الشعر المغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
تمهيــد:
تهدف هاته المحاولة إلى رسم صورة متكاملة لوضعية الممارسة الشعرية في المغرب خلال الحقبة الممتدة من 1850م إلى 1900م. وقد انصرف اهتمامنا إلى هذه المرحلة لاعتبارين أساسين: الأول أنها تكتسي أهمية بالغة، بما حملته من مستجدات على جميع الأصعدة، قلبت موازين القوى العالمية، وجعلت الأنا العربية عامة والمغربية بصفة خاصة، وهي أنا يتقاذفها التخلف وتطوقها أسباسه من كل حدب وصوب، أمام آخر غربي متقدم قطع أشواطا عملاقة في التقدم والتحديث. الأمر الذي أسفر عن وعي جديد بالآخر، ومن خلاله تم رتق الوعي بالذات أو، وفي أقصى الحالات، إعادة بنائه. وقد تمظهر هذا الوعي من خلال مجموعة من المقاربات حاولت إعادة الفارق الذي تعرض للانهيار، والبحث عن توازن منشود يحكم علاقة الأنا بالآخر. ويختزل عبد الله العروي (1) تلكم المقاربات في ثلاث: مقاربة الشيخ، ويرى أن الحل من الأزمة يكمن في التشبث بالعقيدة الدينية. ومقاربة الزعيم السياسي، الذي يعتبر الرؤية الليبرالية مدخلا لكل إصلاح وكل تحديث. وأخيرا تنبري مقاربة داعية التقنية، وعندها أن مفتاح التقدم النشاط العلمي الصناعي. على أن ذلك الوعي لم يكن بنفس الحدة، ولم يظهر في نفس التوقيت في سائر الدول العربية، لمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المرتبطة بخصوصية كل دولة.
الثاني: أن هذه المرحلة تغطي النصف قرن الأخير من حياة المغرب القديم. مما يمكّن من الاطلاع على الصورة التي استوى عليها شعر المغرب القديم، ومن مقارنة هاته الصورة مع نظيرتها في النصف الأول من القرن العشرين، والذي يدشن، حسب التحقيب الثقافي (2)، العهد الحديث في المغرب. وبالتالي، تبين مقدار التقليد أو التجديد في ذلك الشعر.
لن نتهجم على موضوعنا مباشرة، بل لابد لنا من أن نعرّج على الحياة السياسية بالمغرب آنذاك، لأنها ستسعفنا، لا محالة، في وضع تشخيص وتقييم متكاملين يستحضران الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... أو لنقل بعبارة: خارجيات النص، التي تعتبر، كما يذهب اسكاربيت(3)، بُعدا من الأبعاد الثلاثة للظاهرة الأدبية.
الحياة السياسية بالمغرب من 1850م إلى 1900م: (4)
تعاقب على حكم المغرب خلال هاته المرحلة ستة سلاطين هم على التوالي، مع سنوات حكمهم: المولى عبد الرحمان)1823-1859م (، والمولى محمد بن عبد الرحمان) 1859-1873م (، والمولى الحسن الأول) 1873-1894(والمولى عبد العزيز) 1894-1908م(، والمولى عبد الحفيظ)1908-1912م (، والمولى يوسف) 1912-1927م (، والمولى محمد بن يوسف) 1927 ونقف عند سنة 1950م(.
لعل أهم حركة قام بها السلطان عبد الرحمان، هي: ضمه تلمسان بعدما بايعه أهلها، على إثر احتلال فرنسا للجزائر عام 1830 م. وقد سجلت سنوات حكمه، انهزام الجيش المغربي في وقعة إيسلي سنة 1844م. وفي حرب تطوان أمام الاسبان، بعد سنة من هزيمة إيسلي. وقد غيّر هذان الحادثان تماما اعتقاد المغرب في قوته، وبينا أيضا ضعف جيشه وسوء تنظيمه، واعتُبرا مصيبة عظيمة وفجيعة كبيرة، كان من نتائجها عقد هدنة مع فرنسا، وأخرى مع إسبانيا، بشروط قاسية، أضف إلى ذلك تنامي أطماع الدول الأجنبية للاستيلاء على بعض المدن المغربية الساحلية. وعلى المستوى الاجتماعي، كان من تبعات الهزيمة اندلاعُ ثورة القبائل، حيث ثار، مثلا، أهلُ رباط الفتح على عاملهم، وثارت قبائل الشياظمة بالصويرة. لكل هذه التداعيات، ألفينا السلطان عبد الرحمان يستدعي ضباطا من الخارج لتنظيم الجيش والبنيات الأخرى المتهلهلة. كما قام بإصدار ظهير يأمر فيه بإصلاح التعليم بالقرويين. وبهذا يعتبر ثاني اثنين حاولا إصلاح التعليم بالقرويين، بعد جده المولى محمد بن عبد الله،
وخلفه ابنه المولى محمد الرابع، الذي كان عليه أن يواجه الثائر الخطير الجيلالي الزرهوني) 1865-1910 (المعروف بالروكي بوحمارة. وعقد عدة معاهدات تجارية، وجعل من طنجة دار مقام للسفراء الأوربيين. ويرجع له الفضل في إدخال أول مطبعة إلى المغرب، وطبع الكتب الأولى بها، مثل: شرح الأزهري على الآجرومية، والشرح الصغير للخرشي على مختصر خليل، وشرح التاودي ابن سودة على العاصمية في الفقه المالكي لابن عاصم قاضي قضاة غرناطة، والشرح الصغير لميارة على المرشد المعين لابن عاشر. وقد حبست هذه الكتب كلها على مكتبة القرويين بفاس. كما شجع الأدباءَ والعلماء على التأليف والإبداع، فرصد لهم مكافآت عما يؤلفونه أو ينسخونه من كتب. وبعث إلى مصر، أيام الخديوي محمد سعيد باشا، بعثة طلابية للتخصص في الرياضيات، من أفرادها عبد السلام العلمي ومحمد بن الطيب بن كيران.
ويمضي السلطان الحسن الأول على نفس النهج الإصلاحي، فيقيم المكينة)مصنع لسك النقود(بفاس سنة 1885 م، بمساعدة ضباط ايطاليين، وكلف شيخَه أبا العباس أحمد بن الحاج بكتابة تأريخ مفصل للدولة العلوية، فألف "الدرَّ المنتخب"، في خمسة عشر مجلدا، قطعه الموت عن إكماله. وسعيا منه إلى تخليص المغرب من مساوئ الامتيازات، عقد مؤتمر مدريد عام 1880 م، حضره مندوب السلطان وممثلو دول الامتيازات الأجنبية، التي تطبق في المغرب، وهي: بريطانيا وإسبانيا وفرنسا، كما حضره ممثلو ألمانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا وهولندا والدنمرك والسويد والنرويج والبرتغال والولايات المتحدة الأمريكية. لكن النتيجة جاءت بما لا تشتهي سفنه، حيث تقرر الإبقاء على تلك الامتيازات والحمايات بالنسبة للدول الثلاث، وتعميمها على جميع الدول التي حضرت المؤتمر.
ويرث السلطان عبد العزيز، ولما يتجاوز الثالثة عشر من عمره، كل هذه المسؤوليات الجسام. وقد كان حاجبه المستبد أبو احمد، وهو ابن خادم أسود، يسيّر دفة الحكم فتسلط على المخزن. ووافقت وفاته عام 1902م بلوغَ السلطان الواحدة والعشرين من عمره، وهو السن الذي يؤهله لتقلد مهام الدولة.
الحياة الشعرية بالمغرب من 1850 إلى 1900م:
يميز الدكتور محمد الأخضر(5) في شعر هذه المرحلة بين اتجاهين أساسيين: الاتجاه الديني، وموضوعه القصائد النبوية في مدح الرسول الكريم، وأولي الأمر من آله الأشراف. ويتضمن التعبير عن الرغبة الملحة في أداء فريضة الحج، ووصف البقاع المقدسة، مع ذكر الحكم والأمثال، ويتمثل غرضه في الوعظ، وحث الناس على الإخلاص في الأعمال والتخلص من الأوزار، وقهر العدو الكافر الذي يزداد تضييقه على التراب الوطني أكثر فأكثر. والاتجاه الدنيوي، الذي يقدم قطعا واقعية ومعبرة تماما عن الاخوانيات وعن لواعج الذات وهمومها، إضافة إلى نفد المجتمع، والتجاوب مع الأحداث الوطنية.
تبدو خريطة الشعر المغربي إذن متراوحةً بين التقليد والتجديد على مستوى المضمون. فمن جهة، ظل شعراء المرحلة مرتبطين بالنموذج القديم، يستوحونه وينتحون سمته، فجاء منجزهم الشعري حافلا بالأغراض الشعرية التي عهدناها في الشعر القديم، فهذا المؤرخ الكبير صاحب "الجيش العرمرم الخماسي، في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي"، أبو عبد الله محمد بن أكنسوس)أو الكنسوس أو الكنسوسي(المتوفى سنة 1877م، يكاد شعره – يضيف الدكتور محمد الأخضر(6) أن يكون كلُّه في المدح والتهنئة والوصف. يقول شاعرنا في مولدية رفعها للسلطان عبد الرحمان (7)
عهدي بكم جيرة البطحاء موصول | |
يا ناسي العهد إن العهد مسؤول | |
أشيم برقا سرى من نحو ربعكـم | |
وفضـل ذيلي بوبل الدمع مبلول |
وهو في قصيدته يسلك النهج الذي دأب عليه شعراء المولديات، من تمجيد للمولد المعظم، ومدح للرسول الكريم وللسلطان. (8(ويقول، أيضا، مهنئا السلطان محمدَ بن عبد الرحمان (9)
له العسكر الجرار تبرق في الوغى | |
صوارم منـه، والمدافع ترعــد | |
يعــد إلى الأعداء كل كتيبـــة | |
من الرعد يحدوها الوشيح المسدد | |
كل كمـي كالغضنفر مغضبــــا | |
وكل صقيل، وهو ماض مجــرد | |
يفيد العدا قبل اللقاء مهابـــــة | |
فصارمه يغري الطفى، وهو مغمـد |
وللشاعر مولدية أخرى أنشدها سنة 1863م مهنئا المولى محمد بن عبد الرحمان، يقول في مطلعها: (10)
حنانيك إن الشوق قد بلغ المـدى | |
أما ترحم المضنى الكئيب المسهدا | |
ورحماك، إن المستهام من النوى | |
له حالة سوأى ترق لها العــدا | |
فلا تسأل الولهان، عما أصابــه | |
وسل حاله إن شئت ذاك فتشهـدا |
وهي قصيدة تبلغ نحو الثمانين بيتا، لا تختلف عن سابقتها في تمثل النموذج القديم.
ونجد، أيضا، إدريس بن محمد العمراوي) ت1878 (، الذي يصفه صاحب "فواصل الجمان في أنباء وزراء و كتاب الزمان"، بأنه:" فريدة عقد الكُتاب")11(، لا يختلف في ترسم النموذج القديم عن سابقه، نذكر من شعره مرثية في الوزير أبي عمران موسى بن أحمد، تناهز الأربعين بيتا، منها:(12)
عش ما تشاء وأكثرن أو اقصد | |
ما ذي الحياة على الأنام بسرمد | |
فتكاتها فـي العالمين شهيـرة | |
بالقهر تعبث في العباد وتعتـدي | |
لو كان يدفع بالعشائر مكرهـا | |
خلدت عصائب تستعز بأجنـــد |
ومن نماذج الرثاء قصيدة للفقيه محمد الصفار)ت1860(يرثي فيها ابنا له، من أبياتها: (13)
يا عين جودي بالدمع فليس ذا | |
وقت الجمود وأغزري من عبرتي | |
لتساعدي القلب الممزق إذا غدا | |
حضوا برود محمد، وازفرتــي | |
أمحمد كنت الأنيس لوحدتــي | |
أمحمد كنت السواد لمقلتـــي |
يعكس النموذجان الأخيران في الرثاء، إبراز الشاعرين للعواطف الذاتية، والتوجعات النفسية، مع وقفات تأملية تتوجه إلى التاريخ وذكر الأمثال والحكم والاتعاظ بالدهر. وذلك على نحو ما ألفيناه في المرثيات القديمة.
ومن الأغراض الشعرية التقليدية التي أبدع فها الشعراء، غرض الغزل بنوعيه المذكر والمؤنث. دون أن ننسى أبا الأغراض الشعرية العربية، إن صحت التسمية، ألا وهو غرض المدح. وفيما يخص غرض الغزل نسوق مثلا للغزل المؤنث قول أحمد البلغيثي) ت1929(14)
حدثا الصب فالحديث حلالــــه | |
واسقيا من المــــــــدام حلاله | |
واتلوا آية الوصال على مـــن | |
مات صبــــــرا بلحظ تلك الغزاله | |
ليس عشقي حديث زور ولكــن | |
زان اسناده مزيدا عدالــــــــه | |
وغدا عاضدا تواتر دمعــــي | |
بسيول مـدى المدى هطالــــــه |
وقوله في أخرى: (15)
بدت لي ترنو بالعيون الفواتــر | |
ولكن لها في القلب وقع البواتر | |
بدت لي و في قلبي المعنى بحبها | |
لواعج أشواق، كحرّ الهواجـر | |
مهاة لها نفسي النفيسة أذعنـت | |
وهل أذعنت يوما لغير الحرائـر |
ومن الغزل المذكر، نورد نموذجا للشاعر العربي بن السايح)ت 1892(، يقول الشاعر(16)
وشادت أبلج المحيــــــا | |
تغار من حسنه الــــدراري | |
يقدمن إن شا سنــــــاه | |
كأنه صيغ من نضــــــار | |
إن رام فـــي مشيته انطلاقا | |
لج به السكــر في العثـــار |
ومن خلال النموذجين، يتضح أن قصيدة الغزل، ظلت بدورها خاضعة لتقاليد الشعر العربي، من حيث المضمون؛ تدور في فلك المعاني، التي تغنى بها شعراء الغزل من أمثال: عمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس وأضرباهما.
أما بالنسبة لغرض المديح، وقد تعمدنا تناوله في هذا المستوى من مسار الدراسة، فلم يكن له في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ذلك التوهج الذي عهدناه، لسبب بسيط: أنْ كانتِ المرحلة مرحلةً اضطربت فيها صورة الممدوح/البطل، مما جعل أغلب قصائد المدح، في اضطرابها وإسفافها لا تعدو عن كونها دليلا على صحة هذه الحقيقة. يقول محمد أكنسوس المراكشي في مدحة رفعها إلى المولى محمد بن عبد الرحمان(17)
هذي لعمرك راية مرفوعــــة | |
بيد السعود يقلها التوفيـــق | |
رفعت على خيــر الملوك محمد | |
ملك إلـى كـل المجال سبوق | |
خضل البنان بنائل من دونـــه | |
وجه يجـول البشر فيه طليق |
ويمدح محمدُ الصنهاجي)ت 1888(السلطانَ الحسن الأول بقوله (18):
لسان الكون يلهج بالثنـــــاء | |
ويسفــر عن علا بدر السماء | |
وينبئ سائلا فتحا قريبــــــا | |
وعزّا قد تسربل بالبقــــاء | |
بأن الله قد أســدى جميـــــلا | |
وأن النصـر، خيم بالفـــاء |
ويتجلى أيضا أثر التقليد على مستوى المضمون، في مجاراة شعراء المرحلة نموذجَ القصيدة الواصفة. بما امتاز به من تفاعل خلاق مع الطبيعة، وهيام بجمالها، ومن تصوير بديع يعالج المدن والمآثر العمرانية. فمن الشعر الوصفي الذي يعالج المدن، ننصت لأحمد الصبيحي)1879-1944م) إذ يصف مدينة مكناس قائلا: (19)
عرج على مكناسة الزيــــتون | |
متيمنا بالتين والزيتــــــون | |
وأنخ مطيك حيــن منطلق الهوى | |
يشفــي الجوى والجسم بالتعيين | |
حيث المياه الدافقات ترقرقـــت | |
وجرن بأودية لها وعيـــــون |
ويصف محمد السليماني)1858-1924(الربيعَ بقول(20)
بزغ الصباح فقم بنـــــــا | |
نقضـي أويقـــات الســرور | |
وبـدت دواعـي الأنس في الـ | |
أرجاء باهــرة السفـــــور | |
وأتى الربيع مبشــــــرا | |
وهـو المقدم فـي الشهـور | |
فالروض باكِره الحيـــــا | |
والغصــن منظــره نضير |
وأخيرا بدا التقليد في المضمون، من خلال تسلل فن تقليدي متداول إلى شعر المرحلة؛ يتعلق الأمر بشعر الإخوانيات والمطارحات والمساجلات) 21 (نمثل في هذا المقام، بالجدال الذي نشب بين أحمد البكاي وأحمد أكنسوس المراكشي، حول أهلية الشيخ التيجاني للمشيخة. كتب أحمد أكنسوس قصيدة من ستة وعشرين بيتا، مطلعها:(22):
أسيدنا البكاي يامن إذا بـــدا | |
محياه حيتنا البشاشة والبشـــر | |
خلفتهم في المكرمات وفي العلا | |
وشيدت ماشادوا وشــد بك الأزر | |
وأجابه البكاي بقصيدة في نفس البحر | |
والروي تقع في اثنين وتسعين بيتا، منها | |
فأسأل ربي أن يعينك بالنهــى | |
عليه يواليها الهدى منه والصبــر | |
وقربك الله القريب لحضـــرة | |
نفوس الـورى فيها، وقلت لها قهر |
ومن جهة ثانية، نعثر في شعر المرحلة، دائما على مستوى المضمون، على دفقات من دماء التجديد أخدت تتصاعد في نسغ الشعر المغربي آنداك، فاستوى شعر الثورة والمقاومة غرضا ما فتئ يستقطب قرائح الشعراء، منذ احتلال الجزائر سنة 1830م. فهبت ثلة منهم تحذر من مغبة تجاهل ما يجري بالجوار، وتستحث الهمم للنهوض في وجه المستعمر، الذي صار قاب قوسين أو أدنى من المغرب. يقول محمد بن إدريس العمراوي: (23):
يا أهل مغربنا حق النفير لكــم | |
إلى الجهاد فما في الحق من غلط | |
فالشرك من جانب الشرق جاوركم | |
من بعد ما سام أهل الدين بالشطط | |
فلا يغرنكم من لين جانبــــــه | |
ما عاد قبل علـى الإسلام بالسخط |
وله أيضا مطولة من مئتين وعشرين بيتا، يدعو فيها الشعب المغربي إلى حمل السلاح للدفاع عن القطر الجزائري الشقيق، يقول فيها(24)
فرض على كـــل مسكين وسلطـان | |
حمـل الســلاح على عُبّاد الأوثـان | |
فحمله شرف عـــال، ومفخـــرة | |
خـص الإلــه بها أعــز عبـدان | |
لا شيء أحسن من صوت السلاح | |
على الأعناق في طاعة المولى ورضوان |
ويمضي الشاعر الوزير محمد غريط) ت 1863 (في نفس المنحى بقوله، مذكرا بمحنة الأندلس(25):
مالي أرى جفن أهل الغرب و سنانا | |
من بعدما أخذ الرومي تلمسانا | |
كأنهم ما دَرَوْا، ماذا يريد بهـــم | |
عد و دينهم، لا نال إمكانـــا | |
ولا على فعله في دفتر وقفـــوا | |
بأهل أندلس يا بيس ما كانــا |
ويصرخ محمد بن الشيخ داعيا إلى الاستعداد للجهاد والمقاومة قائلا(26)
ترانا عاكفين علـى المغانـــي | |
لفرط الشوق نند بها حيــارى | |
أسارى لـوعة وأســى ننـادي | |
وما يغني النداء عن الأسـارى | |
ولو في المسلمين اليوم حــــر | |
يكف الأسر أو يحمي الذمـارا | |
حماة الدين إن الدين صــــارا | |
أسيرا للصـوص وللنصـارى |
ويلاحظ محمد بن تاويت، أن النصوص التي قيلت عقب وقعة إيسلي المشؤومة، لم تصلنا بنفس الكثافة التي وصلتنا بها تلك التي قيلت عقب احتلال تطوان سنة 1860 م (27). ومن القصائد التي حملت معها زفرات تطوان وآهاتها، قول الفقيه مفضل أفيلال)ت 1886 م (28)
يا دهر قل لي علامـــــــه | |
كسرت جمع السلامــــــه | |
نصبته للدواهــــــــــي | |
ولـم تخف من ملامــــــه | |
خفضت قدر مقـــــــــام | |
للرفع كان علامـــــــــه | |
فالدين يبكي بدمـــــــــع | |
يحكيه صــوب الغمامــــه | |
على مساجد أضحــــــــت | |
تباع فيها المدامــــــــه |
ويقول المكي بن ريسون في نفس الكارثة (29)
قد أصيبت تطواننا الغــــراء | |
بدواهي ليس عنــــدها دواء | |
ملكها الكفار، أخبث جنــــس | |
جال فيها رجالهم والنســــاء |
ويختم قصيدته بمجموعة من العهود منها:
يا تطوان لست أحول عن عهــد | |
ما دامت للعهود منك وفــــاء | |
يا تطوان لست أنساك طول عمري | |
ما دام للحياة في بقــــــاء |
ويصور الفقيه أحمد الجندي استماتة أهل تطوان في الدفاع عن مدينتهم وشرفهم فيقول(30)
بقوة حاربوا الكفار، امتثلوا | |
أمر الإله وما أتاهم الكــــدر | |
حموا حريمهم بأهل دينهـم | |
فليـس للكفـر في حريمهم وطر |
ثاني مناحي التجديد في الشعر، كان مواكبة الشعراء للمستجدات الحضارية التي تطرأ على المجتمع المغربي، والتي كانت تثير جدلا فقهيا واسعا، كثيرا ما يُنقلُ إلى المضمار الشعري. ومن الشعراء الذين أحرزوا قصب السبق في هذا المجال، الشاعر العربي بن محمد السايح، الذي تناول الضجة التي أثارها دخول الشاي إلى المغرب، وانقسام الفقهاء إلى محلل ومحرم، يقول: (31)
واصل شـراب حليفة الأمجــاد | |
واتـرك مقال أخي هوى وعنــاد | |
صفراء تسطع في الكؤوس كأنها | |
شمس تبدت في ذرى الأطـــواد | |
وكأنها من حسنها و صفائــها | |
من عسجـد، عُصِـرَتْ بأعْصُرعاد | |
ما إن بدت في موضع إلا بــدا | |
فيه السرور، يناط بالإسعـــــاد |
وإذا انتقلنا إلى مستوى شكل النصوص الشعرية، فان الشكل المهيمن على هذه المرحلة الشعرية هو القصيدة التقليدية العمودية، وقد مرت بنا نماذج تغْني عن الاستدلال. ونجد إلى جانبها الموشحات. ومعلوم أن هذا النوع الشعري، ارتبط منذ نشأته في الأندلس بالموضوعات الغنائية.
ولكن شعرائنا ما لبثوا أن جعلوه مطواعا للتعبير عن شتى الأغراض، من مدائح نبوية كقول أبي عبد الله محمد غريط (32)
ما أحسن اللين في القــــدود | |
والسحر في العين والفتـــــــور | |
وأعـذب الوصـــل عن صدود | |
ورشفة الخمر في الثغــــــــور | |
في ذاك يحلو الغـرام جهــرا | |
وعاذل الصـب ما عـــــــــذل |
وكقول إدريس بن محمد العمراوي، في موشحه يتوجه بها إلى المولى الحسن الأول منها)33(:
يا حاديـا يقطع السباســب | |
ينشد طبعا من النسيــــب | |
استـدم السيــر في الغياهب | |
لا تخش من حادث مهيـــب | |
سق المطايا، تلـق المزايــا | |
واطو فيافي البعـاد طـــيـا |
ينضاف إلى ما سلف، شكل آخر ترجع أقدم قصيدة وصلتنا منه إلى أواخر العصر الموحدي، وهو ينظم باللغة العربية العامية، أي التي يتكلم بها عامة الناس، بلغ أوج ازدهاره في هذه المرحلة، ألا وهو الملحون. وقد عني به الملوكُ أنفسُهم، مثل السلطان محمد بن عبد الرحمان)34(. ومن نماذجه قصيدة للفقيه المفضل أفيلال يستهلها بقوله (35)
صبروا لْحكام ربنـــــا | |
يفقـــــر ويغنـــــــي | |
كل يــوم في شــــان | |
مُولَــــيْ الملك حكيـــــم |
إلى جانب ما سلف تحضر التخميسات، كتنويع شكلي في التعبير الشعري، برع فيه الشعراء. نجتزئ بمطلع لتخميس طويل، في مدح الرسول صلى الله عليه و سلم، وهو لإدريس بن محمد العمراوي، يقول فيه:
غوث الورى إذا دهى معضل خير الأنام المصطفى المفضل
فالفضل منه، وبه موصــل ما أرسل الرحمان أو يرسـل
من رحمة تصعد أو تنزل
وهكذا، يبدو أن لا جديد يذكر على مستوى شكل القصيدة. فالشعراء التزموا النموذج الشكلي القديم وإن زاغوا عنه، فإلى تشكيلات شعرية قديمة ومتفرعة عنه.
– نحو نظرة تقييمية للمُنجز الشعري خلال المرحلة:
تتراوح مواقف الدارسين للشعر المغربي، خلال المرحلة بين فريقين: يرى أولهما (36) أنه شعر ضعيف، يدور في إطار ذاتي خاص، من غزل ووصف لمناظر الطبيعة وسجال ومدح للرسول، صلى الله عليه وسلم. وإن تعداه، فإلى الإخوانيات والمولديات. وهذا الشعر محاكاة، غير جيدة في الغالب، لنماذج الشعراء المتقدمين المشارقة والمغاربة. وهو إلى ذلك يصطبغ بالصبغة الدينية، ولا يخلو من أمارات الصنعة. لذلك لا يتورع هذا الفريق عن وسم المدرسة الشعرية المغربية قبل الحماية (1912) عموما بالاتباعية الكلاسيكية. وهي مدرسة ترسمت النمط الشعري العربي القديم شكلا ومضمونا. وبالرغم من غزارة إنتاجها، والذي يعود إلى اعتبار أبناء ذلك الجيل، أن الشعر هو الدليل العملي على صحة دعوى الأدب، فمن لم يمارسه كان مزجى البضاعة الأدبية، وربما كان مشكوكا في أدبه بالجملة، لذلك وجدنا من بين الشعراء فقهاء ووزراء و قضاة وغيرهم.
ولن تظهر إرهاصات التجديد إلا بعد 1912م، حيث تفاعل الشعراء مع عوامل اليقظة الوطنية، وحاولوا تطوير أدواتهم التعبيرية.
وفي مقابل الفريق الأول، يقف فريق آخر(37) يذهب إلى أن النقد النزيه والصحيح يقتضي دراسة شعر المرحلة دون التعالي على محيطها الاجتماعي والتاريخي. فالشعراء لا يكادون يتجاوزون الموضوعات أوالأغراض القديمة الموروثة، إلا ما كان عَرَضًا غيرَ مقصود، وهم في ذلك لا يلامون اللهم إن كان يُلام الأدباء أمثالهم، في بقية الأقطار، والذين كانوا يعيشون في مثل وسطهم وبيئتهم قبل أن يطلع هذا العصر الحديث بعلومه الجديدة وعجائبه المدهشة التي تستفز النفوس وتوقظ جذوة الشعور. ويمضي هذا الفريق في نفس الخط جاعلا من أولئك الشعراء ممثلين لطبقة الأدباء الكبار، الذين يمثلون أدب الماضي، بطلاوته وجناساته وأمداحه و تغزلاته.
وبين هذا الموقف وذاك، نعثر على موقف ثالث رصين لمحمد بن تاويت (38)، وهو موقف يربأ بنفسه عن التعميم، ويتناول مدونة شعرية وافية تغطي أغلب المرحلة بالنقد التطبيقي. ويتأرجح هذا التناول بين الأحكام العامة المجملة كقوله معقبا على مرثية أبي عبد الله محمد بن إدريس: "وهي كعادة الشعراء موغلة في مبالغاتها وتجاهل معارفها... وهي أبيات كما نرى تتحكم فيها الصنعة، ويطبعها التأنق البياني العتيق، ولا غرابة في هذا وخصوصا أنه صادر عن كاتب البلاط السلطاني. "...(39)
وإلى جانب هذه الأحكام العامة، لا يخلوا الموقف الثالث، من أحكام جزئية تفصيلية، تنصرف إلى عناصر بعينها داخل القصيدة. من ذلك ملاحظاته النقدية على أبيات للعربي بن محمد السايح، ومنها: "... فهذه الأبيات على جمالها وخفة وقعها، نجد فيها هذا التكرار مع الإيطاء في الشطرتين " وكبدي منه في انفطار" وَ "من حبه ظل في انفطار"... والبيت الأخير من قبيل لغو الكلام، وخصوصا الشطر الأخير "يعنون به جؤذر القفار."(40) وفي نفس الإطار يمكن إدراج تعقيبه على قصيدة المفضل أفيلال في حرب تطوان، وقد ذكرنا أبياتا منها:"... وهذه القصيدة كغيرها تستعمل الاصطلاحات النحوية، وفي بعضها يقوي هذا الاستعمال، فكأن صاحبها لم يكن يتوفر إلا على النحو وما هو بسبيله من صرف وعروض في فنه الأدبي، الذي أنطقه بهذا الشعر... ثم إن هذا البحر المجزو) يقصد بحر المجتث(كثيرا ما يلجأ إليه الذين يجربون قدرتهم على نظم الشعر، واستعمال أساليبه القصيرة النفس...". (41)
وهذا الموقف، إلى ذلك، يُقِرُّ بقصور الإنتاج الشعري المغربي عن المشرقي في المرحلة. وهو واع بدور التأثير المشرقي)وبخاصة مدرسة البعث و الإحياء ومدرسة الديوان(في تطوير الممارسة الشعرية في مغرب ما بعد الحماية. يقول في معرض تناوله قصيدة أحمد الصبيحي السلاوي حول المدنية الحقة: " هذه القصيدة تمثل الجديد في أدبنا سواء ما ورد فيها من أفكار وما تردد فيها من ألفاظ وعبارات لم يكن لأدبنا سابق عهد بها من قبل. وكان صاحبها على اطلاع بما يروج في الشرق العربي من كتب جديدة و مجلات و صحف." (42)
علــــى سبيــــــل الختـــم
لقد تم تقييم الأدب المغربي بصفة عامة، وذاك المنتمي إلى المرحلة موضوع هاته المحاولة بخاصة، تقييما مجحفا إن من قبل الدراسات المشرقية أو من طرف دراسات ذوي القربى.(43) وظلم ذوي القربى، كما يقول الشاعر، أشد مضاضة على النفس، من وقع الحسام المهند. ويعزى هذا الشطط في التقييم، سواء أكان في اتجاه الانتقاص من الشعر المغربي، أو كان يضرب في اتجاه التضخيم من ذلكم التراث الشعري، إلى انطلاقه مما يسميه الدكتور محمد مفتاح (44) بالرؤيا المتعالية، التي تسلخ الأدب عن الزمان والمكان والإنسان.
نعود إلى ما بدأنا به، من اعتبار الظاهرة الأدبية ثلاثية الأبعاد، البعد الاجتماعي، إضافة إلى البعدين النفسي واللغوي، أحدها، إن لم يكن، أهمها. ذلك أن كل الأنساق، كما يؤكد الدكتور محمد مفتاح، قد انطلقت من نسق واحد، هو المجتمع. وعليه، فإنها ترجع إليه بعدما انطلقت منه، بما تحمله من سماته. وما ينظم تلك الأنساق، في هذه المرحلة، هو: وظيفة الجهاد والاتحاد، باعتبارها الجامع الوظيفي الأساس.(45)
نخلص إلى أن التقييم الشمولي، يقتضي الانكباب على المتون الشعرية، بعد التخلص، أو على الأقل بعد محاولة التخلص، من الرؤية الإبدالية التي تصدر عن موقف القطيعة المطلقة، وهو المفهوم الذي لا يؤخذ به إلا في العلوم الخالصة وعلى نحو نسبي، في جانبيها: الداخلي المرتبط بالنسق الشعري في كليته، إذ التحولات داخل البيت الشعري في عمقها، امتداد واستمرارية وليست، البتة، قطائع وطفرات فجائية. وكذا في جانبها الخارجي المتعلق بتفاعل الشعر المغربي مع صنوه المشرقي خاصة. فثمة دائما خيوط، وإن دقت، تجمعها وتجعل أسباب الاتصال أكتر من أسباب الانفصال.
ولابد من استحضار التعالقات داخل ذلك الشعر، وبينه وبين بقية الأصناف الثقافية الأخرى، سياسية كانت أو اقتصادية....
إن التقييم الشمولي المنشود يتجاوز مجرد مناوشة لغة الشعر أو صورته الشعرية أو إيقاعه أو غير ذلك من مكوناته، التي على أهميتها، تظل غير كافية. إنه يستلزم الانفتاح على التخصصات ذات الصلة، من علم اجتماع وأنتروبولوجيا وغيرهما، وإلا ظلت التقييمات انطباعية محدودة لا ترى أبعد من حاجبيها!
[1]