التعريف المختصر الكامل للمعلقات من كافة الجوانب
كان فيما اُثر من أشعار العرب، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي، وكانت من أدقّه معنى، وأبعده خيالاً، وأبرعه وزناً، وأصدقه تصويراً للحياة، التي كان يعيشها العرب في عصرهم قبل الإسلام، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات، وأمّا تسميتها المشهورة فهي المعلّقات. نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها:
فالمعلّقات لغةً من العِلْق: وهو المال الذي يكرم عليك، تضنّ به، تقول: هذا عِلْقُ مضنَّة. وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير [1]، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شيء، وفي حديث حذيفة: «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا [2]. والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق [3].
وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات: قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية [4].
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة، بلغت الذّروة في اللغة، وفي الخيال والفكر، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة، وأصالة التعبير، ولم يصل الشعر العربي الى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرئ القيس، وحماس المهلهل، وفخر ابن كلثوم، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة.
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها:
لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم، يقول صاحب العقد الفريد: «وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلّقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهّبة امرئ القيس، ومذهّبة زهير، والمذهّبات سبع، وقد يقال: المعلّقات، قال بعض المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت:
برزةٌ تذكَرُ في الحســنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نادر منـها له وجهٌ معشّق [5]
أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء قلّدهم في طريقتهم، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر [6]. أو أن الملك إذا ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته.
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار الكعبة، ويدافع عنه، بل ويسخّف أقوال معارضيه، وبعض آخر ينكر الإثبات، ويفنّد أدلّته، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي، ولم يعطوا رأياً في ذلك.
المثبتون للتعليق وأدلّتهم:
لقد وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم في صحّة التعليق، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّد صحّة التعليق، ففي العقد الفريد [7] ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطي [8] وياقوت الحموي [9] وابن الكلبي [10] وابن خلدون [11]، وغيرهم إلى أنّ المعلّقات سمّيت بذلك; لأنّها كتبت في القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة، وذكر ابن الكلبي: أنّ أوّل ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر إليه ثمّ اُحدر، فعلّقت الشعراء ذلك بعده.
وأمّا الاُدباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول:
«وإنّما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج، ووافقهم بعض كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شيء، وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة; لأنّه قال: إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم: هذه هي المشهورات» [12]، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه في صحّة التعليق بما ذكره ابن الأنباري إذ يقول: «وهو ـ أي حمّاد ـ الذي جمع السبع الطوال، هكذا ذكره أبو جعفر النحاس، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها كانت معلّقة على الكعبة» [13].
وقد استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري: «ما ذكره الناس»، فهو أي ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس، وهم الأكثرية من أنّها علقت في الكعبة.
النافون للتعليق:
ولعلّ أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب ـ كما ذكرنا ـ هو أبو جعفر النحّاس، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة، نقل ذلك عنه ابن الأنباري [14]. فكانت هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق:
كارل بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره، ورفض القول : إنّها سمّيت بالمعلّقات لتعليقها على الكعبة، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير الظاهر للتسمية وليس سبباً لها، وهو ما يذهب إليه نولدكه [15].
وعلى هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم، فالعربية كانت لغة مسموعة لا مكتوبة. ألا ترى شاعرهم حيث يقول:
فلأهدينّ مع الرياح قصيدةمنّي مغلغلة إلى القعقاعِترد المياه فما تزال غريبةًفي القوم بين تمثّل وسماعِ؟ [16]
ودليله الآخر على نفي التعليق هو أنّ القرآن الكريم ـ على قداسته ـ لم يجمع في مصحف واحد إلاّ بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) (طبعاً هذا على مذهبه)، وكذلك الحديث الشريف. لم يدوّن إلاّ بعد مرور فترة طويلة من الزمان (لأسباب لا تخفى على من سبر كتب التأريخ وأهمّها نهي الخليفة الثاني عن تدوينه) ومن باب أولى ألاّ تكتب القصائد السبع ولا تعلّق [17].
وممّن ردّ الفكرة ـ فكرة التعليق ـ الشيخ مصطفى صادق الرافعي، وذهب إلى أنّها من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتّى وثق بها المتأخّرون [18].
ومنهم الدكتور جواد علي، فقد رفض فكرة التعليق لاُمور منها:
- أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها.
- عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد.
- لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة، والّذي أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق المعلّقات في هذا الحريق.
- عدم وجود من ذكر المعلّقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم.
ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون المعلّقات من صنع حمّاد [19]، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق.
بعد استعراضنا لأدلة الفريقين، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى انّ حماداً هو الذي جمع السبع الطوال.
وجواب ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلا على عدم وجودها سابقاً، وإلاّ انسحب الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما، ولا أحد يقول في دواوينهم ما قيل في المعلقات. ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق الى جمعها فقد عاش في العصر العباسي، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة [20].
وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجود صحف مكتوبة في الجاهلية:
أوصى عشية حين فارق رهطهعند الشهادة في الصحيفة دعفلُأنّ ابن ضبّة كان خيرٌ والداًوأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ
كما عدّد الفرزدق في هذه القصيدة اسماء شعراء الجاهلية، ويفهم من بعض الأبيات أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من دواوينهم بدليل قوله:
والجعفري وكان بشرٌ قبله
لي من قصائده الكتاب المجملُ
وبعد ابيات يقول:
دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً
فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ [21]
كما روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها الى بلاد المناذرة معتذرين عاتبين، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض، حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد واخراجه لها بعد أن قيل له: إنّ تحت القصر كنزاً [22]
كما أن هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها ـ كالخزائن والسقوف والجدران لأجل محدود أو غير محدود ـ كان أمراً مألوفاً عند العرب، فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة في حلف خزاعة لعبد المطّلب، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة [23]. كما أنّ ابن هشام يذكر أنّ قريشاً كتبت صحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم [24]
ويؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه [25] من قول معاوية: قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً [26]
هذا من جملة النقل، كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي أنفس ما لديهم، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم; وهي لغة الفصاحة والبلاغة والشعر والأدب، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم. ومن جهة اُخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو الناطق الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها، وبهم وبشعرهم تفتخر القبائل، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين القبائل، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل، وقصيدة الحارث تشيد بمجد بكر سادة حمّاد [27]، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة من قيلت فيه بين القبائل.
فإذا كان للشعر تلك القيمة العالية، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في نفوس العرب، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة الذهبية للشعر؟
ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق.
فقبول فكرة التعليق قد يكون مقبولا، وأنّ المعلّقات لنفاستها قد علّقت على الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية، التي تتّخذ من عكاظ محلاً لها، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة، ويقرأونها أمام الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في القصيدة، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق، وتناقلتها الألسن، وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها، وخفي بريقها، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً.
موضوع شعر المعلّقات
لو رجعنا إلى القصائد الجاهلية الطوال والمعلّقات منها على الأخصّ رأينا أنّ الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص; يبدأون عادة بذكر الأطلال، وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلاً بوصف الخمر، ثمّ بدأ بذكر الحبيبة، ثمّ ينتقل أحدهم إلى وصف الراحلة، ثمّ إلى الطريق التي يسلكها، بعدئذ يخلص إلى المديح أو الفخر (إذا كان الفخر مقصوداً كما عند عنترة) وقد يعود الشاعر إلى الحبيبة ثمّ إلى الخمر، وبعدئذ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شيء من الحِكَم (كما عند زهير) أو من الوصف كما عند امرئ القيس.
ويجدر بالملاحظة أنّ في القصيدة الجاهلية أغراضاً متعدّدة; واحد منها مقصود لذاته (كالغزل عند امرئ القيس، الحماسة عند عنترة، والمديح عند زهير..)،
عدد القصائد المعلّقات
لقد اُختلف في عدد القصائد التي تعدّ من المعلّقات، فبعد أن اتّفقوا على خمس منها; هي معلّقات: امرئ القيس، وزهير، ولبيد، وطرفة، وعمرو بن كلثوم. اختلفوا في البقيّة، فمنهم من يعدّ بينها معلّقة عنترة والحارث بن حلزة، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى، ومنهم من جعل فيها قصيدة عبيد بن الأبرص، فتكون المعلّقات عندئذ عشراً.
نماذج مختارة من القصائد المعلّقة مع شرح حال شعرائها
أربع من هذه القصائد اخترناها من بين القصائد السبع أو العشر مع اشارة لما كتبه بعض الكتاب والأدباء عن جوانبها الفنية.. لتكون محور مقالتنا هذه:
امرؤ القيس
اسمه: امرؤ القيس، خندج، عدي، مليكة، لكنّه عرف واشتهر بالاسم الأوّل، وهو آخر اُمراء اُسرة كندة اليمنيّة.
أبوه: حجر بن الحارث، آخر ملوك تلك الاُسرة، التي كانت تبسط نفوذها وسيطرتها على منطقة نجد من منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس.
اُمّه: فاطمة بنت ربيعة اُخت كليب زعيم قبيلة ربيعة من تغلب، واُخت المهلهل بطل حرب البسوس، وصاحب أوّل قصيدة عربية تبلغ الثلاثين بيتاً.
نبذة من حياته:
قال ابن قتيبة: هو من أهل نجد من الطبقة الاُولى [28]. كان يعدّ من عشّاق العرب، وكان يشبّب بنساء منهنّ فاطمة بنت العبيد العنزية التي يقول لها في معلّقته:
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّل
وقد طرده أبو ه على أثر ذلك. وظل امرؤ القيس سادراً في لهوه إلى أن بلغه مقتل أبيه وهو بدمّون فقال: ضيّعني صغيراً، وحمّلني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكرَ غداً، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ، ثمّ آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتّى يثأر لأبيه [29].
إلى هنا تنتهي الفترة الاُولى من حياة امرئ القيس وحياة المجون والفسوق والانحراف، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته، وهي فترة طلب الثأر من قَتَلة أبيه، ويتجلّى ذلك من شعره، الّذي قاله في تلك الفترة، الّتي يعتبرها الناقدون مرحلة الجدّ من حياة الشاعر، حيكت حولها كثير من الأساطير، التي اُضيفت فيما بعد إلى حياته. وسببها يعود إلى النحل والانتحال الذي حصل في زمان حمّاد الراوية، وخلف الأحمر ومن حذا حذوهم. حيث أضافوا إلى حياتهم ما لم يدلّ عليه دليل عقلي وجعلوها أشبه بالأسطورة. ولكن لا يعني ذلك أنّ كلّ ما قيل حول مرحلة امرئ القيس الثانية هو اُسطورة.
والمهم أنّه قد خرج إلى طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه، وذلك بجمع السلاح وإعداد الناس وتهيئتهم للمسير معه، وبلغ به ذلك المسير إلى ملك الروم حيث أكرمه لما كان يسمع من أخبار شعره وصار نديمه، واستمدّه للثأر من القتلة فوعده ذلك، ثمّ بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم، فلمّا فصل قيل لقيصر: إنّك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب وهم أهل غدر، فإذا استمكن ممّا أراد وقهر بهم عدوّه غزاك. فبعث إليه قيصر مع رجل من العرب كان معه يقال له الطمّاح، بحلّة منسوجة بالذهب مسمومة، وكتب إليه: إنّي قد بعثت إليك بحلّتي الّتي كنت ألبسها يوم الزينة ليُعرف فضلك عندي، فإذا وصلت إليك فالبسها على الُيمن والبركة، واكتب إليّ من كلّ منزل بخبرك، فلمّا وصلت إليه الحلّة اشتدّ سروره بها ولبسها، فأسرع فيه السمّ وتنفّط جلده، والعرب تدعوه: ذا القروح لذلك، ولقوله:
وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعد صحّةفيالك نُعمى قد تحوّلُ أبؤسا
ولمّا صار إلى مدينة بالروم تُدعى: أنقرة ثقل فأقام بها حتّى مات، وقبره هناك.
وآخر شعره:
ربّ خطبة مسحنفَرهْوطعنة مثعنجرهْوجعبة متحيّرهْتدفنُ غداً بأنقرةْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك العرب هلكت بأنقره فسأل عنها فاخبر، فقال:
أجارتنا إنّ المزار قريبُوإنّي مقيم ما أقام عسيبُأجارتَنا إنّا غريبانِ هاهناوكلّ غريب للغريب نسيبُ [30]
وقد عدَّ الدكتور جواد علي والدكتور شوقي ضيف وبروكلمان وآخرون بعض ما ورد في قصّة امرئ القيس وطرده، والحكايات التي حيكت بعد وصوله إلى قيصر ودفنه بأنقرة إلى جانب قبر ابنة بعض ملوك الروم، وسبب موته بالحلة المسمومة، وتسميته ذا القروح من الأساطير.
قالوا فيه:
- النبيّ(صلى الله عليه وآله) : ذاك رجل مذكور في الدنيا، شريف فيها منسيّ في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار [31].
- الإمام علي(عليه السلام) : سُئل من أشعر الشعراء؟ فقال:
إنّ القوم لم يَجروا في حَلبة تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها، فإنْ كان ولابُدّ فالملكُ الضِّلِّيلُ [32]. يريد امرأ القيس. - الفرزدق سئل من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح.
- يونس بن حبيب: إنّ علماء البصرة كانوا يقدّمون امرأ القيس.
- لبيد بن ربيعة: أشعر الناس ذو القروح.
- أبو عبيدة معمّر بن المثنّى: هو أوّل من فتح الشعر ووقف واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها [33]
معلّقة امرئ القيس
البحر: الطويل. عدد أبياتها: 78 بيتاً منها: 9 : في ذكرى الحبيبة. 21 : في بعض مواقف له. 13 : في وصف المرأة. 5 : في وصف الليل. 18 : في السحاب والبرق والمطر وآثاره. والبقية في اُمور مختلفة.
استهلّ امرؤ القيس معلّقته بقوله:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزِلِبِسِقْط اللِّوَى بين الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِفتوضِحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُهالما نسجتها من جنوب وَشَمْأَلِ
وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى وذكر الحبيب والمنزل، ثمّ انتقل إلى رواية بعض ذكرياته السعيدة بقوله:
ألا ربّ يوم لَكَ منهُنَّ صالحٌولاسيّما يومٌ بدراة جُلجُلِويومَ عقرت للعِذارى مطيّتيفيا عجباً من رحلِها المتحمّلِفضلّ العذارى يرتمينَ بلحمهاوشحم كهذّاب الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
وحيث إنّ تذكّر الماضي السعيد قد أرّق ليالي الشاعر، وحرمه الراحة والهدوء; لذا فقد شعر بوطأة الليل; ذلك أنّ الهموم تصل إلى أوجها في الليل، فما أقسى الليل على المهموم! إنّه يقضّ مضجعهُ، ويُطير النوم من عينيه، ويلفّه في ظلام حالك، ويأخذه في دوامة تقلّبه هنا وهناك لا يعرف أين هو، ولا كيف يسير ولا ماذا يفعل، ويلقي عليه بأحماله، ويقف كأنّه لا يتحرّك.. يقول:
وليل كموج البحرِ أرخى سدولهعليّ بأنواع الهمومِ ليبتليفقُلْتُ لَهُ لمّا تمطّى بصلبِهِوأردف أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِألا أيّها الليلُ الطويل ألا انجليبصبح وما الأصْبَاحُ منكَ بِأمْثَلِ
وتعدّ هذه الأبيات من أروع ما قاله في الوصف، ومبعث روعتها تصويره وحشيّة الليل بأمواج البحر وهي تطوي ما يصادفها; لتختبر ما عند الشاعر من الصبر والجزع.
فأنت أمام وصف وجداني فيه من الرقّة والعاطفة النابضة، وقد استحالت سدول الليل فيه إلى سدول همّ، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة، وانتقل الليل من الطبيعة إلى النفس، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة.
فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادّة حسّية مستقاة من البيئة الجاهلية.
ثمّ يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذّاته فيه، وكأنّه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش يقول:
وقد أَغتدي والطير في وُكُناتِهابِمُنْجرد قيدِ الأوابدِ هيكلِمِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِل مُدْبر معاًكجُلْمُودِ صَخْر حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وهو وصف رائع لفرسه الأشقر، فقد صوّر سرعته تصويراً بديعاً، وبدأ فجعله قيداً لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنّها لا تستطيع إفلاتاً منه كأنّه قيد يأخذ بأرجلها.
وهو لشدّة حركته وسرعته يخيّل إليك كأنّه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه، وكأنّه يقبل ويدبر في آن واحد، وكأنّه جلمود صخر يهوى به السيل من ذورة جبل عال.
ثمّ يستطرد في ذكر صيده وطهي الطهاة له وسط الصحراء قائلاً:
فظلّ طهاةُ اللحمِ ما بين منضجصفيف شواء أو قدير معجّلِ
وينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمطار والسيول، التي ألمّت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز، يقول:
أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَهُكلمعِ اليدين في حبيٍّ مكَلّلِيضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهبأهانَ السَّليطَ في الذُّبالِ المفتّلِقعدتُ له وصحبتي بين حامِروبين إكام بُعْدَ ما متأمّلِوأضحى يسحُّ الماء عن كلِّ فيقةيكبُّ على الأذهان دوحَ الكَنهْبَلِوتيماءَ لم يترك بها جذعَ نخلةولا اُطماً إلاّ مشيداً بِجَنْدَلِ
استهلّ هذه القطعة بوصف وميض البرق وتألّقه في سحاب متراكم، وشبّه هذا التألّق واللمعان بحركة اليدين إذا اُشير بهما، أو كأنّه مصابيح راهب يتوهّج ضوؤها بما يمدّها من زيت كثير.
ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأمّلونه بين جامر وإكام، والسحاب يسحّ سحّاً، حتّى لتقتلع سيوله كلّ ما في طريقها من أشجار العِضاه العظيمة، وتلك تيماء لم تترك بها نخلاً ولا بيتاً، إلاّ ما شيّد بالصخر، فقد اجتثّت كلّ ما مرّت به، وأتت عليه من قواعده واُصوله.
لبيد بن ربيعة
هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة.. الكلابي
قال المرزباني: كان فارساً شجاعاً سخيّاً، قال الشعر في الجاهلية دهراً [34].
قال أكثر أهل الأخبار: إنّه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان قد نذر أن لا تهبّ الصبا إلاّ نحر وأطعم، ثمّ نزل الكوفة، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبّت الصبا يقول: أعينوا أبا عقيل على مروءته [35].
وحكى الرياشي: لمّا اشتدّ الجدب على مضر بدعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفد عليه وفد قيس وفيهم لبيد فأنشد:
أتيناك يا خير البريّة كلّهالترحمنا ممّا لقينا من الأزلِأتيناك والعذراء تدمى لبانهاوقد ذهلت أمّ الصبيّ عن الطفلِفإن تدعُ بالسقيا وبالعفو ترسل الــسّماءَ لنا والأمر يبقى على الأَصْلِ
وهو من الشعراء، الّذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصِلاتهم، كما أنّه كان من الشعراء المتقدّمين في الشعر.
وأمّا أبوه فقد عرف بربيعة المقترين لسخائه، وقد قُتل والده وهو صغير السّنّ، فتكفّل أعمامهُ تربيتَه.
ويرى بروكلمان احتمال مجيء لبيد إلى هذه الدنيا في حوالى سنة 560م. أمّا وفاته فكانت سنة 40هـ . وقيل: 41هـ . لمّا دخل معاوية الكوفة بعد أن صالح الإمام الحسن بن علي ونزل النخيلة، وقيل: إنّه مات بالكوفة أيّام الوليد بن عقبة في خلافة عثمان، كما ورد أنّه توفّي سنة نيف وستين [36].
قالوا فيه:
1 ـ النبي(صلى الله عليه وآله) : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل [37]
وروى أنّ لبيداً أنشد النبي(صلى الله عليه وآله) قوله:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ
فقال له: صدقت.
فقال:
وكلّ نعيم لا محالة زائلُ
فقال له: كذبت، نعيم الآخرة لا يزول [38].
2 ـ المرزباني: إنّ الفرزدق سمع رجلاً ينشد قول لبيد:
وجلا السيوف من الطلولِ كأنّهازبر تجدّ متونَها أقلامُها
فنزل عن بغلته وسجد، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنا أعرف سجدة الشعر كما يعرفون سجدة القرآن [39].
القول في إسلامه
وأمّا إسلامه فقد أجمعت الرواة على إقبال لبيد على الإسلام من كلّ قلبه، وعلى تمسّكه بدينه تمسّكاً شديداً، ولا سيما حينما يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه، وبقرب دنوّ أجله; ويظهر أنّ شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيّامه، فابتعد عن السياسة، وابتعد عن الخوض في الأحداث، ولهذا لا نجد في شعره شيئاً، ولا فيما روي عنه من أخبار أنّه تحزّب لأحد أو خاصم أحداً.
وروي أنّ لبيداً ترك الشعر وانصرف عنه، فلمّا كتب عمر إلى عامله المغيرة ابن شعبة على الكوفة يقول له: استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام. أرسل إلى لبيد، فقال: أرجزاً تُريد أم قصيداً؟ فقال:
أنشدني ما قلته في الإسلام، فكتب سورة البقرة في صحيفة ثمّ أتى بها، وقال: أَبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر. فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد [40].
وجعله في اُسد الغابة من المؤلّفة قلوبهم وممّن حسن إسلامه [41]، وكان عمره مائة وخمساً وخمسين سنة، منها خمس وأربعون في الإسلام وتسعون في الجاهلية [42].
مختارات من شعره
له قصيدة في رثاء النعمان بن المنذر، تعرّض فيها للموت ولزوال النعيم ولعدم دوام الدنيا لأحد، مطلعها:
ألا تسألان المرء ماذا يحاولُأنحب فيقضى أم ضلالٌ وباطلٌ؟
وقد ذكر فيها الله جلّ جلاله بقوله:
أرى الناس لا يدرون ما قدرُ أمرِهمُبلى: كلّ ذي لبّ إلى الله واسلُألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُوكلّ نعيم لا محالة زائلُوكلُّ اُناس سوف تدخلُ بينهمدويهيّةٌ تصفرّ منها الأناملُوكلّ امرئ يوماً سيعلمُ سعيهإذا كشّفت عند الإله المحاصلُ [43]
معلّقة لبيد بن ربيعة
البحر: الكامل. عدد الأبيات: 89 موزّعة فيما يلي: 11 في ديار الحبيبة. 10 في رحلة الحبيبة وبعدها وأثره. 33 في الناقة. 21 في الفخر الشخصي. 14 في الفخر القبلي.
يبدأ الشاعر معلقته ببكاء الأطلال ووصفها، وكيف أنّ الديار قد درست معالمها حتّى عادت لا ترى فقد هجرت، وأصبحت لا يدخلها أحدٌ لخرابها:
عفت الديار محلّها فمقامهابمنىً تأبّد غولها فرجامهارزقت مرابيع النجوم وصابهاودقَ الرواعد جودها فرهامها
ثمّ عاد بمخيلته شريط الذكريات، ذكريات فراق الأحبّة فيتحدّث عن الظعائن الجميلات الرشيقات، وعن هوادجهنّ المكسوّة بالقماش والستائر:
مشاقتك ظعن الحيّ يوم تحمّلوافتكنّسوا قطناً تصرّ خيامهامن كلِّ محفوف يظلّ عصيّهروح عليه كلّةٌ وقرامها
ويرى أن يقطع أمله منها ويترك رجاءه فيها ما دامت نوار قد تغيّر وصلها:
ما قطع لبانه من تعرّض وصلهولشرّ واصل خلّة صرّامها
ثمّ يأخذ في وصف ناقته بألفاظ غريبة وتعابير بدوية متينة، فهو يشبهها بالغمامة الحمراء تدفعها رياح الجنوب فيقول:
فلها هبابٌ في الزمامِ كأنّهاصهباء خفّ مع الجنوب حمامُها
واُخرى يشبّهها بالبقرة الوحشيّة قائلاً:
خنساءُ ضيّعتِ الغريرَ فلم ترِمْعُرْضَ الشّقائقِ طوفها وبُغامُهالمعفّر قَهْد تنازعَ شلوهُغبسٌ كواسبُ، لا يُمَنّ طعامُها
وعلى الرغم من تعرّضه لوصف الناقة فلم تفته الحكمة:صادفْنَ منها غرّة فأصبنهاإنّ المنايا لا تطيش سهامها
ويقول:
لتذودهنّ وأيقنت إن لم تَزُدْأن قد أحمّ من الحتوفِ حمامها
فهو مؤمن بقضاء الله، قانع بما قسم له وكتب عليه، راض بذلك، ويدعو النّاس إلى الرضا:
فاقنع بما كتب المليكُ فإنّماقسم الخلائق بيننا علاّمها
ثمّ ينتقل لبيد للفخر بفروسيّته، وكونه يحمي قومه في موضع المحنة والخوف، يرقب لهم عند ثغور الأعداء وهو بكامل عدّته متأهّباً للنزال، حتّى إذا أجنّه الظلام نزل من مرقبه إلى السهل، وامتطى جواده القوي السريع:
ولقد حميت الحيّ تحمل مثكتيفرطٌ وشاحي إذ غدوت لجامهافعلوت مرتقباً على ذي هبوةحرج إلى أعلامهنّ قَتَامُهاحتّى إذا ألقت يداً في كافروأجنّ عورات الثغور ظلامهاأسهلت وانتصبتْ كجذعِ منيفةجرداءَ يَحْصَرُ دونَها جرّامُها
ولبيد خير شاعر برّ قومه، فهو يحبّهم ويؤثرهم ويشيد بمآثرهم ويسجّل مكرماتهم، ويفخر بأيّامهم وأحسابهم، فسجّل في معلّقته فضائل قومه، وافتخر بأهله وخصّهم بأجود الثناء:
إنّا إذا التقت المجامعُ لم يزلمنّا لزازُ عظيمة جشّامُّهامن معشر سنّت لهم آباؤهمولكلّ قوم سنّةٌ وإمُامهالا يطبعون ولا يبور فعالُهمإذ لا يميل مع الهوى أحلامُهاوهم السعاةُ إذا العشيرة اُفظِعَتْوهُمُ فوارسها وهم حكّامُهاوهُمُ ربيعٌ للمجاور فيهمُوالمرملاتِ إذا تطاولَ عامُهاوهُمُ العشيرةُ أن يُبَطّئ حاسدٌأو أن يميلَ مع العدى لوّامُها
زهير بن أبي سلمى
هو زهير بن أبي سلمى ـ واسم أبي سلمى: ربيعة بن رباح المزني من مزينة ابن أد بن طايخة.
