
أكتب لأفهم حجم المسافة التي تفصلني عن ذاتي
تحب قراءة الشعر تحت المطر وبين الأشجار العالية، وتحلم باكتشاف كتب وأغان وموسيقى ومدن لم تفتح بعد.
إيناس العباسي، الفتاة القرطاجية القادمة إلى الخليج من جزر الخضراء جربا، تلك المحملة برطب التاريخ، ما أهمها طول السفر والغياب، ولا أهمها الترحال اليومي، بل ظل القلب يغرد غير بعيد عن الخضراء، وظلت الرؤيا مسكونة بالوطن البعيد الذي يعشش في المخيال مثل طائر غريد. تحس ذلك في نبض قصيدها، وفي ارتعاشة الحروف، وفي السياقات الملونة بالحناء، تحس بها -وهي الغريبة- قريبة منك تدغدغ أحلامك مثل فراش الربيع الملون، تحس بنغمة جرسها تفتح لك باب الطفل الذي لم تكنه يوما، والرجل الذي تحلم بفتوحاته دوما، والفارس الذي يدق نواقيس التاريخ ودفوفه أبدا. ومع أن العمل الإعلامي يأخذ من وقتها الشيء الكثير، فهي وسط زحمة الالتزامات، تجد وقتا لتحرض شيطان الشعر لديها، لتقول العالم الذي لم يتهيأ لها إلا على سبيل الاستعارة والتخيل. صدر لها عن دار «شرقيات» مؤخرا ديوان شعر يحمل حرارة الكائن المهووس بالذاكرة والحلم والواقع، بقدر ما يحمل الكثير منها، فهو يحمل كثيرا من صورنا، وجراحنا المشتركة، وأحلامنا المجهضة. عن سؤال النص والكتابة في علاقتهما بالواقع والذات والآخر، أجرينا معها الحوار التالي:
– من هي إيناس العباسي في نظر إيناس العباسي؟
– لا أعرف بماذا أجيبك؟
إيناس في نظري، هي نفس العاشقة الصغيرة للكلمات وللغة، هي نفس الفتاة التي تحب قراءة الشعر مع صديقاتها -صديقات المعهد- تحت المطر.. في طريق مظللة بشجر عال. هي ذاتها التي تحلم بكتابة قصائد ونصوص جديدة تتجاوز فيها لغتها وأفكارها.. هي ذاتها التي تحلم بالكتب التي تريد قراءتها والموسيقى المجهولة التي لم تكتشفها بعد والمدن التي لم تزرها بعد.
– أيهما تفضلين: أن يكون الشعر قضية أم أن تكون القضية شعرا؟ وما القضية التي تدافعين عنها من خلال هذا المنجز؟
– بالنسبة لي فالمسألة ليست مسألة قضية، أحب كثيرا الشعر الملتزم بالقضايا الإنسانية.. وإلى الآن مازالت تؤثر فيَّ قصائد القضية الفلسطينية وتلامس روحي.. وأرتقب بشوق أن تترجم عربيا «قصائد من غوانتنامو» التي نشرت مؤخرا.. لكن بالنسبة لي فالكتابة مسألة هوية، ولم تعد الكتابة تلك النصوص الأولى التي كنت أحتفظ بها لنفسي، الكتابة هي أنا.. ماذا أريد أن أكتب؟ كيف أريد أن أرسم العالم بطريقة مختلفة.. في النهاية نحن نبدع ونتميز حين نقول الأشياء بطرق مختلفة لا تتشابه مع الآخر والآخرين.. قد تتقاطع أو تتوازى، لكن تتميز في الاختلاف. الشعر والكتابة عموما هما ما ساعداني على التأقلم مع تجربة الغربة في أشهرها الأولى، الأشهر الأكثر قسوة وصعوبة. الآن لا أدافع إلا عن الكتابة فهي الأبقى والأجمل، ومن خلالها ندافع عن الإنسان فينا، وعن الجمال فينا.
– تحضر تيمة الطفولة بشكل كبير في «أرشيف الأعمى»، فهل كنت واعية بهذا الحضور أثناء الكتابة أم لا؟
– بلى، أعي جيدا حضور تيمة الطفولة في «أرشيف الأعمى»، لأن القصائد في مجملها وصفت الجانب المظلم في حياتنا: الحرب، والفقد، والخسارات، والطفل اللقيط الذي يهمش اجتماعيا، اغتصاب التاريخ من خلال استعراض اكتشاف كولومبوس لأميركا بالتوازي اغتصاب هذا الكولومبوس المعاصر لتاريخ غلغامش الذي ينتف لحيته من أعالي نخلة بين النهرين.. يعني في مقابل هذا كله، كان يتوجب استدعاء الضوء والأمل، استدعاء البراءة التي تجسدها الطفولة وصوت السيدة فيروز الذي يفتتح الكتاب ليختتمه في آخر قصيدة أيضا.
– من هو الأعمى في نظرك؟
– الأعمى هو الموت.. الذي يتجول يوميا -بكل ثقة- في المدن الفلسطينية والعراقية ويحصد الأرواح بمجانية الحرب والظلم.
– تهربين من لغة الصورة المعقدة، وتميلين إلى إدهاش المعنى والبحث عن الدوال البكر، فماذا تقصدين بذلك؟ أهو بحث عن شكل جديد أم دلالة جديدة؟
– أعتمد على إيقاظ الدهشة من سباتها لدى القارئ. تعودنا في كتابتنا عموما، أن نفسر الصورة ونشرحها، وهذا يقتلها قتل حماسة القارئ ورغبته في التفكير والفهم، ولا يعني هذا السعي للغموض.. لكن التفسير يقلل من طرافة الموضوع.. يعني في قصيدة ما، كان الشاعر يقول: «وقد تساقط الثلج أبيض كالياسمين» لماذا وضع كلمة أبيض؟ لم لم يكتب: «وقد تساقط الثلج كالياسمين»؟ بالتالي، ومنطقيا، سيفكر القارئ ويفهم أن نقطة اشتراكهما هي البياض دون أن يشرح الشاعر ذلك. تماما مثلما تقف أمام لوحة. ما المتعة التي قد تجنيها لو شرحها لك الفنان؟ بالضبط يحصل هذا بالنسبة للقصيدة وللنص الأدبي عموما.
– تؤثثين عملك هذا «أرشيف الأعمى» بأسماء كثيرة، هل تتبنين مواقفها أم رؤاها الفنية أم ماذا؟
– بلى، أثثت أرشيف الأعمى بأسماء كثيرة، بداية من أغنية للسيدة فيروز مرورا بتصديرات للشاعر محمد الماغوط والشاعرة إيمان مرسال وغيرهما.. طبعا هذا لأني أتبنى رؤاهم الفنية.. فالشاعر الكبير محمد الماغوط هو «أبي في قصيدة النثر» توازيا مع الشاعر الفرنسي شارل بودلير.. و قصائد إيمان مرسال تميمتي في الغياب.. أعيد قراءتها كلما اشتدت العتمة.. ناهيك عن بقية الأسماء التي شكلت مرايا لروحي.
– ماذا يعني أن تكتبي الشعر في زمن المسخ المادي المجسم وطغيان الصورة وتيارات العولمة الجارفة؟
– هذا يرجعنا إلى البداية.. لولا الكتابة والفن عامة لاختنقنا. إنها تلك المساحة النقية التي تريح فيها رأسك على كتف الجمال وتسترخي وتقول: يا الله.. كم يمكن أن يكون العالم جميلا بالفن.. إن الفن والكتابة يجعلان العالم محتملا.. لقد قضيت شهر الغربة الأول بصعوبة.. كنت أكتب تقريبا يوميا (يوميات متقطعة).. أكتب لأفهم حجم المسافة التي تفصلني عن عالمي الأول، عن حياتي، عن ذاتي نفسها، بهذا فقط استطعت تجاوز الفترة الأولى، وبالتالي فليست المسألة مسألة زمن وتشوهاته أو عولمة.. لأني لا أصدق ولا أعتقد أن الزمن والعولمة قادران على تهميش الإبداع والجمال الفني أينما كان حول العالم. إن الكتابة ضرورة احتياج، نحن نحتاج الكتابة كي نشعر أننا بخير.
– هل تجدين نفسك في كتابة الشعر أم أن كل لغات العالم تضيق بمطامحك؟
– أكتب الشعر، وبالتوازي أكتب نصوصا نثرية. من المؤكد أن كل لغات العالم تضيق بطموحات أي مبدع حين تكون الكتابة هي جوهر حياته.