
الحسّ الأنثوي في «رحلة إلى ذات امرأة»

تنتمي الكاتبة صباح بشير إلى مدينة القدس، وهذا الانتماء لا يُعدّ مجرد خلفية جغرافية، بل يتجلّى في نسيج سردها وتكوين شخصياتها، حيث تتداخل الهموم الوطنية مع الذاتية، ويبرز حضور المكان بوصفه جزءًا من الهوية الثقافية والشخصية للمرأة الفلسطينية.

يتعزز هذا البعد في روايتها رحلة إلى ذات امرأة، التي تمثل امتدادًا لصوت أنثوي يعبّر عن الداخل في ضوء الخارج، ويقارب قضايا المرأة من منطلق معايشة يومية وواقعية، متأثرة بخصوصية المكان المقدسيّ وانعكاساته النفسية والاجتماعية.
تبرز الرواية كمساحة سردية تنفتح فيها البطلة على أعماقها، عبر رحلة تتسم بالصدق والتمزق الداخلي، ومن خلال هذه الرحلة، تنجلي معالم الحسّ الأنثوي في مستويات متعددة:
على مستوى اللغة، تنحو الكاتبة إلى خطاب وجداني رقيق، يحمل كثافة عاطفية دون أن يقع في الاستسهال، ويكشف عن طاقة تعبيرية مشحونة بالأسى والانكسارات.
أما على مستوى الموضوع، فتعالج الرواية قضايا المرأة من زوايا متعددة: الحب، الحرية، القيود الاجتماعية، الهشاشة النفسية، والبحث عن الذات.
يتبدى الحسّ الأنثوي كذلك في بناء الشخصية الرئيسة التي تخوض صراعًا داخليًا بين ما ترغب فيه وما يُفرض عليها. إنها امرأة تعيش في مجتمع يراكم التوقعات فوق كاهلها، فيما هي تسعى لتعرية الذات من الزيف والتصالح مع حقيقتها الداخلية. ولعلّ جمالية هذا الطرح تكمن في أن الكاتبة لا تُقدّم صورة نمطية عن "المرأة الضحية"، بل تخلق بطلة واعية، تحاول فك اشتباكها مع المعايير الاجتماعية، وتعيد تشكيل ذاتها بالكتابة، وكأن الرواية ذاتها هي فعل تحرّر رمزي.
تتحوّل الكتابة، في هذا السياق، إلى ملاذ وجودي، تسكنه البطلة كما تسكنه الكاتبة، فتتداخل الأصوات وتتماهى الذوات، لتصير الرواية أشبه بـ"يوميات الوعي الأنثوي"، لا تكتفي برصد الألم بل تسعى إلى فهمه وتجاوزه.
البنية السردية والانزياح الزمني:
تتسم البنية السردية في الرواية بمرونة واضحة وانفتاح على تعددية الأصوات الداخلية، إذ تعتمد الكاتبة أسلوب السرد بضمير المتكلم، لتتيح للقارئ الولوج إلى عمق التجربة الذاتية للبطلة دون وسائط. من خلال هذا البناء، يتشكّل النص بوصفه اعترافًا طويلًا، أو مرآة تعكس حركة الذات في فضاء زمني غير خطي، حيث تتشابك الأزمنة بين الحاضر والماضي، وتختلط الوقائع بالذكريات والانفعالات.
كما تنزع الرواية إلى تفكيك الزمن التقليدي، فليست هناك حبكة نمطية ذات بداية وذروة ونهاية، بل رحلة تتكئ على التداعي الحر، والانتقالات الداخلية التي تُعبّر عن تشظي الذات النسوية، وفي الوقت نفسه عن محاولتها لاستعادة تماسكها.
هذا التفكك الزمني لا يُضعف النص، بل يمنحه صدقه التعبيري، ويجعل من الفوضى شكلًا جمالياً يحاكي الفوضى الداخلية التي تعيشها البطلة.
تُسهم هذه البنية كذلك في تعميق الحسّ الأنثوي، إذ تحاكي طريقة السرد تلك أسلوب التفكير الداخلي للمرأة في مواجهة ذاتها والعالم من حولها، حيث لا تسير الأحداث بخطّ مستقيم، بل تأخذ طابعًا دائريًا، يشبه اجترار الذكريات، وتحليل التجارب، والتردد أمام الاختيارات.
اللغة كمرآة وجدانية:
تتميّز لغة الرواية بقدرٍ عالٍ من الشفافية والحميمية، حيث تميل صباح بشير إلى أسلوب تعبيري يلامس الشعرية من دون أن يتخلّى عن الوضوح، فاللغة هنا ليست وسيلة لنقل الوقائع فحسب، بل هي كائن حيّ، نابض بالعاطفة، يوازي رحلة البطلة الداخلية في بحثها عن ذاتها.
في هذا السياق، يتجلّى الحسّ الأنثوي في اختيار المفردات، إيقاع الجمل، وبناء الصور، بما يعكس طبيعة التجربة النسوية التي تميل إلى التأمل، وتُراكم الإحساس على الحكم، وتُعلي من شأن العاطفة كقوة معرفية.
كما تتجلّى اللغة في الرواية بوصفها مساحة للمقاومة، لا تخضع الذات الأنثوية لقاموس السائد، بل تعيد تشكيله عبر التهكم أحيانًا، وعبر الانسحاب إلى لغة داخلية صامتة أحيانًا أخرى. وهنا تبرز براعة الكاتبة في الموازنة بين لغة الواقع ولغة الذات، فتمزج بين الخطاب الخارجي والبوح الداخلي، فتنتج نصًا مزدوج الطبقة: ظاهرٌ سرديّ، وباطنٌ شعوريّ.
ويُلاحظ أيضًا أن الكاتبة تعتمد على اقتصاد لغوي دقيق، فيه اختزال للتجربة دون إخلال بأثرها. وهذا ينسجم مع طبيعة الرواية كنوع أدبي قائم على شحذ الإحساس أكثر من تعقيد الحدث، وعلى تصوير الوجدان أكثر من تسجيل الوقائع.
المحسنات اللغوية: جمالية الإيحاء والتكثيف:
تتجلّى المحسنات اللغوية في الرواية بوصفها رافدًا جماليًا يُثري النص ويزيد من وقعه الشعوري دون أن يتحوّل إلى تزيينٍ بلاغي فارغ، وتوظف الكاتبة هذه المحسنات بخفّة ورشاقة، فتأتي غالبًا في مواضع الانفعال والتأمل، لتكثف المعنى وتمنحه عمقًا شعريًا. فالتكرار يُستخدم ليُعبّر عن التردّد أو الإلحاح الشعوري، بينما تُوظّف المقابلات والطباق لخلق توتر دلالي بين الثنائيات التي تعيشها البطلة.
أما الصور البلاغية، من استعارات وتشبيهات، فتبتعد عن النمطية لتلامس العمق النفسي، وتعبّر عن الهشاشة والخوف والرغبة بصور مشحونة بالمعنى.
كما يُضفي الالتفات في الضمائر مرونة إيقاعية وتقلّبًا شعوريًا يعكس طبيعة الاضطراب الداخلي للبطلة، ويُعيد تشكيل النبرة السردية بطريقة ديناميكية.
خلاصة تحليلنا:
تشكّل رواية (رحلة إلى ذات امرأة) للكاتبة صباح بشير نصًا سرديًا يتجاوز كونه مجرد حكاية شخصية؛ ليغدو تجربة وجودية نسوية تُقارب الذات من خلال اللغة والذاكرة والتأمل.
لقد استطاعت الكاتبة، بانتمائها إلى القدس وهمومها، وبتسلّحها بحسّ أنثوي شفيف، أن تكتب رواية تحتفي بالهشاشة دون أن تقع في الانهزام، وتُواجه القيود دون افتعال البطولة.
وقد بدا هذا الحسّ الأنثوي جليًا في لغة الرواية الشفيفة، وفي بنيتها السردية المرنة، وفي المحسنات البلاغية التي عمّقت التجربة الشعورية للنص، فجاء السرد مشبعًا بالحسّ الداخلي، متكئًا على الاستبطان، ومفتوحًا على أسئلة المرأة في مجتمعات محافظة تُقيّد الحرية وتُحاصر الذات.
إن رواية رحلة إلى ذات امرأة ليست فقط مرآة لذاتٍ أنثوية تبحث عن خلاصها، بل هي أيضًا أداة للبوح والمقاومة، تؤكّد أن الكتابة النسوية ليست مجرد صدى لمعاناة، بل فعل إبداعي قادر على زعزعة الصمت، وإضفاء المعنى على التشظي.
بعد كلّ ما تقدم فليس علينا هنا إلا أن نهنئ أنفسنا، أدباء ومثقفين، بتلك الظاهرة الأدبية الموفقة في سعييها لكينونة صلبة تضاف الى أسس مشهد ثقافي فلسطيني مقدسي عربي وعالمي في الغد القريب، وأنا على ثقة بأن تلك الرواية التي تناولناها في تحليلنا المتواضع هذا لو ترجمت الى لغات العالم لأخذت طريقها إلى الانتشار لما تتضمنه من مقومات متكاملة لا غبار عليها.
نسأل الله تعالى التوفيق لكاتبتنا وروائيتنا المقدسية صباح بشير .