الاثنين ٩ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم مهند النابلسي

الجانب الآخر من الأمل

دراما انسانية: المخرج الفنلندي "أكي كوريسماكي" يقدم في الوقت الملائم فيلمه الأكثر شغفا وعاطفية وبعدا متوازنا واقعيا...متعاطفا مع أزمة النازحين الدولية!

*يضيف الكاتب/ المخرج السينمائي "أكي كوريسماكي" فيلما جديدا لتاريخه ولبراعته السينمائية مع هذا الفيلم الجديد" الجانب الآخر من الأمل"، حيث يقدم الدراما الانسانية "العابرة للحدود" في وقتها الملائم، نظرا لتفاقم ازمات اللاجئين والنازحين في العالم، ويضع على هذه الدراما المشوقة "نكهته المميزة" المكونة من "النغم الحزين والتعاطف الانساني الحقيقي والسخرية اللاذعة المضحكة".

*انه الخريف في هلسنكي وأكي كوريسمان في الجزء الثاني من ثلاثية الميناء: فهو يتحدث هنا عن تجارة البشر وقصص اللاجئين تحديدا...سوريين وعراقيين وأفارقة تائهين، يتحدث هنا ايضا عن الفروقات والاختلافات والمواجهات بين الثقافات الاخرى، وعلى الجميع ان يتعلموا شيئا من بعضهم البعض بانفتاح بلا انغلاق وعنصرية، وتلعب الموسيقى التصويرية دورا مؤثرا وداعما.
*تلعب مجموعة من الممثلين ادوارها هنا ببراعة، منها شيروان حاجي بدور خالد (فاز بجائزة احسن ممثل)، ساكاري كوسومانن بدور ويك ستورم، جاني هييتيانن بدور نير هينيني، ايكا كويفولا بدور كلامينوس، نوبو كويفو بدور ميرجان وسيمون البازون بدور مازداك.

ملخص الفيلم:

*ينزح السوري خالد (شيروان حاجي) خلسة للأراضي الفنلندية للاستقرار مؤقتا (هاربا من بولندا في سفينة لشحن الفحم)، وخلال ذلك الوقت يترك البائع متوسط العمر ويكستروم (ساكاري كوسمانن) زوجته ووظيفته، ويشتري مطعم المأكولات البحرية الراكد، وبعد أن رفض منح حق اللجؤ لخالد، يقرر عدم العودة ثانية لحلب مكان اقامته، وحيث تتقاطع مسارات الرجلين القدرية بشكل محزن وساخر...

*لا يوجد حقا أية مفاجآت شيقة في "الجانب الاخر من الأمل"، والشريط يعتبر بمثابة شهادة واقعية لتداخل الثقافات الانسانية في عصر "العولمة" الراهن، ولكن الفيلم بالحق مضحك وساخر وشيطاني، ومصمم بطريقة لا غلو ولا اسهاب فيها، وفيه مشاهد تبدو كلوحات كئيبة تتضمن بهجة الحياة الواقعية، اما الصدمة الحقيقية فتكمن في غياب كلبة العائلة الظريفة "لايكا"، التي سبق وظهرت في معظم افلام المخرج، والتي تستبدل هنا بكلب ظريف صامت ومخلص وجذاب (كونستاتين)، الذي يبدو كالمخلوق الوحيد الذي تعاطف اخيرا مع محنة خالد ونراه يحتضنه وهو ملقى أمام البحيرة مجروحا وينزف من طعنة الخنجر الغادرة في بطنه!

*هذا ليس فيلما عن عالم مثالي، فلخالد ايضا ملاحقات مزعجة مع عالم "البلطجة الفاشية"، حيث يتعرض ثلاث مرات لهجومهم المجاني ويتلقى في المرة الثالثة طعنة نجلاء في بطنه... والفيلم لا يدعي ان الامور سلسة وحلوة، بل يقدم لنا في نهاية المطاف صورة عن الوحدة والحرمان والاضطهاد والمعاناة، كما يتحفنا دوما بمشاهد مبهجة للعروض الموسيقية الحية في زوايا الشوارع وفي الحانات: كموسيقى البلوز الشهيرة والروك آند روك الشعبية الجاذبة والمشجعة، حيث تحفز انبثاق العواطف والمشاعر والتفاعلات التي لا تنبثق عادة بسهولة عند هؤلاء الحالمين- المشتتين دوما.

*كيف شق اللاجىء السوري طريقه لفنلندا؟ "ببساطة لأنه لا احد يريدني ولا احد يريد ان يراني"! هكذا يجيب بسخرية على السؤال، فالفيلم من الناحية الاخرى يسلط الأضواء على تجربة النزوح، وبدون التضحية بالكرامة الانسانية، يستكشف " كوريسماكي" معنى واقع أن يكون المرء نازحا، منهيا ذلك بمحاولة ايجاد ارضية مشتركة تجمع كل هذه الأرواح الضائعة والغرباء التائهين والمحبطين، ولا ينسى ايضا كعادته في كل أفلامه ان يشير لدور الأشرار والصعاليك والفضوليين المتواجدين في كل مكان والذين يلاحقونه بقصد ساعين لايذائه (يا "راكب الجمل" وأخيرا "خذ هذه الطعنة أيها اليهودي"!)، باسلوب لا يخلو من الوحشية والواقعية-الساخرة التي يتميز بها، ثم نسمع لاجىء عراقي يقدم المشورة الحكيمة لخالد: " حاول أن تبدو سعيدا لأن الحزانى يرحلون اولا"، ثم نجد من السهل ان نفهم كيف تنسجم هذه الرواية الحديثة مع النمط السردي المعتاد لكوريسماكي.

*يلتقي الفنلندي والسوري في نهاية المطاف، يلكمان أنفي بعضهما ويندمج دمهما على المنديل الورقي، وخاصة عندما يتفاجىء صاحب المطعم بوجود خالد عند حاوية النفايات مدعيا أنها غرفة نومه بينما يصر الفنلندي انها حاوية قمامته، لتعزيز اواصر هذه الصداقة الفريدة البريئة الجميلة، ويسأل أحدهم "ويكستروم" بوجهه الذي يشبه البطاطا القديمة: "هل أصدقائك يسمونك والي"؟ ويجيب باستفزاز: "ليس لدي اصدقاء"!، ثم يتحول هذا الرجل "المتوسط العمر" لحامي للسوري النازح خالد (عكس ما فهم بعض النقاد الذين لم يستوعبوا أحداث الفيلم)، فيعطيه بطاقة هوية مزورة، ويمنحه عملا في مطعمه، الذي يبادر بتقديم السوشي الياباني للهروب من الركود والافلاس (ظهرت هذه المشاهد الكوميدية معبرة وكاريكاتورية ذات دلالة، وخاصة بطريقة استقبال الزبائن اليابانيين وبطريقة تنفيذ طلباتهم ومغادرتهم للمطعم الذي درج على تقديم الوجبات الخفيفة والسردين وكرات اللحم والبيرا)، كما يقدم "الواسابي" في مجارف صغيرة كما بطريقة تقديم "آيسكريم الفستق"، كما يسعى جاهدا لمساعدة خالد لايجاد شقيقته المفقودة التي تركها وراءه ضائعة عند الحدود.

*يبني "كوريسماكي" فيلمه على التغييرات الضئيلة التي حدثت منذ العام 2011 في فيلمه السابق "لو هافر"(الميناء)، حيث نرى ملمع أحذية يقدم الحماية لمهاجر أفريقي شاب صغير هرب من ملاحقة الشرطة، ثم يستمر هذا الزخم السردي بنفس الحماس والتأثير المبهج الطريف المتواصل في الفيلم الجديد، الذي يتعرض لنضالات رجلين هربا (مجازا وواقعا) من ديارهما: فالأول هو خالد (شيروان حاجي) طالب اللجؤ السوري الذي يصل الى هلسنكي هاربا على متن سفينة لشحن الفحم، اما الثاني "ويكستروم" (ساكاري كوسمانن) الذي يقوم مرغما برحلة هروب داخلي، ليبتعد عن زوجته الكحولية المتسلطة، ثم ليفوز هكذا بالصدفة في لعبة بوكر بعد ان يبيع متجر القمصان الفاشل الذي يملكه، وليشتري بالتالي مطعما فاشلا، يحفل بخيوط العنكبوت على الأواني الفخارية القديمة، وليرث مع المطعم طباخا لامباليا ينام واقفا مع سيجارة منسية بين شفتيه ومتدربة جميلة لا تتلقى راتبا وحارس امن ظريف ومتعاون، هكذا يملك هذا المخرج قدرة فائقة تلقائية على السخرية اللاذعة الواقعية، انه نفس الفنلندي المبدع "آكي كوريسماكي" البالغ من العمر 59 عاما، والذي ما زال يكتب ويخرج بنفس الهمة والنشاط منذ اكثر من ثلاثين عاما، ملتزما دوما بوصفته وبصمته التي لا يحيد عنها: السخرية السخيفة (التهريجية) الساحرة التي تشد الانتباه وتجذبك وتضحكك كمشاهد متأمل وتحفزك لرؤية ما وراء السطور والمشاهد.

