ابن الرومي
ما زلت أذكر فضل المدرسة علينا وفضل أساتذتنا الكرام الذين تعلمنا على يدهم، وتشربنا المعرفة في شتى الحقول والميادين من رياضيات وتاريخ وجغرافيانحو وصرف وبلاغة وعلم فرائض وعروض وأدب الخ...الخ... وإذا كان المعلم أو الأستاذ يشار إليه على أنه مصباح ينير الطريق أمام طالب العلم فهو بالفعل مصباح منير، ويكفي أن الطالب المدرك جدا لفضل أستاذه عليه لا يتحمل أبدا أن تقال عن أستاذه ـ كيف ما كان مستوى هذا الأستاذ المعرفي وحتى الأخلاقي (لم يحدث أن رأينا أو سمعنا عيبا أخلاقيا واحدا في أساتذتنا يشهد الله) ـ كلمة تحط من قدره أو تستصغرمن شأنه، نحن كبرنا على هذا، وعشنا لا نكن إلا الاحترام والإجلال والتقدير لمن علمونا وفتحوا أعيننا على عالم العلم والثقافة، وعلى ما تزخر به الحياةمن أمور شتى.
أقول هذا بمناسبة حديثي اليوم عن شاعر من فطاحل الشعراء أول ما عرفته إذ عرفته كان ذلك عن طريق المدرسة، وأحمد الله أن أستاذ الأدب كان متمكنا يعرف كيف يوصل إلينا نحن الطلاب النص الشعري بطريقة سهلة وبسيطة تحبب إلينا النص وتقرب منا صاحبهوتبعثنا على التعلق باللغة العربية. بارك الله في من علمونا الأحياء ورحم من غادرنا منهم إلى لقاء الله.
شاعرنا اليوم هو ابن الرومي وما أدراك ما ابن الرومي.
ابن الرومي (221 ـ 283) هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج ويكنى ب"ابن الرومي"أبوه رومي، وأمه فارسية وهو شاعر عباسي عصرا وولاءً.
كان ابن الرومي معروفا بتشاؤمه، ولا شك أن المحن والمصائب التي مرت عليه كانت عاملا من عوامل تغلغل التشاؤم في نفسيته وتشربه له، فالرجل اغتصبت منه داره واحترقت ضيعته وأتى الجراد على زرعه، كما أتى الإسراف والتبذير على ما ورثه عن أبيه من أملاك ومال، وحتى الموت ساهم مساهمة في تضخم التشاؤم عنه، فبعد موت والده ماتت أمه، وماخالته وأخوه وزوجته وأولاده الثلاثة.
وقد حفظ لنا الديوان العربي مرثيته الرائعة في ولده الأوسط وهي التي حفظت منها شخصيا ما كان مقررا علينا منها في المرحلة الدراسية(المرحلة الإعدادية) عن ظهر قلب، وأتبعتها بحفظ قصيدته الهجائية الرائعة في هجاء رجل اسمه عمرو وقصيدة هجائية أخرى في أحد المغنين يعرف بأبي سليمان،هذا عدا حفظي لبعض أبياته التي كانت تعجبني مثل أبياته الهجائية في رجل اسمه عيسى.
يقول ابن الرومي في رثاء ولده الأوسط وهي القصيدة التي كانت بالنسبة لي كانت فاتحة العهد لي بالشاعر،أو لنقل كانت نافذة أطل منها على على العالم الشاسع لابن الرومي:
بــكاؤكُما يــشْفي وإن كان لا يُجْدي
فــجُودا فــقد أوْدَى نَــظيركُمُا عندي
بُــنَيَّ الــذي أهْــدَتْهُ كَــفَّأيَ لــلثَّرَى
فَــيَا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرةالمُهدِي
ألا قــاتَــل الــلَّــه الــمــنايا ورَمْــيَها
مــن الــقَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْدِ
تَــوَخَّى حِمَامُ الموتِ أوْسَطَ صبْيَتي
فــلله كــيفَ أخْــتار وَاســطَةَ الــعِقْدِ
عــلى حينََ شمْتُ الخيْرَ من لَمَحَاتِهِ
وآنَــسْــتُ مــن أفْــعاله آيــةَ الــرُّشدِ
طَــوَاهُ الرَّدَى عنِّي فأضحَى مَزَارُهُ
بــعيداً عــلى قُــرْب قريباً على بُعْدِ
لــقد أنْــجَزَتْ فــيه الــمنايا وعيدَها
وأخْــلَفَتِ الآمــالُ مــا كان من وعْدِ
لــقَد قــلَّ بــين الــمهْد والــلَّحْد لُبْثُهُ
فلم ينْسَ عهْدَ المهْد إذ ضُمَّ في اللَّحْدِ
ويقول الشاعر في هجاء عمرو:
وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
مــقابح الــكلب فيك طراً
يــزول عــنها ولا تــزول
وفــيه اشــياء صــالحات
حــمــاكها الله والــرسول
فــالكلب وافٍ وفيك غدرٌ
فــفيك عــن قــدره سفول
وقد يحامي عن المواشي
ومــا تــحامي وما تصول
وانــت من بين اهل سوء
قــصــتهم قــصة تــطول
وجــوههم للورى عظاتٍ
لــكــن اقــفــاءهم طــبول
مــستفعلن فــاعل فــعول
مــستفعلن فــاعل فــعول
بــيت كــمعناك لــيس فيه
مــعنى ســوى انه فضول
وأتذكر أننا نحن الطلاب كنا نردد بيتيه الأخيرين بيننا ونضحك، وأحيانا نلقيه هجاءً في وجه بعضنا البعض مازحين. سقى الله تلك الأيام ما كان أجملها وأكثرها صفاء وبراءة.
