الأحد ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم علي القاسمي

اللغز!

أربعون عامًا مرَّت على الحادثة التي سأرويها، ولم أستطِع نسيانها، ولم أتمكّن من حلِّ اللغز الذي حيّرني طوال عمري. بين آونةٍ وأخرى، تطرُق ذاكرتي في وحدتي، تحاصرني في الأماكن الموحشة، تقضّ فراشي عندما آوي إليه وحيدًا. أظلّ أقلّب الأمر على جميع وجوهه، علّي أجد تفسيرًا مقبولاً لما وقع.

كنتُ في أوائل العشرينيّات من عمري، أدرس في الجامعة الأمريكيّة في بيروت. اكتساب العلم همّي ومطلبي. وكنتُ متفائلاً، كبقيّة أبناء جيلي في الجامعة، يملأ أعطافَنا الأملُ في أننا سنستنزل من أعالي السماء عنقاءَ الوحدة العربيّة في القريب العاجل، وهي تحمل على جناحيها التنمية والديمقراطيّة والرفاهيّة، ونحرِّر فلسطين السليبة. وكانت أزهار بيروت، أواسط الستينيّات، في عمرها الذهبيّ، لم تُقطف بعد، وهي على أغصانها الميّاسة، تعبق بالشذى والحبِّ والفنّ والحرِّيّة.
ذات يوم، قرأتُ إعلانًا في لوحة إعلانات الجامعة عن منحةٍ دراسيّةٍ تقدِّمها جامعة أوسلو في النرويج لواحدٍ من الطلاب العرب، للمشاركة في دورةٍ صيفيّةٍ مُدَّتها ستة أسابيع. بعثتُ بترشيحي، وكانت مفاجأةً سارّةً لي عندما حطّت في صندوق بريدي الصغير رسالةُ القبول. ومع أنَّ امتحانات آخر العام كانت على أبواب المدرّجات، فقد أخذتُ أضع الخطط لهذه الرحلة، مستعجلاً حلولََ العطلة الصيفيّة؛ فالأماكن الجديدة تمارس سحرًا عليَّ منذ أن أهداني أخي الكبير وأنا في المدرسة الابتدائيّة أطلسًا ملوّنًا. كانت النرويج بالذات تثير حبَّ الاستطلاع لديّ لأنّها في أقصى الشمال.

كنتُ أتخيّل بردَها الذي يتجمّد معه شعرُ الرأس، وجبالها المكلَّلة بالثلوج التي لا تذوب، والخضرةَ التي لا تذبل، والشمسَ التي لا تغيب في عزّ الصيف؛ وأتصوّر أهلها الفايكنغ طوالَ القامة، شقرَ الوجوه، زرقَ العيون، كثَّ الشعر، وهم يحملون فؤوسَهم في أيديهم، ويركبون سفنهم العملاقة لغزو البحار. لعلَّ هذه الصورة التي هيمنتْ على مخيّلتي هي نتيجةٌ للقصة التي رواها لي أبي عن سفير عربيّ اسمه ابنُ فضلان ابتعثه الخليفة المقتدر العباسيّ إلى ملك الصقالبة قبل حوالي ألف عام، فاختطفه رجالُ الفايكنغ بالقرب من نهر الدانوب وظلّ أسيرًا لديهم أربع سنين كاملة، ثم استطاع أن يفلت منهم ويعود إلى بغداد ويقدّم تقريره إلى الخليفة العباسيّ عن أسباب تأخّره.

أسرعتُ إلى السفارة النرويجيّة في بيروت للحصول على تأشيرة الدخول. وعندما ولجتُ مكتب القنصل، ألفيتُ شابةً طويلة القوام، ذات وجهٍ جميلٍ صبوحٍ بشوش، رحَّبتْ بي كثيرًا بلغتها الدبلوماسيّة الأنيقة، فأشعرتني بالمودّة، وختمتْ جواز سفري، وأهدتْ لي كُتُبًا وأدلّةً عن النرويج. اغتنمتُ رحابة صدرها لأسألها عن أرخص الطرق للسفر إلى النرويج، فاقترحتْ أن أسافر بالطائرة إلى اسطنبول ثم أستقلّ قطار الشرق إلى أقرب مدينة ألمانيّة، ميونيخ، وهناك أشتري سيّارةً أواصل السفر بها إلى أوسلو، وأعود إلى بيروت وأبيعها بربح أو أحتفظ بها إنْ شئتُ. وأضافت أنّ الربح الحقيقيّ يكمن في "الخبرة والمتعة اللتين تجنيهما من التجوُّل بسيّارة في أوربا." قلتُ في نفسي إنَّهم يستخدمون دماغهم في التفكير والتدبير، وأخذتُ بنصيحتها.

هبطتُ من الطائرة في مطار إسطنبول، وتوجّهت حالاً إلى محطة القطار. وعندما جلستُ في إحدى مقصورات القطار العريق الأنيق الذي أدمن الترحال منذ سنة 1883، جال في خاطري جميعُ الأدباء الذين أنتجوا بعضَ أدبهم في هذا القطار: غرام غرين الذي أبدع رواية عنوانها قطار الشرق السريع، والشاعر الفرنسيّ أپولينير الذي نظم بعض قصائده فيه. وبعد أن تحرّك القطار وراح يدخل في بعض الأنفاق الطويلة المظلمة المخيفة، خطرتْ ببالي رواية أغاثا كريستي البوليسيّة، جريمة قتل في قطار الشرق السريع، وداخلني شيء من التوجُّس حتى إنني، عندما أطلَّ على مقصورتي رجلٌ له وجهٌ ثعلبيّ وشاربان معقوفان إلى الأعلى ونظراتٌ زائغة، ظننتُه مسيو بوارو، مفتش البوليس السرّيّ، يبحث عن القاتل بيننا. وبعد وقتٍ قصير، غلب النعاس جفوني، وعندما أفقتُ بدأتْ قصتي.

فتحتُ عينَيّ فوقع نظري على وجه فتاةٍ تجلس أمامي، لم تكن في المقصورة حين دخلتها. وجه بهرني وأسكرني، اجتمع فيه الحسنُ كلُّه: عينان نرجسيّتان، خدّان ورديّان، شفتان زَنبقيّتان؛ سلّة زهور ربيعيّة تتوِّج غصنًا أهيف، يميل نحوي، فتنبعث الفرحة عارمةً في القلب والوجدان. وفي الوقت الذي كنتُ أفتح فيه عينيّ، انفرجتْ شفتاها المكتنزتان عن ابتسامةٍ حلوةٍ متناغمة مع تفتُّح عينَيّ، كما لو كانت تنتظر صحوتي، كما لو كنا نعرف بعضنا منذ الأزل وقد التقينا الآن بعد فراق طويل، كما لو كانت روحانا روحًا واحدة قبل أن تنفتّق السماء وتولدَ الكواكب وتبزغَ النجوم.

كان لقاءُ عينينا مثيرًا. لم يكن مثل لقاء قطارََين قادمين من اتجاهَين مختلفين، وإنَّما لقاءَ بحيرتَين في وادٍ واحد، تنساب كلُّ منهما في أحضان الأخرى، فتغدو مياههما واحدة ذات لون واحد وطعم واحد وتموُّج واحد (مََن قال إنَّ الماء لا طعم له ولا لون؟! كلُّ شيءٍ له لونٌ ومذاقٌ ورائحة؛ تمامًا مثل لقائنا الذي كان بلون قوس قزح، ومذاق الشَّهْد بالزُّبْد، ورائحة الخُزامى).

لم أكن أؤمن بالحبِّ من النظرة الأولى. كنتُ أرى الوجوه حولي، فأستحسن بعضها؛ ولكن لم يحدث أنَّ وجهًا بعث في أوصالي رعشةً عنيفة، فاقتلعني من الأعماق، وحلَّق بي في سماوات الفرح. وكان الشعور نفسه يفيض من ملامح تلك الفتاة ويغمر كلَّ ما حولها بالنشوة والهناء. مال جسمُها اللدن الرشيق نحوي، ومال جسدي نحوها، مثلما يميل غصنان من شجرتين متقابلتين بفعل نسيم سحريّ. اقترب وجهانا، وقد تجمعتِ الكلمات على الشفاه. وتساءلتُ في نفسي مَن الذي سيتكلَّم أولاً. وبدون أن أدري سمعتني أقول بصوتٍ واهنٍ متردِّد وأنا بين النوم واليقظة:
ـ أأنا في حُلم؟

ازدادت ابتسامتها إشراقًا، وانساب صوتها الدافئ إلى قلبي وهي تجيب:
ـ أنتَ في واقع الحياة.

قلتُ:
ـ ولكنّها حياة كالحلم، جميلة كلحن قصيدة، حلوة كموسيقى موزارت.

وأضفتُ في قرارة نفسي قائلاً : أنتِ الحياة، أنتِ الدنيا.

همستْ قائلة:
ـ اسمي جسيكا، وما اسمك؟
ـ انتشيتُ بلقائكِ. اسمي نبيل.
ـ إلى أين أنتَ مسافر؟
ـ إلى أوسلو.
ـ ظننتكَ مسافرًا إلى سالزبورغ.
ـ لماذا سالزبورغ؟

قالت:
ـ لأنّ مهرجان سالزبورغ سيبدأ قريبًا، وكثيرٌ من الناس يؤمُّون المدينة، خاصّةً أولئك الذين يحبون موزارت، ابن مدينة سالزبورغ.

ثم صمتتْ وهلة، وغضّتْ من بصرها، وأضافتْ قائلةً بابتسامةٍ حييَّةٍ وبصوتٍ خفيض:
ـ ولأنني من سالزبورغ. وأتمنّى أن تأتي معي.

لم أرَ سالزبورغ ولا أيّة مدينة أوربيّة أخرى من قبل. بيدَ أنّ سالزبورغ نالت شهرة واسعة ذلك العام، بفضل فيلم غنائيّ رائع اسمه صوت الموسيقى، من بطولة جولي أندروز، جرى تصويره في سالزبورغ، فأظهر جمال المدينة وبحيرتها الخلابة المحاطة بالتلال المكسوّة بالأشجار الغافية في ظلال جبال الألب. ويدور الفيلم حول قبطان عسكريّ نمساويّ من النبلاء توفّيت زوجته المحبوبة مخلّفة له سبعة أطفال، وكان صارمًا في تربيتهم، فحرّم سماعََ الموسيقى والغناء لئلا يتذكّر زوجته الراحلة فيزداد حزنًا. وعندما استعان بمربّية شابة، لم يدرِ أنّها مولعة بالموسيقى والغناء، فعلّمت الأطفالَ أحلى الأغاني والألحان. وعندما وقع في غرامها أخذ هو نفسه يشاركهم الغناء، وقرّروا تقديم أغنية في إحدى أمسيات مهرجان سالزبورغ. وفي تلك الأثناء ضمَّ النازيون الألمان النمسا إلى ألمانيا واستدعوه إلى الجيش مرَّةً أُخرى على حين أنه معارض لهم، فقرَّر الهرب مع عائلته إلى سويسرا، وتمَّ له ذلك بعد أن أدَّوا أغنيتهم في المهرجان ليلاً.

نظرتُ في عيني جسيكا العسليتيْن، وقلتُ لها:
ـ أنا ذاهب إلى النرويج للدراسة في جامعة أوسلو مدة ستة أسابيع. وإذا كنت ترغبين في مجيئي، فإنني سأعود إلى سالزبورغ بعد ذلك. هل يمكنك الانتظار؟

قالت بنبرة جازمة:
ـ سأنتظرك حتى ستّ سنوات، سأنتظرك العمر كلَّه.

لم أقُل شيئًا؛ فقد أوصاني أبي قائلاً: إذا كنتَ في غاية الرضا والسرور، أو في منتهى الغضب والسخط، فلا تتكلَّم، لأنّ الكلام أحيانًا يضرّ أكثر مما ينفع. لم أصدِّق أنَّني عثرتُ على السعادة الكاملة بهذه البساطة. أغمضتُ عينَيّ وهلة ثمَّ فتحتُهما لأتأكَّد أنَّني في كامل وعيي، فألفيتُها واقفةً تحمل حقيبةً صغيرة بيدها اليسرى. نهضتُ واقفًا بدوري، وجهي الدهشة وعيناي التساؤل. قالت:
ـ يقترب القطار من سالزبورغ. اكتب لي عنوانك .

وناولتني دفترًا صغيرًا أخرجتْه من حقيبتها. عدتُ إلى مقعدي لأكتب العنوان على نضد المقصورة. وقفتُ لأعطيها الدفتر، فإذا بها تلقي الحقيبة من يدها وبحركةٍ مفاجئة تطوّقني بذراعيها وتضع رأسها على كتفي دون أن تنطق بحرف، ثمَّ تستدير إلى الخلف وتغادر المقصورة مسرعةً.

توقّفَ القطار. فتحتُ النافذة. مددتُ عنقي عبرها. وجدتها واقفة على الرصيف. رأتني. لوّحتْ بيدها إليّ. الدموع تنهمر من عينيْها العسليتيْن، وابتسامتها لم تفارق شفتيْها. كانت الدموع تترقرق في عينَيّ، أنا الآخر. وما إنْ تحرّك القطار وغابت عن ناظري حتى طلعتْ متوهّجةً في فؤادي. شعرتُ بندمٍ شديدٍ يجتاح أعماقي. لِمَ لَمْ أغادر القطار وأنزل معها في محطة الجمال والحبّ والفرح؟ ألم أفوّتُ فرصةً فريدةً قد لا تتكرّر؟ كان والدي كثيرًا ما يقول لي: "يكمن الفرق بين الرجال في تمكُّن بعضهم من التفكير بسرعة واتخاذ الموقف المناسب، وهذا ما يسمونه بسرعة البديهة، وما الرجل إلا موقف." لقد كان لديّ الوقت الكافي لأفكِّر بعد أن دعتني جيسكا لمرافقتها إلى سالزبورغ، ولكنّ عقلي تجمَّد ولم اتّخذ القرار. هل تغلّبَ حبّي للمعرفة على حبّي لجيسكا؟ أليس الحب أساس المعرفة؟ أم أنّ العكس هو الصحيح؟

انتشلتني من لجّة الأفكار المتلاطمة صفّارةُ القطار وهو يغادر المحطة. أسرعتُ مهرولاً نحو باب العربة. الباب موصد. لمحتها من زجاج النافذة وهي تهرول في اتجاه باب العربة، وكأنها هي الأخرى اتخذت قرارًا في اللحظة الأخيرة أو بعد فوات الأوان. تزايدتْ سرعة القطار. طفقتُ أهرول نحو العربة الجنوبيّة الأخيرة، فإذا بابها موصد كذلك. لمحتها عبر زجاج نافذة الباب وهي تجري وراء القطار. خُيِّل إليّ أنها هي الأخرى لمحتني. بيدَ أنَّ سرعة القطار تفاقمتْ، وغابت جيسيكا عن ناظري. فعدتُ إلى مقصورتي أجرّ ساقيّ، مثقلاً بالخيبة.

من تلك اللحظة، أخذتُ استعجل الأشياء والزمن. ففي ميونيخ، مثلاً، تذمَّرتُ من بطءِ إجراءاتِ شراءِ السيّارة واستخراج الوثائق اللازمة، على الرغم من أنَّ ذلك لم يستغرق أكثر من 24 ساعة. وفي ميناء كوبنهاكن، وقفتُ أراقب العبّارة التي ستقلّني وسيّارتي إلى الأراضي النرويجيّة، فبدتْ لي ثابتةً في وسط البحر، فشكوتُ إلى رجل دنماركيّ يقف إلى جانبي بطء العبّارة. سألني إنْ كنتُ قد شاهدتُ حورية البحر في الميناء، وإلاّ فإنه ينصحني بأن أغتنم الفرصة لمشاهدتها لأنَّ ركوبنا العبّارة سيستغرق ساعة ونصف الساعة، وعليهم إفراغ حمولتها وتنظيفها قبل أن نستقلها. وأشار بيده في اتّجاه المكان الذي تستلقي فيه حوريّة البحر.

توجّهتُ إلى حوريّة البحر. بدت لي جيسيكا مستلقية على صخرة في البحر، وقد تحوّلت ساقاها الرشيقتان إلى زعانف سمكة جميلة. فمنذ أن غادرتْ جيسيكا القطار في محطة سالزبورغ، التصقتْ صورتها الحلوة في بؤبؤ العين وعلى شغاف القلب: صرتُ أرى الأشياء من خلال صورتها، وأسمع صوتها في كل ما يصل إلى مسمعي.

ما إنْ أكملتِ الكاتبة في إدارة جامعة أوسلو تسجيل اسمي، وسلمتني بعض المطبوعات عن البرنامج الصيفي ولائحة المراجع، ومفاتيح غرفتي، حتى قالت لي:
ـ هناك ثلاث رسائل تنتظرك.

خفق فؤادي. ألقيتُ نظرة عليها. لاحظتُ أن أختام البريد تحمل تاريخًا واحدًا. يا إلهي: لقد كَتبتْ هذه الرسائل في يومٍ واحد. ما أشدّ لهفتها وما أشد لهفتي!

أسرعتُ إلى غرفتي. رميتُ حقيبتي الصغيرة، ورحتُ أفضّ ظروف الرسائل الثلاثة. أخذتُ ألتهم الحروف والكلمات والعبارات. وعندما أنهيتُ قراءة الرسالة الثالثة عدتُ إلى الأولى فالثانية فالثالثة؛ وكرَّةً أُخرى راجعًا لتلاوة الأولى. في الأولى، أعلنتْ لي فرحتها الطاغية "بلقاء روحها بنصفها" الذي كانت تبحث عنه منذ أن وجِدت على هذه الأرض، واستشهدتْ بقصيدة عاطفيّة متأجّجة من ديوان آنيت لشاعر ألمانيا العظيم غوته. وفي رسالتها الثانية، حدّثتني قليلاً عن نفسها: فهي في الصباح تدرس المسرح في جامعة سالزبورغ، وبعد الظهر تعمل في مكتبة المدينة. وفي رسالتها الثالثة وصفت لي بعض المعالم الخلابة في مدينة سالزبورغ وما حولها، وكيف أعدّت لي برنامجًا حافلاً لزيارتي، التي تريدها أن تدوم أطول وقت مُمكن وأن تكون أمتع ما يُمكن.

عليَّ أن أعترف اليوم بأنني لم أتابع دراستي الصيفيّة بما تستحقّ من اهتمامٍ. كان ذهني يشرد من غرفة الدرس محلِّقًا إلى سالزبورغ التي رسمتُ لها صورة متخيَّلة في ذهني: مدينة مبنيَّة من ذهبٍ خالص، تجري في وديانها مياهٌ من عسجد، وأهلها ملائكة من نور، يطيرون في شوارعها وطرقاتها بأجنحةٍ ملوَّنة شفّافة مثل أجنحة الفراشة، ويحيّي بعضُهم بعضًا بلمس أطراف الأجنحة لمسًا طفيفًا، كما يسلِّم أعمامُنا البدو بعضهم على بعض بتلامس أرنبات الأنوف. وإذا لم يهربْ ذهني من قاعة الدرس طائرًا إلى سالزبورغ، فإنني أستلُّ قلمي لأدبّج رسالة غراميّة إلى جيسيكا أغتال بكتابتها الوقتَ.

وعليّ أن أعترف اليومَ بأنَّ حصيلتي من الدراسة هناك لم تكُن مشرّفة، ولهذا فإنني عندما أحرِّر خلاصة سيرتي العلميّة أتحرَّج من ذكر جامعة أوسلو. فترجمتي لمسرحيّة يبه الساكن على التل للودفيغ هولبرغ لم تكن، هي نفسها، بفضل المحاضرة القيّمة التي ألقاها أستاذُ الأدب الإسكندنافيّ، بل نتيجة قراءتي تلك المسرحيّة بعد عودتي إلى بغداد وإعجابي بها.
وعليّ أن أعترف بأنَّ المعرفة كانت دانية القطوف في جامعة أوسلو، وكنتُ سأجنيها بمجرَّد أن أمدّ فكري وأملأه بألذِّ المعلومات. ولكنَّني تقاعستُ؛ كنتُ مثل كسولٍ حدَّثتني عنه أُمي في صغري وهي تحثّني على الدرس: أسمتْه "تمبل،" وينتمي إلى قبيلة من الكسالى يسمَّون "التنابلة،" يمضي النهار كلَّه ممدَّدًا تحت شجرة تفّاح، وعندما يمضُّ به الجوع لا يمدُّ يده إلى التفاحات الناضجة الشهيّة التي سقطتْ من الشجرة بالقرب منه، بل ينتظر أن يمرَّ به أحدُهم ليرجوه رمزًا أن يضع إحدى تلك التفّاحات في فمه الذي لا يفتحه إلا بمقدار!

كانت رسائل جيسيكا تصلني يوميًا بمعدل رسالتين وأحيانًا ثلاث. ولم تكن الرسالة تتألَّف من صفحة واحدة فقط بل من بضع صفحات. ولم أتساءل في نفسي كيف تسنّى لها أن تكتب جميع تلك الرسائل إذا كانت تدرس صباحًا في الجامعة وتعمل مساءً في المكتبة؛ فلا بدَّ أنَّ وظيفتها في المكتبة لا تتطلَّب منها القيام بعملٍ معيَّن. وتبادرَ إلى ذهني أنها تجلس في مكتب ما في المكتبة ولا تفعل شيئًا سوى كتابة الرسائل إليّ.

استغرق الردّ على رسائلها معظم وقتي بعد مغادرة قاعة الدرس. وللدقَّة فإنَّني لم أكن منهمكًا بقراءة رسائلها فحسب بل بقراءة المطبوعات التي تبعث بها رفقة رسائلها أيضًا، ومعظمها مطبوعات سياحيّة عن تاريخ مدينة سالزبورغ ومتاحفها التي سنزورها معًا طبعًا، وحدائقها التي سنتجوَّل فيها معًا طبعًا، ومسارحها الرائعة التي سنشاهد فيها العروض معًا طبعًا، وبحيراتها الخلاّبة التي سنقف على ضفافها لمشاهدة غروب الشمس معًا طبعًا. باختصار لم تكن إقامتي في جامعة أوسلو لدراسة الأدب الإسكندنافيّ والنظام التربويّ النرويجيّ، كما كان مقرَّرًا، بل لقراءة رسائل جيسيكا وكتابة الإجابات.

لا أتذكر تمامًا كيف مرّت الأسابيع الستة التي استغرقتها الدورة الصيفية سنة 1965. كلُّ ما أتذكَّره الآن هو أنني كنتُ أواظب على حضور الدروس، ولكنّي لم أستوعب شيئًا يُذكَر منها لأنّ الفكر كان ممتلئًا بشيء آخر. أذكر مثلاً أننا كنا نتناول وجباتنا في مطعم الجامعة، وكانت بعض الطالبات النرويجيّات يعملن فيه نادلات، وراحت إحداهن توليني عناية خاصَّة، فتقترب مني أحيانًا لتشرح لي مكوِّنات بعض الأُكلات النرويجيّة، ثمَّ أخذتْ تلاطفني؛ بيدَ أَنّي لم أبادلها المودّة لأنَّ قلبي، ببساطة، طان قد نزل في محطة سالزبورغ. وأذكر أيضًا أن الطالب الذي تفوّق علينا جميعًا كان كنديًا متقاعدًا يربو عمره على الخامسة والستين. والنرويجيّة التي علّمونا شيئًا منها في مختبر اللغة فلا أتذكّر منها سوى عبارتين: فوردن ستور ده تيل؟ (كيف حالك؟)، وتك تك بور ماتن (شكرًا للطعام). وأما غير هذه النتف القليلة الباهتة من الذكريات، فأنا لا أستحضر شيئًا. ولو سألتني عن المحاضرات التي أُلقيتْ علينا أو المعارف التي اكتسبتها، فإنّ وجهي سيتحوَّل إلى علامة استفهام فارغة.

وأخيرًا حان موعد الانصراف من أوسلو. كنتُ قد أعددتُ خرائط العودة، ورتّبتُ جداول السفر بحيث أصل حديقة ميرابلا في سالزبورغ، حيث تعمل جيسيكا، حوالى الخامسة والنصف من بعد ظهر اليوم الثامن عشر من أغسطس، ولم يتبقَّ لنهاية عملها في المكتبة سوى نصف ساعة فتنصرف، وأنا بصحبتها طبعًا، لنستمتع بليل سالزبوغ.

انطلقتُ بسيارتي، ولم أحمل فيها شيئًا من أوسلو. كلُّ شيء مؤجَّل حتى سالزبورغ. كلا، وضعتُ على المقعد الخلفيّ علبة حريريّة جمعتُ فيها كلّ رسائل جيسيكا الغرامية إليّ. وكنتُ في أوقات الاستراحة من القيادة، استل إحدى تلك الرسائل، فأعيد قراءتها، فتبعث فيّ شيئًا من النشاط.

وصلتُ سالزبورغ فعلاً في الخامسة والنصف من مساء اليوم الموعود. بيْدَ أني أضعتُ بعض الوقت للاهتداء إلى حديقة ميرابلا، وهدرتُ دقائق لإيقاف السيارة بالقرب من المكتبة. توجّهتُ إلى مدخل المكتبة وأنا أنظر إلى الساعة الجداريّة الكبيرة المنصوبة في برج المكتبة، وكانت تشير إلى الدقيقة الخامسة بعد السادسة.

لم تكن جيسيكا في مدخل المكتبة. ولم أرها في بهو الاستقبال. توجَّهتُ إلى موظَّفة الاستقبال، وسألتها بلطفٍ عن جيسيكا باومان. قالت بابتسامة:
ـ غادرت المكتبة عند انتهاء عملها قبل دقائق.

قلتُ وقد دهمتني الدهشة العارمة:
ـ قبل دقائق؟! قبل دقائق فقط ولم تنتظِرني؟! أنا على موعد معها وقد أتيتُ من أوسلو لأجلها.

لا شكَّ في أنَّ موظفة الاستقبال لاحظت الصدمة التي أصابتني، وشعرتْ بالعطف على هذا الشابّ الغريب الوجه الغريب الكلام. قالت بدافع من روح المساعدة التي تتحلّى بها لمساعدة قرّاء المكتبة:
ـ إنّها تذهب عادة إلى منزلها بعد العمل، وقد تجدها هناك.

في تلك اللحظة، انتبهتُ إلى أنني لم أكن أتوفّر على عنوان منزلها، فقد كانت جميع مراسلاتها تحمل عنوان مكتبة ميرابلا. فقلتُ بنوع من الانكسار:
ـ ولكني لا أعرف عنوان منزلها.

دوّنت موظفة الاستقبال العنوان على ورقة، وناولتني إيّاها وهي تزوّدني ببعض الشروح لمساعدتي في الوصول إلى المنزل. لا أذكر إنْ شكرتُ الموظَّفة؛ فقد كان الذهول يسيطر عليَّ. قرعتُ جرس المنزل، مرّةً ومرَّتين. لحظات انتظار عصيبة. انفتح الباب. ظهرتْ فتاةٌ أُخرى. ليست جيسيكا، ولا تشبهها. قلتُ بلهفة دون أن ألقي التحيّة:
ـ أنا نبيل، صديق جيسيكا؟ هل جيسيكا موجودة؟

بدت الفتاة كأنها لم تسمع باسمي من قبل. قالت:
ـ لا، ذهبتْ إلى النادي. أنا أختها لينا.
ـ إلى النادي؟ كيف؟ أنا على موعد معها. أتيتُ أقود سيارتي من أوسلو لأصل في الموعد. هي تعلم ذلك.

