الرأسمالية والبيئة في روايات صبحي فحماوي
اشتغل الروائي صبحي فحماوي كثيراً على هذه القضية، فثمة صراع دائم بين الرأسمالية والبيئة، وأكثر ما تجسد ذلك في روايتي (الإسكندرية 2050) و (الحب في زمن العولمة).
ولعلَّ ما يُشير إلى ذلك، ما ورد في رواية (الإسكندرية 2050) على لسان الراوي وهو يصف مدينة الإسكندرية عام 2050: "ها هي شواطئ المعمورة، وقصر المنتزه، تظهر على شاشتك، مشبوكة مع مدينة الإسكندرية في معمار واحد. وقد كانت أيام صباك متباعدة، تفصل بينها أرضٌ زراعية. وعلى الجهة الأخرى بحيرة مريوط، ومنطقة الملاحات، التي كانت رياحها تذرُّ الملح في العيون، فتبدو على شاشتك، وكأن شيئاً لم يكن! قالوا إنهم جففوها، وها أنت تراها مزروعة بالمشاريع المعمارية... وعلى البعد ترى مساحات واسعة شاسعة من تشوهات سكنية، لبيوت صفيحية صدئة، متراصة مترامية، في نهايات البحيرة، يبدو أنها لبقايا الفلاحين والعمال المتآكلين المعجونين بنفايات مدينة العولمة، والذين لفظتهم وأقصتهم حرية رأس المال، وطردتهم الى صحاري موحشة بعيدة"().
صور النص بشكل صريح تأثير الرأسمالية على الطبيعة، وكما ذكرنا سابقاً، لا يوجد شك بأنَّ حضارة الرأسمالية تُعد مدمرة من الناحية البيئية، وهذا ما أشار إليه النص حيث الاستحواذ على الأراضي الزراعية وتجفيف مياه البحيرة خدمة لصالح أصحاب رؤوس الأموال، لأن الحاجة إلى "تنمية اقتصادية متواصلة تتطلب استغلالاً متواصلاً للبيئة"().
إنَّ هذه المشاريع العمرانية الكبيرة المقامة دونما مراعاة القضايا البيئية هدفها الأول هو تحقيق مصالح اقتصادية لفئة معينة، وهذا عماد الفكر الرأسمالي، لا سيما المتحالف مع السلطة، إذ لا يهمه سوى جني أرباحٍ مضاعفةٍ، بغض النظر عن العواقب التي قد تطيح بآمال وأحلام من دونهم، الربح أولاً، ولا ضير في الأزبال والعشوائيات، وبالنتيجة يحدث تغير واختلال في التوازن البيئي والاجتماعي، فعلى المستوى البيئي ينتج الاحتباس الحراري والفيضانات والتلوث، أما على المستوى الاجتماعي تتغير نواح عدة في الحياة كالفقر والبطالة وتفكك القيم الأخلاقية. هذه المشاكل تتركز بطريقة غير متساوية بين الناس نتيجة الفقر والتهميش وتغوّل حضارة رأس المال، ولعلَّ أكثر من يتأثر هم الفلاحون وجامعو الغذاء والذين يعيشون على الصيد، فهؤلاء يفقدون مصادر رزقهم عندما تنشأ المشاريع العمرانية والعولمية.
ربما تُشير العشوائيات إلى بيوت الطبقات الفقيرة التي بدأت تزحف على أطراف مدينة (الإسكندرية) بحثاً عن مأوى، لتفضح هذه العشوائيات إيديولوجيا الطبقة المهيمنة التي غالباً ما تبرر الوضع القائم بمبررات منمقة، ووعود زائفة قد تنطلي على فئة كبيرة من المجتمع، وهذا ما يفاقم الأزمة البيئية أكثر، كي يزداد الفقراء فقراً والأغنياء غنى، باتساع حجم الفارق الطبقي بين الفئة المستغلة وغيرها من المستغلين، ولا حل إلا بإلغاء الرأسمالية أو على الأقل ترويضها، أما غير ذلك سيعيش الإنسان في حالة تبعية للآخر بفعل الاستلاب الرأسمالي الذي أخذ بُعداً اقتصادياً، فضلاً عن استغلال الموارد البيئية التي بدأت تتناقص تدريجياً.
وللتأكيد على ذلك يقول (المهندس مشهور): "كان شراء شركة (يون تشو الصينية) أرض المطار وما حولها، في شمالي محافظة البحيرة وإنشاؤه على مساحة مئة كيلومتر مربع، كانت تغمرها ملاحات بحيرة مريوط، يعتبر ضربة معلّم! اشترى الصينيون المنطقة بكاملها، وجففوها، فاختفت بقايا البحيرة الملحية الشاحبة الخضرة، وحل محلها مطار دولي فسيح. وحسب معلومات الإنترنيت كانت صفقة تجارية صينية رائعة"().
ويشكل هذا - من وجهة نظر ماركسية - أحد العواقب الوخيمة للنظام الرأسمالي الذي تكدس فيه الأموال لدى فئات دون أخرى، لقد قدمت الماركسية فضلاً عن نقودها للاستلاب الديني نقداً لاستلاب آخر. هذا الاستلاب هو استلاب "محمولات العمل المستلب بإزاء رأس المال، مثلاً، تكاد تتطابق مع محمولات الإنسان المستلب بإزاء المقدس"()، بمعنى آخر هو استلاب "ماهية الإنسان لكن في رداء استلاب العمل إزاء رأس المال"()، أي في كلا الحالتين يُجبر الإنسان على الخضوع لمن يمتلك رأس المال من الجهات الخارجية، وإلى هذا أشارت الرواية بـ(اشترى الصينيون المنطقة بكاملها وجففوها).
في النص أعلاه نقد واضح للرأسمالية التي شاعت في مدن العولمة، فنشأت على إثر ذلك استغلال صارخ بحق الإنسان والبيئة الطبيعية، إذ تعرّض المزارعون للظلم البيئي كالاستيلاء على الأراضي، وممارسات العمل الاستغلاليَّة، والتَّهميش العرقي. وقد ورد في كتاب (جدل التنوير) ما نصه: "بدل الخضوع للسيف خضعت الإنسانية إلى الآلة العملاقة التي راحت تصنع السيف من جديد"().
ينتقد (فحماوي) النظام الرأسمالي الاحتكاري الذي صيَّر الإنسان إلى مجرد آلة تتحكم بها قوى وأنظمة اقتصادية لا يهمها سوى مضاعفة الأرباح، فلا يسلم منها البشر ولا الطبيعة، وثمة ما يُشير إلى ذلك في الرواية يقول (برهان): "أسهم تجارية لا تعرف لها وطناً، ففي لحظات تنتقل مليارات الأسهم من مستثمرين غربيين إلى صينيين أو هنود، أو (كاليفورسيكيين) لقد انتقل مركز الحضارة الآن من الغرب إلى الشرق، فبعد أن كانوا يسموننا (الشرق الأوسط، والشرق الأقصى)، لأن حجر الرحى كان عندهم، والشرق هو الذي يدور في فلكهم، صار الصينيون الآن يسمون الأوربيين الغرب الأوسط والقارة التي بعدها الغرب الأقصى. (لاحظ أنَّ الفندق ينتشر على كل منطقة الرياضة ومنطقة الإبراهيمية، ويدوس بأقدامه الجبارة داخل شاطئ البحر). تلفت نظره لما ترى (يبدو أنَّ أهالي الإسكندرية صاروا ضيوفاً غرباء على هذه الشركات العولمية المالكة لكل شيء في لمدينة وما حولها!)"().
يؤكد هذا النص على ضرورة إعادة الروح إلى مدينة (الإسكندرية) بعد أن أماتتها الهيمنة الرأسمالية حين جعلت من المال إلهاً معبوداً().
(مدينة الإسكندرية) –كما تصورها الرواية- مكان تسيطر عليه الشركات الرأسمالية المفرطة التي باتت تفرض هيمنتها على الإنسان، وتشكل مصدر قلق واضطراب لدى الكثيرين بعد أن غيرت من الطباع والأخلاق حتى صار أهل الإسكندرية ضيوفاً غرباء، لذلك ترسم الرواية (الإسكندرية) بصورة مظلمة تماشياً مع الرؤية السائدة فيها: "تهبط العربة الجوية بنا عند مدخل الفندق، فنرى الجو غائماً، والسماء رمادية مكفهرّة، والضباب يهاجم العمارات، ويرتطم بالأرض... تبلع حبة هرمون المناعة، ثن تقول: (فندق على مساحة هائلة! أين حواري وشوارع الإبراهيمية التي كانت يومها حديثة؟ لم يبق سوى بعض البيوت الآيلة للسقوط"().
لا ضير في التوسع العمراني والسكني طالما لا يتجاوز على البيئة الطبيعية ومحتوياتها، لكن أن تهيمن الرأسمالية على الإنسان وتسلبه فكره()، فهذا أمر في غاية الخطورة، عندما تصبح إيديولوجية "مرتبطة بالرأسمالية التي تقول بأنَّ على الإنسان أن يهيمن على الطبيعة ويطوعها. ويجادل هؤلاء أنَّ هذا التفكير ينطلق مباشرةً من هيمنة الإنسان على الإنسان، وبالنتيجة طالما بقي الإنسان يسعى للهيمنة على الآخرين، فإنه سيظل يسعى للسيطرة على البيئة"()، إلى أن يدمر الكوكب وما عليه. وهذا يتوافق مع حركة (الأرض أولاً)، فالروائي في هذا الطرح يُدين الفكر الرأسمالي الذي طالت يديه كل شيء بما في ذلك البشر! "كانت بيوت وعمارات الشاطئ عام 1966 تتراوح ارتفاعاتها من طابق واحد إلى خمسة عشر. وأما هذه العمارات الزجاجية المئوية الطوابق، المغرورة في الارتفاع، والمجاورة لخرائب موحشة، فهي عولمية الحضارة"().
إنَّ خطط التحديث المفرطة من قبل الرأسمالية كبناء العمارات المئوية وتجفيف البحيرات وإنشاء المطارات، فضلاً عن إزالة الأراضي الزراعية التي كانت تمتص البطالة وتساعد في القضاء على نسبة من الفقر، قد غيّرت بصورة جذرية من بيئة مدينة (الإسكندرية)، وكما أشار (هوغان وتيفين) فإنَّ خطاب النزعة التطورية يُعد نقطة محورية يتعارض فيها النقد البيئي مع الاستغلال الرأسمالي بصورة مباشرة، وثمن مثل هذا التقدم والحداثة تدفعه البيئة والطبقة الفقيرة من البشر().
الروائي دائم النزعة إلى الأماكن الخضراء (الريف، القرية)، ولعله "نتاج طبيعي لإحساس الروائي العميق بالانتماء إلى الأرض وإلى القرية الهادئة الواعدة التي ظلت تحافظ على نقائها، وعلى بساطتها فلم تطلها المدينة بحضارتها فتفسدها"(). على أنَّ الحضارة المقصودة في هذه النصوص، هي تلك التي جُلبت إلى (الإسكندرية) بدعوى ظاهرها التطور والحداثة، وباطنها الاستغلال المكثف والمحموم بمختلف أشكاله وصنوفه بيئياً وبشرياً واقتصادياً؛ لذلك بدأت الذات تُعرَّي وتُظهر زيف الرأسمالية المتسلطة على الموارد البيئية والبشرية. وبدأت تعود إلى واقع ما قبل التغيير، فثمة شخصيات "تحنُّ إلى الماضي، إذ تنظر إلى الخلف، إلى ماضي مثالي، ثم تنقله إلى المستقبل"().
يقول (المهندس مشهور): "كانت هنا بيوت الحضرة طينية، ريفية الطابع، يقطنها فلاحون يلتصقون بالمدينة... أتذكر فلاحاً كان يحرث في هذه الأرض، المزروعة اليوم بالعمارات الشاهقة، في ربيع عام تسعة وستين وتسعمائة وألف،... وعندما ألقيت السلام على الحراث، دعاني بحرارة لشرب الشي معه. كان شاي الإبريق يغلي فوق نار موقدة من حطب المزرعة، تحت نخلة باسقة، فصب لي الشاي (الحبر) بكثافة دبس قصب السكر، في كأسه الزجاجية المغبشة! كانوا هنا يزرعون الحبوب والبقول، والقطن الطويل التيلة، وأشجار الحمضيات والجوافة والمانجا، ويربون الجاموس والنحل، فيبيعون أهل المدينة حليبها وعسلها وأجبانها وزبدتها"().
في النصِّ نقدٌ واضحٌ للجهات المسيطرة على رأس المال التي شاعت في مدينة (الإسكندرية) بعد عام 2050م سواءٌ المحلية منها أو العالمية، بعدِّها أنظمة غلَّفت أهدافها بأغلفة تقدمية وتطورية واقتصادية، لا تُراعي إلا مصالحها، ولا تلتفت إلا لما يضاعف أرباحها، لذا فإنَّ السرديات المتمركزة أنثروبولوجياً حول انتصار عقل الإنسان على البيئة الطبيعية تؤكد بشكل واضح بأننا نعيش في مجتمع رأسمالي، خصوصاً أنَّ الميزة الحالية للتفاعل البشري مع الطبيعة يجري تنظيمها من أجل الربح وليس من أجل حاجة الإنسان().
في مقابل هذه اللوحة المثيرة للقلق، هناك لوحة أخرى مثيرة للخوف، يستمر الكاتب في خلق أجواء مظلمة محملة بهموم بيئية، جاءت من خلال حوار الراوي مع ولده (برهان) فيجيب والده قائلاً: "تقصد أنَّ ما قبضوه ثمناً للنفط، سينفقونه على مقاومة نتائج حرقه؟ حضارة الغرب المغرورة ترفهت بحرق النفط داخل سياراتها ومصانعها. تقول لك الإعلانات المُضللة: (عبئ سيارتك العملاقة بالنفط الرخيص، وانطلق إلى محبوبتك!) وبعد عصر النفط، استهلكوا الغابات، وزرعوا مكانها عمارات جميلة المظهر، فأفرزت من تحتها برازاً ومجاري لوثت البيئة، وبثت غازات وسموماً فضائية، أهلكت الحياة على الأرض!"().