ويقول الشاعر في هجاء مغن اسمه أبو سليمان:
أبــو ســليمان لا تُــرضَى طــريقتُهُ
لا فـــي غــناء ولا تــعليم صــبيانِ
شــيخٌ إذا عَــلَّمَ الــصِّبيان أفــزعهم
كــــأنــه أمُّ صــبــيــانٍ وغــــيــلان
وإن تــغــنَّي فــســلحٌ جـــاء مــنبثقاً
فــي لــونِ خــلقتِه من سَلحِ سكران
لـــه إذا جــاوَب الــطنبورَ مــحتفلاً
صوتٌ بمصر وضربٌ في خراسان
عــواء كــلب عــلى أوتــارِ مــندفةٍ
فــي قُــبحِ قردٍ وفي استكبار هامانِ
وتــحــسبُ الــعينُ فــكّيه إذا اخــتلفا
عــنــد الــتنغم فــكَّي بــغلِ طــحان
والقصيدة طويلة إلى حد ما،ومنها هذا البيت:
أبو سليمـــــان شيطان وكنيته
أبو سليمان أمناً له من سليمانِ
والشاعر حين هجا رجلا اسمه عيسى قال فيه:
يُــقتّر عيسى على نفسه
ولــيس بــباقٍ ولا خــالدِ
فــلــو يــستطيع لــتقتيره
تَــنفَّس مــن منخرٍ واحدِ
عــذرنــاه أيــام إعــدامه
فما عذرُ ذي بَخَلٍ واجِدِ
رَضِــيتُ لتفريق أمواله
يَدَي وارثٍ ليس بالحامدِ
ومن المعلوم أن ابن الرومي عاصر مجموعة من الخلفاء فكان معظمهم لا يبالون به ولا بمدحه لهم،لأنه كان لا يمدح أحدا إلا وعاد فهجاه كما يقول عنه المرزباني،قال ابن الرومي:
قــد بُــلينا في دهرنا بملوكٍ
أدبـــاءٍ عَــلِــمْتُهمْ شــعراءِ
إن أجدنا في مدحِهم حسدونا
فــحُرِمنا مــنهُمْ ثوابَ الثناءِ
أو أســأنا فــي مَدْحهم أنَّبونا
وهَــجَوْا شــعرَنا أشدَّ هجاءِ
قد أقاموا نفوسَهم لذوي المدْ
حِ مُــقامَ الأنــدادِ والــنظراءِ
وحتى الشاعر الكبير البحتري لم يسلم من لسانه فقال فيه:
البُحْتُريُّ ذَنُـــوبُ الوجهِ نعرفُهُ
وما رأينا ذَنُوبَ الوجه ذا أدبِ
هذا ومع أن ابن الرومي كان هجّاء بامتياز ،فكان وصافا أيضابامتياز،ومن وصفه الجميل هذه الأبيات التي قالها في الطبيعة:
وريــاضٍ تخايلُ الأرض فيها
خُــيــلاء الــفتاة فــي الأبــرادِ
ذات وشــيْ تــناسَجَتْهُ ســوارٍ
لَــبــقــاتٌ بــحْــوكِه وغـــوادِ
شكرتْ نعمةَ الوليِّ على الوسْ
مِــيِّ ثــم الــعِهاد بــعد الــعِهادِ
فــهي تُــثني على السماء ثناء
طــيِّب الــنشر شائعاً في البلادِ
وأريد أن أختم بأبيات طالما كان يرددها علينا أستاذ العروض،وهي من الحكم النفيسة لابن الرومي،و هذه الأبيات هي كالتالي:
عــدوُّكَ من صديقك مستفاد
فــلا تستكثرنَّ من الصِّحابَ
فـــإن الــداءَ أكــثرَ مــاتراهُ
يحولُ من الطعام أو الشرابِ
إذا انقلبَ الصديقُ غدا عدواً
مُــبيناً والأمــورُ إلى انقلابِ
مات ابن الرومي مسموما بسبب حلوى دس السم له فيها أحد الوزراء الذين كان يتهيبون لسانه وإقذاعه في الهجاء.
علاقتي بابن الرومي حميمية والدليل على ذلك أنه لم يهدأ لي بال حتى حصلت على ديوانه كاملا في أربعة أجزاء.
والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق والسداد.