كانت محلّتهم في بلاد غطفان، فظنّ الناس أنّه من غطفان، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة أيضاً.
وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول المقدّمين على سائر الشعراء بالاتّفاق، وإنّما الخلاف في تقديم أحدهم على الآخر، وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة. ويقال: إنّه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير، وكان والد زهير شاعراً، واُخته سلمى شاعرة، واُخته الخنساء شاعرة، وابناه كعب ومجبر شاعرين، وكان خال زهير أسعد بن الغدير شاعراً، والغدير اُمّه وبها عرف، وكان أخوه بشامة بن الغدير شاعراً كثير الشعر.
ويظهر من شعر ينسب إليه أنّه عاش طويلا إذ يقول متأفّفاً من هذه الحياة ومشقّاتها حتّى سئم منها:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعشثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
قالوا فيه:
1 ـ الحطيئة اُستاذ زهير: سئل عنه فقال: ما رأيت مثله في تكفِّيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنّتها حيث شاء، من اختلاف معانيها امتداحاً وذمّاً [44].
2 ـ ابن الاعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره [45].
3 ـ قدامة بن موسى ـ وكان عالماً بالشعر ـ : كان يقدّم زهيراً.
4 ـ عكرمة بن جرير: قلت لأبي: مَن أشعر الناس؟ قال: أجاهليةٌ أم إسلامية؟ فقلت: جاهلية، قال: زهير [46].
مميّزات شعره:
امتاز زهير بمدحيّاته، وحكميّاته، وبلاغته، وكان لشعره تأثير كبير في نفوس العرب. وكان أبوه مقرّباً من اُمراء ذبيان، وخصوصاً هرم بن سنان والحارث ابن عوف، وأوّل قصيدة نظمها في مدحهما على أثر مكرمة أتياها. معلّقته المشهورة.
ويؤخذ من بعض أقواله أنّه كان مؤمناً بالبعث كقوله:
يؤخَّر فيودَع في كتاب فيدَّخَرْليومِ الحسابِ أو يعجّلْ فينتقمِ
وممّا يدلّ على تعقّله وحنكته وسعة صدره حِكمه في معلّقته، وقد جمع خلاصة التقاضي في بيت واحد:
وإنّ الحقّ مقطعه ثلاث:يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ
معلّقة زهير بن أبي سلمى
البحر: الطويل. عدد الأبيات: 59 موزّعة فيما يلي: 6 في الأطلال. 9 في الأظعان. 10 في مدح الساعين بالسلام. 21 في الحديث إلى المتحاربين. 13 في الحكم.
يبدأ الشاعر معلّقته بالحديث عمّا صارت إليه ديار الحبيبة، فقد هجرها عشرين عاماً، فأصبحت دمناً بالية، وآثارها خافتة، ومعالمها متغيّرة، فلمّا تأكّد منها هتف محيّياً ودعا لها بالنعيم:
أمن اُمّ أوفى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِبحَوْمانَةِ الدّرّاجِ فالمتثَلَّمِوقفتُ بها من بعدِ عشرينَ حجّةًفَلاَْياً عرفتُ الدار بعد توهُّمِفلمّا عرفتُ الدار قلت لربعهاألا أنعم صباحاً أيّها الربع وأسلمِ
ثمّ عاد بالذاكرة إلى الوراء يسترجع ساعة الفراق، ويصف النساء اللاتي ارتحلن عنها، فيتبعهنّ ببصره كئيباً حزيناً، ويصف الطريق الّتي سلكنها، والهوادج التي كنّ فيهاو...:
بكرن بكوراً واستحرنَ بسحرهفهنّ ووادي الرسّ كاليدِ للفمِجعلن القنان عن يمين وحزنهوكم بالقنان من محلّ ومحرمِفلمّا وردنَ الماء زرقاً جمامهوضعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المتخيَّمِوفيهنّ ملهى للّطيف ومنظرأنيق لعين الناظر المتوسّمِ
وكأنّه حينما وصل إلى هذا المنظر الجميل الفتّان سبح به خاطره إلى جمال الخلق وروعة السلوك، وحبّ الخير والتضحية في سبيل الأمن والاستقرار، فشرع يتحدّث عن الساعين في الخير، المحبّين للسلام، الداعين إلى الإخاء والصفاء، فأشاد بشخصين عظيمين هما هرم والحارث، وذلك لموقفهما النبيل في إطفاء نار الحرب بين عبس وذبيان، وتحمّلهما ديات القتلى من مالهما وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير، قال:
سعى ساعياً غيظ من مرّة بعدماتبزّل ما بين العشيرة بالدمِفأقسمت بالبيت الّذي طاف حولهرجال بنوه من قريش وجرهمِيميناً لنعم السّيّدان وُجدتماعلى كلّ حال من سحيل ومبرمِتداركتما عبساً وذبيان بعدماتفانوا ودقّوا بينهم عطر منشمِوقد قلتما: إن ندرك السلم واسعاًبمال ومعروف من القول نسلمِفأصبحتما منها على خير موطنبعيدين فيها من عقوق ومأثمِ
ثمّ وجّه الكلام إلى الأحلاف المتحاربين قائلاً:
هل أقسمتم أن تفعلوا ما لاينبغي؟ لا تظهروا الصلح، وفي نيّتكم الغدر; لأنّ الله سيدخره لكم ويحاسبكم عليه، إن عاجلاً أو آجلاً، يقول:
ألا أبلغ الأحلاف عنّي رسالةوذبيان هل أقسمتم كلّ مقسمِفلا تكتمنّ الله ما في صدوركمليخفى ومهما يكتم اللهُ يعلمِيؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخرليوم الحساب أو يعجّل فينقمِ
ثمّ انتقل من هذا المجال مجال النصح والتوجيه وتأكيد السلام إلى مجال الحكمة الإنسانية العامة، حكمة الرجل المجرّب للحياة، الذي ذاقها وخبرها وعاش في خضمّها، ثمّ امتدّ به العمر فزهدها وانصرف عنها، قال:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضلهعلى قومِهِ يُسْتَغْن عنهُ ويذمَمِومن لا يذد عن حوضه بسلاحهيُهَدَّمْ، ومن لا يظلم الناسَ يُظْلَمِومن لا يصانع في اُمور كثيرةيضرّس بأنياب ويوطأ بمنسمِومن يجعل المعروف من دون عرضهيَفُرْهُ ومن لا يتّقِ الشّتم يُشتَمِومهما تكن عند امرئ من خليقةوإن خالها تخفى على الناسِ تُعلَمِسئمتَ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِوأعلمُ ما في اليومِ والأمسِ قبلهُولكنّني من علم ما في غد عمِرأيتُ المنايا خبط عشواءَ من تُصبتمتْهُ ومن تُخطئ يعمّر فيهرمِ
ويختمها بتأكيد معروف الممدوحين عليه فيقول:
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتمُومن يكثر التسآلَ يوماً سيحرمِ
عنترة بن شدّاد العبسي
هو عنترة بن عمرو بن شدّاد بن عمرو... بن عبسي بن بغيض [47]، وأمّا شدّاد فجدّه لأبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب إليه، وقال غيره: شدّاد عمّه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه، وكان يلقّب بـ (عنترة الفلحاء) لتشقّق شفتيه. وانّما ادّعاه أبوه بعد الكبر، وذلك لأنّه كان لأمة سوداء يقال لها زبيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من اُمّه استعبده.
وكان سبب ادّعاء أبي عنترة إيّاه أنّ بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس، فتبعهم العبسيّون فلحقوهم فقاتلوهم عمّا معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه أو عمّه في رواية اُخرى: كرّ يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسِن الكرّ، إنّما يحسن الحلاب والصرّ، فقال: كرّ وأنت حرّ، فكرّ وقاتل يومئذ حتّى استنقذ ما بأيدي عدوّهم من الغنيمة، فادّعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه [48].
كان شاعرنا من أشدّ أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلاّ البيتين والثلاثة حتّى سابّه رجل بني عبس فذكر سواده وسواد اُمّه وسواد اُخوته، وعيّره بذلك، فقال عنترة قصيدته المعلّقة التي تسمّى بالمذهّبة وكانت من أجود شعره: هل غادر الشعراء من متردّمِ [49].
وكان قدشهد حرب داحس والغبراء فحسن فيها بلاؤه وحمد مشاهده.
أحبّ ابنة عمّه عبلة حبّاً شديداً، ولكنّ عمّه منعه من التزويج بها. وقد ذكرها في شعره مراراً وذكر بطولاتها أمامها، وفي معلّقته نماذج من ذلك.
وقد ذكر الأعلم الشنتمري في اختياراته من أشعار الشعراء الستة الجاهليين ص461 أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) حينما أنشد هذا البيت:
ولقد ابيتُ على الطوى وأظلهحتى أنال به كريم المأكلِ
قال(صلى الله عليه وآله): ما وصف لي أعرابي قط، فأحببتُ أن أراه إلاّ عنترة.
نماذج من شعره:
بكرت تخوّفني الحتوف كأنّنيأصبحتُ عن عرضِ الحتوفِ بمعزلِفأجبتها إنّ المنيّة منهلٌلابدّ أن اُسقى بذاك المنهلِفاقني حياءك لا أبا لك واعلميأنّي امرؤٌ سأموتُ إن لم اُقتلِ
ومن إفراطه:
وأنا المنيّة في المواطن كلّهاوالطعنُ منّي سابقُ الآجالِ
وله شعر يفخر فيه بأخواله من السودان:
إنّي لتعرف في الحروب مواطنيفي آل عبس مشهدي وفعاليمنهم أبي حقّاً فهم لي والدٌ
والاُمّ من حام فهم أخوالي [50]
قال الدكتور جواد علي: اِن صحّ هذا الشعر هو لعنترة دلّ على وقوف الجاهليين على اسم «حام» الوارد في التوراة على أنّه جدّ السودان، ولابدّ أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهليين عن طريق أهل الكتاب [51].
وقد اختلف في موته، فذكر ابن حزم [52] انّه قتله الأسد الرهيص حيّان بن عمرو بن عَميرة بن ثعلبة بن غياث بن ملقط. وقيل: إنّه كان قد أغار على بني نبهان فرماه وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع النبهاني فقطع مطاه، فتحامل بالرميّة حتّى أتى أهله فمات [53].
معلّقة عنترة العبسي
البحر: الكامل. عدد الأبيات: 80 بيتاً. 5 في الأطلال. 4 في بعد الحبيبة وأثره. 3 في موكب الرحلة. 9 في وصف الحبيبة. 13 في الناقة. 46 في الفخر الشخصي...
يبدأ عنترة معلّقته بالسؤال عن المعنى الذي يمكن أن يأتي به ولم يسبقه به أحد الشعراء من قبل، ثمّ شرع في الكلام فقال: إنّه عرف الدار وتأكّد منها بعد فترة من الشكّ والظنّ فوقف فيها بناقته الضخمة ليؤدّي حقّها ـ وقد رحلت عنها عبلة وصارت بعيدة عنه ـ فحيّا الطلل الّذي قدم العهد به وطال...
فيقول:
هل غادر الشعراء من متردّمِأم هل عرفت الدار بعد توهُّمِيا دار عبلة بالجواء تكلّميوعمي صباحاً دار عبلة واسلميفوقفت فيها ناقتي وكأنّهافدن لأقضي حاجة المتلوّمِحُيّيتَ من طللِ تقادمَ عهدهُأقوى وأقفر بعد اُمّ الهيثمِولقد نزلت فلا تظنّي غيرهمنّي بمنزلةِ المحبّ المكرمِإن كنت أزمعت الفراق فإنّمازمّت ركابكمُ بليل مظلمِما راعني إلاّ حمولة أهلهاوسط الديار تسفّ حبّ الخمخَمِ
ثمّ سرد طرفاً من أسباب هيامه، فقال:
إنّها ملكت شغاف قلبه بفم جميل، أبيض الأسنان طيّب الرائحة، يفوح العطر من عوارضه:
إذ تستبيك بذي غروب واضح عذب مقبّله لذيذ المطعمِ
ثمّ قارن بين حاله وحالها; فهي تعيش منعّمة، وهو يعيش محارباً، وتمنّى أن توصله إليها ناقة قويّة لا تحمل ولا ترضع وتضرب الآثار بأخفافها فتكسرها... فقال:
تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّةوأبيت فوق سراة أدهم ملجمِوحشيتي سرج على عبل الشوىنهد مراكله نبيل المحزمِهل تبلغنّي دارها شدنيّةلعنت بمحروم الشرابِ مصوّمِ
ثمّ يتجّه بالحديث إلى الحبيبة يسرد أخلاقه وسجاياه قائلاً:
إن ترخي قناع وجهك دوني فإنّي خبير ماهر بمعاملة الفرسان اللابسين الدروع، وأنا كريم الخلق لين الجانب إلاّ إذا ظُلمت فعند ذلك يكون ردّي عنيفاً مرّاً:
إن تغدفي دوني القناع فإنّنيطبّ بأخذ الفارس المستلئمأثني عليّ بما علمت فإنّنيسهل مخالقتي إذا لم اُظلمِفإذا ظُلمت فإنّ ظلمي باسلمرّ مذاقته كطعم العلقمِ
ثمّ يستمرّ البطل في وصف بطولته لحبيبته، فيحثّها أن تسأل عنه فرسان الوغى الّذين شهدوه في معترك الوغى وساحات القتال ليخبروها بأنّ لعنترة من الشجاعة ما تجعله لا يهاب الموت بل يقحم فرسه في لبّة المعركة، ويقاتل، وبعد الحرب ـ وكعادة الجيش المنتصر ـ فإنّ أفراده ينشغلون بجمع الغنائم، امّا هو فيده عفيفة عن أخذ الغنائم، فقتاله لا للغنيمة وإنّما لهدف أبعد وهو أن يكسب لقومه شرف الانتصار.
ويستمرّ في مدح نفسه فيذكر في شعره معان نبيلة، وهي معان ارتفعت عنده إلى أروع صورة للنبل الخلقي حتّى لنراه يرقّ لأقرانه الّذين يسفك دماءهم، يقول وقد أخذه التأثّر والانفعال الشديد لبطشه بأحدهم:
فشككت بالرمح الطويل ثيابَهُ
ليس الكريم على القنا بمحرّمِ
فهو يرفع من قدر خصمه، فيدعوه كريماً، ويقول إنّه مات ميتة الأبطال الشرفاء في ساحة القتال.
وكان يجيش بنفسه إحساس عميق نحو فرسه الّذي يعايشه ويعاشره حين تنال منه سيوف أعدائه ورماحهم، يقول مصوّراً آلامه وجروحه الجسديّة وقروحه النفسية:
فأزورّ من وَقْعِ القَنا بِلبَانهِوشكا إليّ بعبرة وتَحَمْحُمِلو كان يدري ما المحاورةُ اشتكىولكان لو عَلِمَ الكلامَ مكلِّميوكأنّما فرسه بضعة من نفسه.
ثمّ يختم قصيدته بأنّه يعرف كيف يسوس أمره ويصرف شؤونه، فعقله لا يغرب عنه، ورأيه محكم، وعزيمته صادقة، ولا يخشى الموت إلاّ قبل أن يقتصّ من غريمه:
ذلّل ركابي، حيث شئت مشايعيلبّي وأحفره بأمر مبرمِولقد خشيت بأن أموت ولم تكنللحرب دائرةٌ على ابني ضمضمِالشاتمَي عرضي ولم أشتمهماوالناذرَينِ إذا لم ألقِهِما دميإن يفعلا فلقد تركت أباهماجزر السباعِ وكلّ نسر قشعمِ
عن مكتبة المشكاة الإسلامية
مشاركة منتدى
1 تشرين الأول (أكتوبر) 2015, 17:31, بقلم رحمة
في الحقيقة انا كنت اريد تلخيصا بسيطا وقصيرا ليس طويلا وصعبا ومفصلا يخي عباد يخي ولكن مع ذلك اشكركم