الشهادة والاستشهاد
المفهوم اللغوي
تجمع القواميس العربية على أن الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه عن ذلك، وإذا جلنا في المعاجم العربية الأخرى مثل مقاييس اللغة لابن فارس ولسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للفيروز أبادي، والصحاح في اللغة للجوهري، وجدنا تطابقا واتفاقا حول معاني ما يتفرع عن هذا الجدر اللغوي. يقال شهد يشهد شهادة أي حضر وعلم بالشيء. نقول مثلا" شهد كعب بن مالك بيعة العقبة وبايع الرسول" أي حضرها. وتتفرع عنها بقية البنى والمعاني مثل شهد بمعنى رأى كقولنا شهدت أحداث المعركة إذا رأيتها. وشهد بمعنى اعترف واستدل، نقولشهد الأستاذ للطالب بالتفوق، إذا اعترف بتفوقه وضرب به المثل. وصاحبها شاهد في صيغة اسم الفاعل وجمعه شهود وأشهاد، وهوحامل الشهادة ومؤديها لأنه شاهد لما غاب عن غيره. وشهيد إذا أريد به المبالغة والجمع شهداء. ومنه قولنا الله شهيد أي لا يغيب عن علمه شيء، أوأنه يشهد على الخلق يوم القيامة.1
واستشهد بمعنى طلب الشهادة على شيء، كقوله تعالى(واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) أوكقولنا استشهدت فلانا على حادث فشهد بالحق. واستشهد بضم الهمزة والتاء بمعنى نال الشهادة في ساح الوغى. الشهادة والاستشهاد مصدران لشهد واستشهد بالمعاني المذكورة آنفا.
المفهوم الاصطلاحي
أما في الاصطلاح، فإنها تعني الحضور، والشهود، والقتل في سبيل الله. وقد وردت كلمة الشهادة في المصطلح القرآني بمعنى القتل في سبيل الله؛ قال تعالى (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ) (البقرة/154)، وجاء في آية أخرى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ…)(التوبة/111).
وقد وردت كلمة الشهادة بمعناها الاصطلاحي في قوله تعالى( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقا ) (النساء 69 ). وقوله سبحانه( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )(الزمر 69 ). وقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ )(الحديد 19 ).
ومن هنا تستنتج أن معنى الشهيد في الاصطلاح الشرعي هومن يقتل في سبيل الله دفاعا عن دينه ونصرة للإسلام والمسلمين.
الشهيد في الإسلام
لا يختلف المسلمون في رفعة المكانة التي أعدها الله للشهداء في سبيله، الباحث في كتاب الله يجد العديد من الآيات المبينة لفضلهم مثل قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوالفَوْزُ العَظِيمُ )(التوبة 111 ). وقوله( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ )(آل عمران 169-171 ). وقوله عز وجل( وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ )(البقرة 154 ).
أما أحاديث النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم – فكثيرة أيضا تصب فيما دلت عليه الآيات الكريمة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم(القتلى ثلاثة رجال، رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدوقاتلهم حتى يقتل، ذلك الشهيد الممتحن، في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدوقاتل حتى يقتل، فتلك مصمصة مسحت ذنوبه وخطاياه، أن السيف محاء للخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب وبعضه أسفل بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدوقاتل حتى يقتل، فذلك في النار، إن السيف لا يمحوالنفاق.)
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا(ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، لما يرى من فضل للشهادة، فيتمنى أن يرجع فيقتل مرة أخرى). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال( ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات.)
واقع الجهاد والاستشهاد في العصر الحديث
لم تكن مسألة الجهاد والاستشهاد مطروحة كموضوعة على طاولة النقاش حتى وقت قريب؛ لقد كان إجماع العرب والمسلمين ملحوظا بخصوص الجهاد في سبيل تحرير الأوطان من الاستعمار الغاشم في كل بقعة من بلادهم. وعلى الرغم من أن الغرب كان دائما، ومنذ العصور الوسطى، يبدي استياءه من الجهاد فعلا وفلسفة، بوصفه شكلا من أشكال العنف والعداء ضد الآخر، إلا أن أسلافنا استطاعوا أن يقنعوه أن الأمرين منفصلان.
لكن.. ومع التغيرات التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية خاصة، والخسارة التي مني بها العالم العربي والإسلامي على الصعيدين العسكري والسياسي ، سواء في حروبه المريرة مع العدوالصهيوني، أومع الحملات الاستعمارية، ازدادت الضغوط الغربية على العرب والمسلمين بهدف التخلي عن هذا المبدأ، بالإغراءات المادية تارة، وبالتهديدات الاقتصادية تارة ثانية، وبالاختراق الثقافي تارة أخرى.
وبما أن العرب في موقع ضعف اقتصاديا وعسكريا، فإنهم وجدوا أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى إعادة النظر في كثير من المبادئ التي كانت سابقا من الثوابت. فقد أصبح الجهاد مختلطا مفهومه عند الغرب مع الإرهاب والاستشهاد مع الانتحار، والتدين مع التشدد، مما أوقعهم في حرج كبير. فمسألة الجهاد مثلا(ليست مجالاً للنقاش في أصلها؛ لأنها قضية اعتقاد، فإن يكن هناك مثبطون عن الجهاد، أولا يريدون الجهاد، أويصرفون الناس عنه، أويؤولون آيات الجهاد وأحكام الجهاد، فهذا شيء مرفوض) 2، فكيف يمكن أن يناقش على أنه متحول؟
وربما كانت القلاقل والمشاكل الداخلية التي مست كثيرا من البلاد العربية والإسلامية، والتي كان(التطرف الديني) عنوانها الأبرز بمشيئة المسلمين أوبدونها بمثابة (الفرج) لأنصار التغيير والمراجعة وتحويل الثوابت. فقد شهدت مصر واليمن والجزائر والمملكة العربية السعودية، ودول أخرى فتنا ألبست لباس الإسلام بتشجيع من الغرب الذي بدا أنه وجد الفرصة الثمينة التي يستطيع من خلالها القضاء على هذه الظاهرة المزعجة التي تسمى الجهاد.
أما أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ورغم اختلاف المحللين في نسبتها وحيثياتها واليد التي تقف وراءها، فقد أعطت الغرب المبرر القوي ليس فقط ليقول إن الجهاد إرهاب بصريح اللفظ، بل لينتقل من الاتهام إلى الاعتداء على العرب والمسلمين بحكم أن بلادهم تفرخ الإرهاب وتنقله إلى بلاده. وهذا ما حدث في العراق وأفغانستان ولبنان وأخيرا في غزة بشكل واضح.
وهكذا تأزم الوضع بين فريقين في عالمنا العربي والإسلامي فريق يرى أن الجهاد مبدأ إسلامي يجب أن لا يشوه أويلغى، وأنه السلاح الموجه إلى كل الطغاة والكفرة أينما كانوا، وعلى المسلمين أن يصمدوا ويتمسكوا بمبادئهم أمام عواصف التغيير القادمة من كل مكان، وفريق يرى أنه شيء من الماضي انتهى بانتهاء الحروب (الدينية) التي شهدتها القرون الماضية. بل إنهم يذهبون إلى وصفه بالبربرية والدموية والظلامية، وما شئت من الأوصاف الغريبة الأخرى، كما يصفون الشهادة بالانتحار، فصاحبها انتحاري.
ولوأن الأمر انحصر في الجدل الفكري لكان أهون، لكنه تعدى إلى انعكاسات سلبية على الحياة العامة. فقد أجاز فريق من المتشددين لأنفسهم محاربة المجتمع وقتل الناس الأبرياء تحت مبدأ الجهاد، كما أجاز فريق آخر لنفسه هدم أسس الدين جملة، والانغماس في الحياة المادية خاصة الغربية منها تحت شعار(التحضر) أو(العولمة ) ، أو( العالم الحر)، وما إليها من التسميات.
وأمام وضع كهذا، كان لا بد لفريق ثالث أن يسعى جاهدا لإنقاذ الفريقين وتعقيلهما، والعودة بهما إلى الاعتدال المطلوب. وهي الجهود التي حمل لواءها الدعاة المخلصون، والعلماء الذين لهم باع طويل في مقارعة الباطل. وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر جهود الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، الذي حاول علماؤه خلق التوازن في الأمر، سواء من خلال قراءة عصرية وعميقة لما يعرف بـ (فقه الجهاد)، أومن خلال البيانات التي كانت تصحح كثيرا من المفاهيم المغلوطة عند الفريقين السابقي الذكر.
وخلاصة القول أنه لا يمكن بحال أن نسمي دفاع الإنسان عن دينه ووطنه وعرضه بغير الجهاد أوالمقاومة، وعلينا أن نحترمه في هذه الحال حتى وإن لم يكن مسلما. كما لا يمكن أن نسمي قتل الناس المسالمين واستباحة أموالهم وأعراضهم جهادا أوالموت على ذلك استشهادا، حتى وإن كان صاحبه يدعي الفقه والعلم الشرعيين. فـ(الإسلام - على خلاف ما يتصوَّره أويصوِّره بعض الناس - يرغَب في السلام، ويحرص عليه، ويدعوإليه، ويعتبره هدفا أصيلا لدعوته، كما يتجلَّى ذلك في تعاليمه وأحكامه وآدابه.)3 لكنه لا يرضى أن يتقاعس الناس عن الدفاع عن حقوقهم، ورد العدوان عن ديارهم وأبنائهم، وهوالمنطق التي تعترف به جميع الشرائع السماوية منها والأرضية قديما وحديثا. ففي غزة لا يمكن أن نسمي مقاومة الغزيين للغزاة الصهاينة بغير الجهاد؟ ولا يمكن أن نسمي قتلاهم في سبيل وطنهم بغير الشهداء؟
وفي الجزائر أيضا، يمكننا أن نرى الفرق واضحا بين جيل جسد الجهاد في سبيل الله والوطن، فحرر البلاد وعتق العباد في الثورة التحريرية المباركة، وبين جيل انتهج العنف والقتل على مدى سنين طويلة تحت عنوان الجهاد، وليس من ضحاياه إلا أناس مسلمون أومسالمون والجميع من جلدة واحدة واعتقاد واحد وانتماء واحد. فكيف يمكن أن نسمي قتل جندي أودركي يسهر على أمن المواطن ، أومسافر في حافلة يقصد غرضا من أغراضه جهادا؟ إن العقل قبل العلم قادر على أن يدرك الفرق الشاسع بين الحالين.
[1]