لم تقل الفتاة شيئًا، كأنّ الأمر لا يهمّها. أضفتُ بلهجة انكسار ورجاء:
ـ أرجوك أن ترشديني إلى النادي.

قالت:
ـ طيّب، سأصطحبك إليه.

جلستْ إلى جانبي في السيارة. تحرّكتُ في الاتجاه الذي أشارت إليه. سألتُها:
ـ كيف ذهبتْ إلى النادي؟
ـ بالدراجة.

داهمت فكري الظنونُ. لعلّ جيسيكا التقت شخصًا أحبّته كثيرًا فنسيتْ أمري. ولكنّ هذا مستحيل؛ فآخر رسالة منها كانت قبل أربعة أيام فقط. ومع ذلك سألتُ أُختها:
ـ هل ذهبتْ مع صديقها؟

أجابت بلهجة باردة:
ـ لا صديق لها.

وصلنا النادي. عند المدخل بعض المقاعد. طلبت مني أختها أن أنتظر هناك. وسارت نحو المسبح. بعد دقائق، لمحتُ جيسيكا تخرج من الماء وهي بلباس السباحة، تقف تحت الدشّ، ثم تتناول منشفة لتنشف جسمها، وتدخل غرفة الملابس.
وأخيراً أقبلتْ عليّ وحدها. تقدّمتُ نحوها مادًا ذراعَيَّ وأنا أقول بلهفة:
ـ جيسيكا، وأخيرًا أسعد باللقاء. يا إلهي، كم...

غير أنّ جيسيكا مدّت إليّ يدها اليمنى، كما لو كنا نلتقي أول مرّة. كان وجهها خاليًا من أيّ تعبير. وكانت يدها أشدّ برودةً من وجهها. خطر لي أنّها حزينةٌ لأمرٍ ما؛ فإذا جلسنا في المقهى، فقد تخبرني بما هناك. قلتُ لها بحماسة بادية:
ـ هل تودّين أن نذهب إلى أحد المقاهي؟

هزّت رأسها موافقة، وقالت لأختها أن تعود إلى المنزل بدرّاجتها. فتحتُ لها باب السيّارة. ركبتْ إلى جانبي. عدتُ إلى وسط المدينة العتيقة. كانت المقاهي منتشرة في الهواء الطلق تحت أقواس البنايات التاريخية وأروقتها. جلسنا في أحد المقاهي. طلبتْ فنجان قهوة، فطلبتُ مثلها. لم تفُه بشيء. قلتُ لها:
ـ هل حدث ما يحزنك؟ هل هناك ما يزعجك؟

ضمَّتْ شفتيها. لم تقُل شيئًا، بل هزّت رأسها بالنفي. لم أدرِ ما أقول، وغرقتُ في لجّة من الأفكار والظنون.
مرَّ وقتٌ ونحن صامتان. الهواء ثقيل، والسكون يرين برغم الموسيقى الكلاسيكيّة المنبعثة من داخل المقهى. أردتُ أن أشيع شيئًا من البهجة، فقلتُ بابتسامة مضيفًا شيئًا من المرح إلى صوتي:
ـ والآن أين تودّين أن نذهب؟

قالت بلهجة حازمة وصوت خفيض:
ـ إلى المنزل.
ـ وبعد ذلك؟

قالت بلهجة قاطعة:
ـ لا أستطيع الخروج مساءً.

ونهضتْ واقفة.

اصطحبتُها بالسيّارة إلى منزلها. نزلتْ منها واتجهت نحو باب المنزل من دون أن تودّعني أو تفُه بشيء. قلتُ مستفسرًا:
ـ وغدًا؟

هزّت رأسها مُلغيةً أيَّ أملٍ بلقاء.

لم أدرِ ما أفعل. اجتاحني غضب وخيبة شديدان. التفتُّ إلى المقعد الخلفيّ في السيّارة. التقطتُ علبة رسائلها، وصرختُ بها قبل أن تدخل المنزل:
ـ انتظري. خُذي هذه.

وقذفتُ بالعلبة عليها أو إليها، وانطلقتُ بسيارتي خارجًا من مدينة سالزبورغ كلّها.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى