الأربعاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٣

الفن الجزائري الحديث محاولة للابداع

عدنان عضيمة ـ عن مجلة التشكيلي

لو اعتبرنا الفن التشكيلي أدبا تكتب فيه مئات الصفحات في لوحة واحدة، أداته الفرشاة، ومادته الألوان والأصباغ، تنبثق أبعاده ومدلولاته من واقع الشعب وتاريخه وانتمائه وأحلامه، لقلنـا إن الفنـانين التشكيليين الجزائريين برعوا في هذا الأدب وسجلوا فيه مئات الصفحات الخالدة التي انتزعت إعجـاب خبراء الفن الغربيين.

قـال أحـد النقاد الغـربيين وهو يصف الفن الجزائري: "إن رسامي الشرق كـانوا من بين أفضل أولئك الـذين تمكنـوا من تحويل أنـاملهم إلى عدسات!". ولقـد أقـامت في الجزائر خلال القرن التاسع عشر نخبة من كبار المستشرقين والرسامين الغـربيين الـذين انبهـروا بثراء البيئـة الاجتماعيـة الإسلامية، وترك العديد منهم لوحات وأعمالا ناطقة تعبر عن انجذابهم إلى سحر هـذه البيئة وعمقهـا وأصالتها وثرائها بالتراث المتميز، وكان من أبرز هؤلاء "دولاكروا" و"فرومنتين" و "سكاسريو" و "إيتيان ديني" وغيرهم من الذين أضافوا لمعروضات المتحف الوطني للفنون الجميلة أعمالا رائعة. ولقد بلغ تأثر بعضهم بهذه البيئـة
حد التمسك بالإقامة الدائمة في الجزائر لتدريس الطريقة الغـربية في التعبير الانطباعي في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بالعاصمة الجزائرية. ولقـد ذهب الرسام الفرنسي الشهير "إيتيان ديني" في تأثره بهذا التراث إلى حد إشهار إسلامه عام 1913 وسمى نفسـه "نـاصر الـدين"، ومـات عقب أدائه لفريضة الحج عام 1929 ودفن في مدينـة بوسعادة الجزائرية بعد أن أقام عدة معارض فنية في الجزائر وبـاريس أبرز من خـلالها عمق التراث الإسـلامي وأبعاده الحضارية والإنسانية.

ولعل السمة الأساسية في الفن الجزائري الحديث، التي تبرز جليا في معظم الأعمال المعروضة في المتاحف وبيوتات الفن - إن لم نقل فيها جميعا - تكمن في أنه عبّ بعمق من منابع الفن الإسلامي الأصيل الذي كتب له أن يتطور على نحو مثير للإعجـاب في دول المغرب الإسلامي كافة. وكانت فنون كتابة آيات القرآن الكريم بالخط العربي، المصبوبة في أطر من الزخارف الهندسية المتشابكة، إلى جـانب تصـوير المساجد والجوامع والأحياء الشعبيـة، تمثل المادة الرئيسـة التي تنـاولها الفنانون ببراعة وثـراء. ويمكن أن ينسب للفنانين الجزائريين فضل المساهمة البناءة في تطوير شكل الحرف العربي وأبعاد الهندسة الزخرفية بشكل مستمر خلال فترة متميزة دفعتهم فيها وطنيتهم إلى الإبداع أثناء سعيهم الدءوب للتعبير عن انتمائهم وهويتهم.

الفن الانطباعي في الجزائر

وكانت محصلـة هذه الجهود قد تمثلت ببروز فنانين مشاهير ذوي مدارس متميزة أثروا الحركة الفنيـة الجزائرية بمجموعات مهمة من التحف التشكيلية التراثية. وقـد تكـون أبـرز سمات الفن الانطبـاعي في التشكيل الجزائري هي تلك التي يتضح فيها الارتباط الوثيق والتناسق البنائي بين فن كتابة الخط وأبعاد الزخرفة الهندسية. ولعل من الخطأ التصور إن المدارس التشكيلية الجزائرية هي امتداد لنظيراتها المشرقية العربية أو الإسلامية، لأن المشاهد المتمعن في نتاجاتها سرعان ما يقع على تميزها الذي فـرضته ظروف المنطقة وإيحاءاتها ومدلولاتها. وعلى الرغم من التركيـز على الجانب الانتمائي في الفن التشكيلي الجزائري فإن الفنانين لم يكـونوا متحجـرين وصادين عن التأثر بالمدارس الفنيـة الغربية وأساليبها في التعبير الانطباعي. ولقد سعى العديد منهم إلى توظيف هذا التزاوج بين المدرستين لتجـديد الدم الذي كـان يجري بحيوية في عروق الحركة الفنية الجزائرية..

ضمن هـذه البيئة من التمسك بالأصل والتراث، والانفتاح المقنن على الغرب ترعـرع العديد من الفنانين التشكيليين الجزائريين الذين سنتعـرض لسير وأعمال أهمهم.

ولد محمد راسم في العاصمة الجزائرية عام 1896. وهو ينحدر من أسرة عريقة في ضروب الفن التشكيلي سعت إلى إبراز التراث التقليدي والانتماء الإسلامي للشعب الجزائري. ويعـد راسم من رواد المدرسـة التقليدية حيث اهتم برسم المناظر الطبيعية والأحياء والزوايا الشعبية بالزيت، كما برع في فنون النمنمة والزخرفة، برزت قدراته الإبداعية أثناء عمله أستاذا في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في مدينة الجزائر، وفاز بـالجائزة الجزائريـة الكبرى في الفن التشكيلي عـام 1933، كما أحرز ميدالية الفنانين المستشرقين التي كانت تمنحها رابطة الفنانين الغربيين المقيمين في الجزائر لكبار الفنانين. وبلغ صيته أقـاصي أوربا حيث منح العضوية الشرفية لجمعية الفنانين الملكيـة في إنجلترا. وأقام العديد من المعارض الشخصية في لندن وباريس وفيينا والقاهرة واستوكهولم وكوبنهاغن وأوسلو وتونس

وفرصوفيا وبيروت وبغداد والجزائر. وتوجد العديد من أعماله الزيتية ومنمنماته في المتحف الوطني للفنون الجميلة في مدينة الجزائر وكمقتنيات في العديد من المتاحف وصالات العرض عبر العالم. وفي عام 1960 كثر كتـابا بعنـوان "الحيـاة الإسلاميـة في الماضي"، كما نشر عام 1971 كتابا مفصلا حول سيرته وفنه بعنوان "محمد راسم الجزائري".

محمد تمام

فنان فـذ، متعـدد المواهب، ذائع الصيت، احترف الفن التشكيلي بمختلف منـاحيه وضروبه، فبرع في التصويـر بالزيت وبالزخرفة العربية الإسلامية وفن المنمنمات وتأثر أيما تأثـر بـالفن الموسيقي الأندلسي، واهتم بتاريخيه، والكتابة عن رواده، وكان يجيد العزف على العود والقيثار..

ولد محمد تمام في الثالث والعشرين من شهر فبراير من عام 1915 في حي القصبة العتيـد بالعاصمة الجزائرية. وظهر ميله للإبداع في الفن التشكيلي منذ صغره بسبب نشـوئه في وسط فني، فكـان صـديقا ملازما للفنانين والحرفيين البارعين الذين دأبوا على تخليد التراث الإسـلامي من أمثال الأخـوين عمر ومحمد راسم والفنان التركي البارع دلاشي عبدالرحمن ومصطفى بن دباغ. واتصل بـرواد الحركـة الفنيـة الاستشراقيـة الأوائل وعلى رأسهم "لادولاكـروا" و"فرمنتان" و "رينوار" و "إيتيان ديني" والمؤرخ "جورج مارسيه" و"سوبيرو" و"لانغلوا"، كما استقى الكثير من الخبرة في فن الرسم وتدبيج الألوان خلال فترة انتسابه إلى "مدرسة الفنون الزخرفية والمنمنمات الإسلامية" التي أسسها عمر راسم وكـانت تحمل مشعل إحياء التراث الجزائري الإسلامي والتصدي للأهداف الاستعمارية الكامنة في حركة الاستشراق. وكان محمد تمام يجمع في شخصيته بين اتجاهين متناقضين ظاهريا، حيث كان شـديـد التمسك بـالتراث العـربي الإسلامي، وفي الوقت نفسه كان دائم التوثب للاطلاع والانفتاح على إبداعات الحضارة الغربية..

تعلم تمام القواعد الأولى لفن الزخرفة والنمنمة على يـدي معلمه الأول عمر راسم في بداية عام 1931، واتصل بالعـديد من الفنـانين الجزائريين الملتزمين فشجعوه على الانتساب إلى مدرسـة الفنون الجميلة فتفوق فيها حتى خصـه الحاكـم العام الفرنسي لمدينـة الجزائر بمنحة خـولته الانتساب إلى المدرسة العليا للفنون الزخرفية في باريس عام 1936. ولقد تمكن في فترة دراسته من الاتصال والاحتكـاك برواد المدارس الفنية الحديثة في أوربا. وعاد تمام إلى الجزائر بعد قضاء 27 عاما في فرنسا ليبدأ فترة العطاء الغزير والإنتاج الرفيع من الأعمال الفنية التي تشهد الآن على براعتـه الفائقة وأصالته الراسخة وإحساساته المرهفـة العميقة. ويبـدو ميل محمد تمام للمدرسة الانطباعية من خـلال أعمالـه الأولى التي صور فيها بالزيت مناظر طبيعية ومواضيع اجتماعية. وسرعان ما استحوذ فن الزخرفة الإسلامية على الكثير من اهتماماته، حيث رسم زخـارف فـائقـة الجـمال لصفحـات القـرآن الكـريم بالإضـافة لمواضيع أخرى ذات طابع ديني وتراثي..

عمل محمـد تمام أستـاذا في الزخرفة والمنمنمات في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة، وساهم في تأسيس الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية عام 1967. وشارك في العديد من المعارض الفنية، الشخصيـة والجماعية، في العديد من دول العالم.

مصطفى بن دباغ

يعـد مصطفى بن دباغ أحـد رواد الفن التشكيلي الجزائري. ولد في الخامس من شهـر سبتمبر من عام 1906 في حي القصبـة الـذي خـرج العـديـد من الشخصيات الوطنية والفنية، وهـو ينتمي لعائلة عرف عنها الضلوع في الحرف ذات الطابع الفني، فكان أبوه مساحا، وجده لأمه عالما في الفلك والرياضيات عرف باسم "أحمر خدو". برع ابن دباغ في فنون الزخرفة منذ صغـره، حيث تتلمـذ على الفنـان التركي دلاشي عبدالرحمن ودرس فن صناعة الخزف في مدرسة الفنون الجميلـة على الأستـاذين "سـوبيرو" و"لانغلـوا" المتخصصين في فن الزخرفة الفارسية. واهتم بعد ذلك بالغوص في فضاءات فن الزخرفة الإسلامية وقرأ حولها العديد من الدراسات المنشورة للمؤرخين والفنانين المستشرقين من أمثال "ميجون" و "بـايو" و"ريكـار" و "مارسي". وتلازم ظهور نبوغه في فن الزخرفة مع تصاعد شعوره الوطني وميله للدفاع عن أصالـة الشعب الجزائري العربي المسلم والتصـدي لحملات التشـويه والتشكيك التي كـانت تقودها السلطات الاستعمارية الفرنسية ترسيخا لاستراتيجيـة ضم الجزائر إلى فـرنسا، فأسس "جمعيـة شمال إفريقيا للفنون الزخرفية" التي كانـت مقرا للنضال الـوطني إلى جـانب العمل الفني، فبادرت السلطات الفرنسية إلى تبـديل اسمهـا إلى "جمعيـة الحرفيين المسلمين الجزائريين".

وفـازت هذه الجمعية الجديدة بتأييد كبار الشخصيات الوطنية الجزائرية لما كان لها من أبعاد نضالية فأغدقوا عليها العطايا والهبات حتى بلغت من النجاح أكثر مما كان ينتظر مؤسسوها. وبـرزت أعمال ابن دباغ الزخرفية المتميزة من خلال المعارض التي أقامتها الجمعية، ففضلت السلطـات الفرنسية الاستفادة من خبراته وعينته أستاذا في مدرسة الفنون الجميلة، ليصبح أول جزائري يرتقي إلى هذه المرتبة.. ولا بد أن نشير، في آخر هذا العرض الموجز، إلى أن رواد الحركـة التشكيلية الجزائريـة الحديثة أكثر من أن يتسع هذا المقام لذكر سيرهم وأعمالهم ومآثرهم، فهم بدون شك، يستهلون الكثـير من البحث للتعريف بأعمالهم المتميـزة التي بهرت خبراء المدارس الفنيـة الغربية. وقـد يكـون لي، أو لغيري، حظ الحديث، في عجالة أخرى، عن المآثر الفنية لمحمد إسياخم، ومحمد غانم، وصمصـوم إسماعيل، ومحمـد خـدة، وعلي خـوجة، وبشير يلس، وقرماز عبدالقادر، وفارس بوخاتم، والفنانة باية، وأزواو معمري، وغيرهم.

عدنان عضيمة ـ عن مجلة التشكيلي

اللوحات هنا من أرشيف مرسم ( عش الحمامة ) للفنان الليبي : فتحي العريبي – بنغازي


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى