التحليق في آخر الزمان على أن ذلك مجزئ ومبرئ للذمة، في حين علل المسنون لون العتمة التي سببتها القبعات المدورة وانتشرت في الآونة الأخيرة في أردية النساء بأنها بلاء من عند الله، رغم ذلك بقي السؤال الذي لم يستطع أحد الإجابة عنه؛ وهو كيف للعتمة أن تسلب النساء لون شعورهن وتترك بيوض القلق معششة في أعالي هاماتهن؟
من يفكر بالليل ولا تخطر على باله النساء؟ سيقولون لك الليل هو المرأة المرتدية عباءتها السوداء الطويلة. بلى! تلك التي رأيتها بأم عيني وهي تهرب صبيانها من أعين صيادي الحروب، عبر الأزقة التائهة كما توزع شيلان الزهرة على بيوت الحمى، طلبًا لقضاء الحوائج بإعادة صبيانها سالمين الى عباءتها الرثة مرة أخرى.
سيقولون لك الليل مسبحة الله السوداء التي قسّم فيها أسماءه الحسنى، يربطها خيط الألم مع شاهدي ثنائية العشق والفقدان في كف امرأة وحيدة.
الليل نفسه أم تغني لصغارها فينام الطيبون، ويتظاهر اللصوص ومدمنو نعمة الله الخضراء بالترويج للنهار. أغلب الظن أن نعمة الله شوهدت معبأة في أكياس الرز البسمتي مع قدوم أصحاب القبعات المدورة، ووزعت على الفقراء في مواسم الحج والحصاد.
– لم لم يطاردوا الرائحة العتيقة؟
– هذا لأنه لا حواس لهم؛. ومن لا حواس له لا اسم له.
– وماذا عن ما يحملون؟
– للحث على التذكر، أما علمت انهم نسوا أنفسهم عند جانبي الطريق وغادرتهم القافلة؟
– متى يبكون؟
– إذا ما بكوا تذكروا، وإذا ما تذكروا لن يناموا ويضيع الليل مرة أخرى.
الزوايا، صومعة المسّنين، صميم المكان وجوهره، وجدانه والناطق بتلاشيه، سفينة أسرار الغرقى في باطن محيط الأحداث، يعرفون ما لا يمكن معرفته ويصّرحون بالمحال من القول.
يعرفون المتسوّرين على جدران العار كما يعرفون أسماء أجدادهم، ويحفظون الألقاب بعد أن يمنحوها في ألواحهم المخبأة. هؤلاء عرفوا أصحاب القبعات المدورة من روائح خطواتهم الثقيلة وكتبوا اغنية أهدوها للهواء:
(إذا دخلت الحي
كن ميتا أولًا
لا ترتد أثوابًا نظيفة
لا تطل جسدك بالزعفران
فيشمك الصيادون
وابق حافيًا
كي تتمكن من الإفلات حينما يتجمعون حولك)
حفظ أطفال الاحياءِ الأغنية، وصار من السهل ملاحظة خدود عصفورة الحنطة وهي تحمّر، مسربة لي ما تيسر لها من تفاصيل أسرار الزوايا، كان وقوفي على سلك زقاق دارها الخلفي كفيل بأن يغمرني بالأضواء الدائمة، الأضواء التي تذكرني بأضواء السقطة الأولى، ويوما بعد يوم أصبحت أكثر شجاعة بالقفز إلى جانبي أحيانًا من أجل التفرج على الصبية وهم يتظاهرون بالنوم ومراقبة القمر . ذكرت لي أنهم جاؤوا من أجلك وهم يرشون الزوايا بالزعفران، ويوزعون نعمة الله على الطرقات، وذكرت انها خائفة من أن ينفد الليل ويضيع الصبية من عباءات أمهاتهم ولن يتبقى لك شيئا تحرسه. ورغم أنها سوغته بضوء القمر الناصع والعفاريت الدائخة من العواصف الهاربة مع عشاقها هذي الأيام، إلا أني أقسم إني لمحت التماعًا في عينيها فاض على الزقاق وأغرق النهر.
طوقوا الصخرة بالأسلاك الشائكة لإبعاد الأطفال وقطاع الطرق، ومنعوا التقاط الصور قربها لأن المصورين هم الأشد عذابًا يوم القيامة، وبنوا قصرهم على سفح تل للتغطية على صفقات تبادل الحشيشة مقابل الليل، تلك التي كانت تجري خلف جدران القصر مع توافد المزيد من مرتدي الريش الملون لإصلاح الأزقة العتيقة وإبدال الأحجار بالإسفلت، والزوايا بالأرصفة والتكايا بالفنادق والماء بالكوكاكولا.
أخبروا العجائز بأن الهواء حرام، ومن يحلّق فيه كمن يفعل بأمه، وأعادوا تسمية التراب بما يتلاءم والوضع الجديد وتقلصت أيام الاسبوع إلى يومين: (البكو والمكو) *حكمة ذلك أنه لا يقرع الطبل إلا بالعصا ولا يسمع العزف إلا بالضرب. ثم اندمجت الفصول وجعلت فصلًا واحدًا أطلق عليه فصل الخوف من الظلال المتحركة، وحل العواء محل اللغة، والأرقام أصبحت أن تسحل جثة . والصدق هو الاصفرار.
لا الأيام ولا الفصول ولا اللغة حتى تعني شيئًا لجارح مثلي، كل ما أحتاجه الأفق والريح وبعض الاشجار الواقفة، فضلًا عن الأسلاك في الأزقة الخلفية لمراقبة العشاق واللصوص، ومروجي نعم الله الجدد، ومعارك الصبيان السرمدية في حق الاستيلاء على الجدران من أجل كتابة الشعارات الثورية من قبيل (الإنسان نسر لأخيه الانسان) , أو (لن تجد ما هو أشد وسامة من طير يصلب)، أو (الريش الملون طريقنا نحو النصر) , بينما تنتقل بين دفوف الزوايا أغنيتهم في مديح الرائحة والطوفان؛ الطوفان الذي سوف ترسله السماء، وكيف سينقذ جسدي الحائم فوق أسطح المباني والتكايا والمدارس وبعض البيوت القديمة العالم من مراحيض أصحاب القبعات المدورة الذين افتتحوا عشرات المدارس لتعليم الصبية الاستمناء، والصبر على الاحتباس الحراري، والتغوط من دون أن يسكبوا الماء بعد إنجاز العمليات العسكرية. قالت العجائز: ماذا ينتظر الله؟ لم لا يفتح علينا من صنابير زمزمه لينظف وحل الخراء الذي دفن الحمى المتفسخ؟ ليس من منقذ هناك، إلا أنا الذي سوف أملأ الأرض بالزعفران والحرمل بعد أن ملئت بالقذارة والعذرة.
عربة الثلج، الجائزة التي وضعها الصيادون لمن يأتي برأسي معلقا على سعفة، ومن ذا يعلم قيمة الثلج في الصحراء القاحلة، الصحراء التي دخلت البيوت والحانات ودكاكين الحلاقين والتجار، ممن لم تسع أعمدة الأضواء جثثهم المعلقة في أيام القحط حيث يمكن للرأس المقطوع أن يكون سعرًا مناسبًا لحفنة قمح لّما عجزت الدنانير عن سد رمق بقاء المرء واقفًا مرتديًا لامة الانحناء لتقبيل أيادي العاصفة.
لائحة اتهاماتي تضمنت بنودًا عدةً منها على سبيل المثال لا الحصر؛ إزعاج هدوء الأموات المندسين في فنادق الدرجة الأولى لجيوب العاطلين عن العمل، وثقب كيس السماء المليئة بالبحر الأزرق سعيًا لإغراق العالم، والتسلل عبر الحدود لإرجاع الأطفال الذين تركلهم كراتهم خارج الجغرافيا، والتقاط حبوب الندى تحت أثواب العصافير المزركشة، والتآمر مع الجيوش السرية للنمل الأبيض تحت اسرة القصر.
في أعقاب ذلك بثت إذاعات القبعات المدورة تسجيلًا صوتيًا نسب إلي، أبين فيه نيتي للقفز عن الأسلاك الشائكة وتهديد أمن الدولة، ودحرجة الصخرة من أعلى النجمة، لتهديم منارة القصر رمز القبعات المدورة، وطوق الحمى الأوحد ضد السيول وعوامل التعرية؛ تعرية البشر قبل الحجر. هنا اعترض المسنون في الزوايا وقيل إن تاريخًا مزيفًا يراد له أن يكتب؛ فهم الأكثر دراية أن الصخرة وحدها هي حامية الحمى منذ أن أنزلها الله من الجنة بعد أن طرد آدم منها، وكانت منحة الله له كي لا يصاب بالوحشة، في الوقت نفسه فسر مناصرو نظرية أن نهاية الإنسان جزرة , ثبات الصخرة بقوة قذف السماء، التي علموها الاستمناء مع الصبيان في حمامات المدارس المنسية. قيل أنها كانت بيضاء من غير سوء فاسودت من خطايا البشر، فانتصبت بوجه سيول التعرية، وبظلها وحدها إنما نشأ الحمى.
لم يكن هناك إلا الصراخ ورائحة الغائط تفشي حقيقة أن الحمى تحول الى زنزانة كبيرة، كما ظهر جيل آخر من العلماء فسروا أن منزلة البعوض من النمل كمنزلة الذباب من الأرامل السوداء الطليقة في الأسواق. تلك الأسواق المشحونة بالجثث المعلقة من أكرعها بعد سلخ جلودها ونشر أمعائها ليتجمع حولها المتبركون بالأعياد ومواسم الختان والأعراس التي تقام في المكو فحسب؛ لأن البكو هو يوم الدوران حول الاشياء التي لا دوائر لها، تيمنا بالقبعات المدورة.
يحدث كل هذا بعد وجبة من نعمة الله، حتى يدوخ التراب وتنسدل الغيمة تلو الغيمة، والنار تلو النار وتختض الأرض من جديد وتفيض الثقوب تحت أرجل النساء الحوامل. إنها شارة قيامة البكاء والانتحاب، إذ لاتتوقف الدموع حتى ممن لا أعين لهم، تصاعد الماء ليهدم تمثالي البكو والمكو عند ساحة الفردوس في العالم السفلي. وبدأت أشباح المسنين في الزوايا تفر من الأعياد، ولم يعد يسمع الغناء العتيق إلا من يخامره العنفوان وتخنقه مرارة الغروب. وقال قائل منهم كم نحتاج إلى بكاء كي نغسل هذا العار. كان بالإمكان رؤية الجدران والصخور والقنافذ وهي ترسل دموعها كما يرسل الفقراء أبناءهم للحروب، وسمعت صيحة من السماء إنه الطوفان! عليكم بالصخرة إن كنتم لا تليقون بالغرق.
ظلال أجنحتي الحافية غطت على عورة الحي ورائحة الزعفران المتدلي من جسدي تنزل على رؤوس المتجمعين من أجل الغرق، لم يفكر أحدًا بإنشاء سدود حول العيون قبل اللحظة، ولما عفطت العاصفة طارت القبعات المدورة من على رؤوس حامليها! وانكشف السر بأن الله عذبهم بسوء أعمالهم بأن بدل هاماتهم بمؤخراتهم فستروها بما كانوا يعتمرون، وقد أخرج البخاري أنهم أجمعوا أمرهم فضرطوا ضرطة رجل واحد فنزعت عنهم الريح ما كانوا يسترون. وأوّل الناس أمر تناطحهم فيما بينهم أنهم بمثل ذلك إنما يتناسلون.
ارتفع الماء الموحل بالحشيشة والريش الملون يجري من تحته الغلمان والأفاعي الملتوية والجثث المسلوخة والأمعاء. جرفت المياه الإعلانات الضوئية وشركات الدعاية والاعلان.
ومزقت السيول بكارة الأسلاك الشائكة حول الصخرة، وغمرت الأزقة الخلفية، وأسلاك اعمدة الدخان حيث موعدي الأبدي مع مواسم الحنطة والابتسام. تحطمت عربة الثلج وأغرق الوحل المطارات قبل أن يصلها المتخمون بنحيبهم، ولاذ الغارقون بدموعهم بالصخرة ومعهم أنهارهم مثلما تلوذ النطف الحائرة ببويضة شاردة في رحم عاقر. تعلموا من نوح البكاء وما تعلموا السفينة، سمعت استغاثتهم الساحلية مرةً أخرى:
(إذا دخلت الحي
كن ميتًا أولًا
لا ترتد أثوابًا نظيفةً
لا تطل جسدك بالزعفران
فيشمك الصيادون
وابق حافيا
كي تتمكن من الإفلات حينما يتجمعون حولك)
إنها القيامة إذن! هنا في حمانا الصغير، في أزقته الضيقة، ينسلون من دكاكين الحلاقين، وتحتشد روؤس التجار وهي تقود أعمدة الضوء إلى حيث بدأ الأمر، الشوارع والطرقات تغير مسارها وتتحدى الفيزياء، المئات يصعدون الصخرة ويفردون أذرعهم ويحلقون مثل أي جارح تماما. وللمرة الأولى أرى عصفورتي القمحية تهاجر نحو القمر بلا أجنحة، وكنت أنا مع ابتسامتي التي عرضها سبعون فرسخًا.. أسعد مقتولٍ في العالم.
* البكو والمكو، حسب الاساطير السومرية العناصر التي صنعت منها انانا، الهة السماء وقيل انها هدية كلكامش جزاء شهامته ومروئته.