* وقد تضمنت اعماله أفلام لافتة مثل: "كاوبوي ليننغراد يذهب لمريكا" و"رجل بلا ماضي" وقد نالت السعفات الذهبية والجوائز واطراء النقاد (وقد كتبت قبل فترة وجيزة مقالة مسهبة عن فيلم "رجل بلا ماضي")، وبدا بعضها وكأن الزمن قد توقف عند حقبة الخمسينات او لما بعدها بقليل، حيث تحفل بمشاهد شرب الفودكا، والروكابيلي والبريلكريم، كما بالمدخنين المدمنين اللامبالين حسب التسلسل، فهذه من وجهة نظره هي الأشياء التي تخفف من حمولة وبؤس الحياة وجديتها الصارمة، جنبا الى جنب مع اللطف والطرافة والرفقة الجيدة، والتي تظهر تلقائيا وتنبت بشكل غير متوقع في أجواء كابوسية يسودها اليأس والكآبة والملاحقات والمطاردات، تماما كما يزهر "النرجس البري" في شهر شباط الشتائي!

ملخص الأراء النقدية:

*التقلبات الغريبة في المطعم الفاشل تخدم البعد السردي كمحور لعرض تفاعلات الشخصيات، ولكنها لا تشتت الانتباه عن التركيز على البعد الواقعي "شبه الوثائقي" لهذا الفيلم اللافت.
*المخرج الفنلندي "أكي كزريسماكي" يقدم في الوقت الملائم فيلمه الأكثر شغفا وعاطفية، خالطا معه الفكاهة مع عناصر البؤس والشغف بشكل عضوي مدمج، وبينما يبقي دوما على روح الفكاهة والسخرية المعتادة في افلامه، فانه يظهر هنا بوضوح الجانب الانساني اكثر تجليا من اي وقت مضى: كما أنه كعادته يبقى ملتزما باسلوبه "البارد" المخلوط بالانتحال والتشابك وحس المؤامرة: ويبقى هذا المخرج (كما كان هيتشكوك بصنعة التشويق التي ميزته) استاذا بتقديم القصص الانسانية المؤثرة الهادئة المخلوطة "بالبهجة والطرافة والكوميديا" اللافتة.
*انه عالم حافل بدخان السجائر والفودكا الرخيصة مخلوطا بالحزن المخفي ومعطرا بالفكاهة والتعاطف الانساني، يدخلنا بسحر لمتاهة ملتوية مستحوذا على اهتمامنا، ثم يحاول اخراجنا منها بعد أن يزرع الثيمة الانسانية في عقولنا، وتتأصل السخرية اللاذعة في حياتنا الانسانية المعاصرة، التي تحفل بقصص الاضطهاد والتعذيب واللجؤ والنزوح والهجرة الشرعية واللاشرعية بكل ابعادها الجديدة الغير مسبوقة في التاريخ البشري المعاصر، وقد ظهر هذا الفيلم حقا في وقته الملائم الآن في عالمنا المعاصر الذي تمزقه بحدة وبشدة "أزمات اللاجئين المروعة" في كل مكان تقريبا.

*يعد هذا الشريط الفريد بمثابة صرخة احتجاج "سخيفة وغير متكافئة" مع الفظائع السورية الوحشية تحديدا، ومع اللامبالاة "الاوروربية-الأمريكية- العالمية المتواطئة" (سرا وعلنا) في مؤامرة اسقاط الدول العربية واحدا بعد الآخر، تحقيقا لاستراتيجية "الفوضى الخلاقة" التي تحولت لفوضى وحشية لاخلاقة، ولم يكن بوسع فنان حساس مثل كوريسماكي الا الاعتراف بهذ الآلام التي انتشرت كالوباء وأصبحت عالمية، فحاول هنا مجابهتها سينمائيا بالفن السردي الرفيع والقوة الناعمة المقنعة وبمزيج ساحر من "النكتة والطرافة واللطافة والتفاعل الاجتماعي"، وحتى أكون منصفا فقد ساعدت البروباغندا الغربية في اظهار ازمات اللجؤ والنازحين العرب خصوصا "السورية" بقصد، فيما تم التمويه "بخبث وقصد" ايضا على موضوع اللجؤ والنزوح الفلسطيني عبر القرن الماضي، حماية لاسرائيل الغاشمة والمعتدية من الملاحقات القانونية والتشهير الاممي، وقد نجحوا تماما في هذا الاتجاه وأظهروا هنا تحيزهم مغلفين ذلك "بالبعد الانساني-الأخلاقي" الذي جذب العديد من المخرجين الهواة والمحترفين لكتابة واخراج الأفلام التي تتناول هذه الثيمة من جوانب عديدة، ومنها هذا الفيلم، كما أنه لم يقدم قصة السوري النازح باقناع، "فحزب الله وداعش" لم يقوما ابدا بقصف احياء حلب الشرقية كما ادعى، ودراما موت عائلته بدت مسلوقة وغير مؤثرة، حتى ان المحققة تستغرب من اقدام والد خطيبته المتوفاة في بداية الأحداث على اعطائه مبلغا كبيرا (خمسة آلاف دولار) بغرض الهروب والنزوح، اما شقيقته التي نجت اخيرا وتم تهريبها من الحدود اللتوانية فلم يكن تمثيلها مقنعا البتة وبدت أشبه بالفتاة الكردية اكثر من كونها عربية "حلبية"، كما أني لم اقتنع ابدا بمعاناة خالد على الحدود المجرية-النمساوية ولا بكيفية دخوله لفنلندا هكذا داخل حاوية لشحن الفحم، ولا ادري سبب اصرار المحققة الفنلندية المخضرمة على معرفة التزامه الديني لتجبره على التنصل من كل الرسل والديانات وتسجله "بلاديني"، اما اللغز هنا فيكمن بتفسير بيروقراطية وعناد سلطة النزوح الفنلندية التي استنكرت قصته ومبررات لجؤه وطالبت بارجاعه على متن طائرة وتسفيره لتركيا بالرغم من ملاحظتنا لتعاطف المحققة معه، بالرغم كذلك من مشاهدتنا ومشاهدته المتلفزة للوضع البائس التراجيدي في حلب ولقطات قصف مستشفى الأطفال في حلب الشرقية في مساء اليوم التالي لقرار التسفير!

*ولكن كل ملاحظاتي النقدية هذه لا تمنعني من الاعتراف بروعة انجازهذا الفيلم الذي يعتبر بمثابة: "عمل كهربائي مضاد للسخرية ولموجات الكراهية والسموم القومية" التي تجتاح العواصم الاوروبية، محاولا اكتشاف بلسم انساني قادر على اكتشاف حقائق الامور بصدق وانسانية، ومعززا بروح الانتماء الحقيقية بلا تصنع ومغالاة وميلودراما بائسة: باختصار فان هذا الفيلم الممتع يحتوي على كل عناصر "سينما آكي كوريسماكي*" اللافتة والمكررة: مثل الحس الاغترابي الداخلي والحس الفكاهي الطريف المتأصل في عمق اللقطات، والمنهجية المسرحية الغريبة أحيانا، كما اللوحات المتنوعة الطبقية والحياتية المتشابكة والجاذبة والمضحكة، كما تظهر دوما طيبة البطل "الأصلي" ونزاهته بتعامله مع عمال المطعم الذين أهدر المالك السابق حقوقهم وهرب وبتعاطفه مع النازح المشرد خالد كما باخلاصه لزوجته السابقة وعودته لها ليعرض عليها وظيفة جديدة في مطعم السوشي... انها بصماته الاخراجية الشيقة، كما أنه نجح باقتدار بطرح كل العناصر اللازمة لصنع فيلم جدلي حول "اللجؤ والمعاناة والاضطهاد والانسانية" في فنلندا خصوصا وفي العالم عموما، انه بمثابة صرخة ابداعية من دولة صغيرة "نائية ومنسية"!

*الفيلم الفائز بجائزة أفضل اخراج وأفضل بطولة سينمائية في مهرجاني برلين (الدب الذهبي) و"اودي دوبلن" العالميين لعام 2017


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى