الأحد ٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢

الكسّارة

منصور محمّد أبوصفيّة

الكسّارة موحشة ليلًا، حفرة واسعة عميقة في خاصرة الجبل تربض في بطنها آلات ضخمة منهكة، هياكلها الحديديّة شاحبة، يخيّل إليّ سماع أنينها الموجع بعد يوم شاقّ من الهدير تحت دثار من الغبار المتطاير، فأشفق عليها من عتوّ ذلك الجبل الذي أضنى مفاصلها وهي تداوره من الفجر حتى حلول الظلام فتبدو عند أول الليل حشرات نافقة خامدة عند قدميه، سكون مريب يشقّه رشقات من نباح كلاب ضالّة تذرع المكان باحثة عن أيّ مخلفات تسدّ رمقها.

عندما تشرق الشمس ثانية مغالبة ضباب الكسّارة المتطاير كالدقيق الأبيض ويبدأ الهدير من جديد وتنفث مداخن الآلات أدخنتها السوداء أعمدة تتفشى في السّماء، أشفق على الجبل الذي نهشته تلك الآلات المتوحشة دون رحمة، فأحدثت فيه ثلمًا عظيمًا حتى بدا كمُسنٍ ضخم بقرت بطنه نواهش كاسرة.

بعد الشروق تنتهي نوبة حراستي الليليّة، قبل أن أغادر أعدّ الشاي لمن حضر مبكرًا من العاملين والسائقين، فيتحلقون قرب كوخ الحراسة يرتشفون الشاي ويتبادلون الأحاديث الصباحيّة الكَسْلى.. يستذكرون زملاءهم الذين قضوا جرّاء الظروف الصحية السيئة لهذا العمل أو غادروا بعلل تمزّق صدورهم...عندما يصرخ فيهم مسؤول الكسّارة (جابر الهماميّ) مشيرًا إليهم أن يتحركوا يتركون كؤوس الشاي التي لم يكملوا شربها ويتلثمون بشمغهم ويعتمرون خوذهم الملونة ويتظاهرون بالسرعة نحو مواقع عملهم.

آلات الحفر تنتزع الجلاميد الضخمة من جسد الجبل المغبر ثمّ تحطمها الآلات المتوحشة إلى حجارة صغيرة تبتلعها الآلة الضخمة التي طالما تخيلتها ليلا دينصورًا حديديًا قادمًا من أدغال التاريخ، ثم ثنثرها على حزام عريض متحرك يسحبها إلى أعلى فيغربلها إلى حصى صغيرة و رمال مختلفة الكثافة ثم تُذرّى من علٍ فيلفّ الغبار المكان بغيمة بيضاء خانقة ينشرها الهواء في كلّ الأرجاء.

أراقب أوّل القلّابات التي حُمّلت بالرمل لأغادر برفقته، فيوصلني إلى الطريق الرئيس الذي يبعد ما يزيد على سبعة كيلومترات عن الكسّارة فاستقلّ حافلة من هناك إلى بيتنا المستأجر في حيّ شعبيّ على طرف المدينة المواجه للكسّارة.

منذ أربع سنوات التجأت أسرتنا مجبرةً إلى هذا الحيّ و تغيّر مسار حياتي نحو العمل في هذه الكسّارة حارسًا ليليًا بأجر زهيد بعد أن كنت في سنتي الجامعيّة الثالثة، في تلك الليلة العصيبة كنت أجلس في غرفتي بعد الغروب مع صديق الطفولة والدراسة (سالم) عندما عاد والدي تاركًا دكانه القريب من منزلنا الواسع على غير العادة، فتح باب غرفتي في عجلة وارتباك ولمّا رأى سالمًا زاد اضطرابه وناداني وهمس لي: "أطلب منه أن يغادر فورًا، لدينا ما يشغلنا"، شعر سالم بالأمر فأسرع بالخروج، كان والدي قد ألقى أوامره إلى أمي و إخوتي بأن يأخذوا الأوراق الثبوتية و بعض المقتنيات الثمينة ويخرجوا على عجل، تحت إلحاح أبي واضطرابه و صراخه المستمر تكوّمنا في دقائق في سيارتنا القديمة، قادها والدي بجنون زائغ العينين متلفتًا يمنة ويسرة تاركًا خلفه مدينتنا التي نشأنا فيها تحت جنح الظّلام، فهمنا منه في ظلّ هذا الارتباك الشديد أنّ ابن عمّ والدي (جاسر) قد قتل عمّ سالم وأنّ الأعراف تقتضي أن نهجر المكان الآن تجنبا لردة فعل عشيرته.

لقد كان أبي يومها محقًا، فبعد مغادرتنا بوقت قصير أقدموا على حرق بيتنا ودكان أبي وبيوت أقاربي.. جاسر شقيّ عاقّ لا يكاد يخرج والده من مشكلة سببها له حتى يدخله في أخرى.. لم أره إلا مرات قليلة في حياتي كلّها فقد كان منبوذا منّا جميعا لسوء سلوكه، وأقسم إنّ سالمًا صديقي ورفيق دربي أقرب إليّ منه مئات المرات.. لكنّ سالمًا الآن خصمنا وابتعدت بيننا الشقّة.. يالله، كيف أطيق الحياة دونك يا سالم؟

هِمنا أيامًا على وجوهنا و من تلك اللحظة المشؤمة انقلبت حياتنا رأسًا على عقب، هجرنا بيوتنا وسكننا الخوف واستوطن نفوسنا القلق واستقرّ بنا المطاف في هذا البيت البائس، فقد بعنا كلّ ما نملك على أمل أن تنتهي المأساة، لكنّها استمرت وتعمقت مع الأيام. مات أبي منذ سنتين ربّما كمدًا مما آلت إليه حالنا، وأمي صارت تبدو أكبر من عمرها بعشرين سنة، غابت بسمتها ولم تعد تأنس بجارتها كما كانت من قبل.

أمّا أنا فقد تبخرت أحلامي ودفنت طموحاتي تحت غبار الكسّارة التي أويت لكوخ حراستها تحت سطوة المأساة.

منصور محمّد أبوصفيّة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى