
المفكر العربي المعروف محمد عابد الجابري
– إسرائيل ستنتهي بعد خمسة عقود.
– الوطن العربي في خير، وسيلحق قريبا بالغرب .
– العرب سيحققون وحدتهم المنشودة حالما "تشبع" البلدان العربية من قطريتها الضيقة.
– لم يتغير شيء يذكر في العالم العربي منذ القرون الوسطى سوى الوعي.
– الغرب هو الذي أفسد في الماضي مشروع الإصلاح الليبرالي، الذي يدعو إليه اليوم، في البلدان العربية.
– لا أخاف على العالم العربي من الانهيار، لأن المسافة بينه وبين الانهيار ليست بعيدة، أما الانهيار الحقيقي فهو الذي قد يلحق الغرب، لأنه شديد التقدم وشديد الرقي وبالتالي فإن انهياره سيكون له دوي كبير.
– علاقتنا مع الآخر هي علاقة العبد بالسيد.
– خذ الحكمة من أفواه الحمقى: أوربا صُدمت بقول "أحمدي نجاد": امنحوا اليهود دولة في أوربا، إن أردتم التكفير عن سيئاتكم.
– نعم، ما زال عرب الخليج محتفظين ببداوتهم. فهم تجار وليسوا صناَّعا.
– هذا "المؤتمر القومي العربي" يشبه المؤتمر اليهودي الصهيوني الذي تأسس في "بازل" منذ قرن ونيف (في عام 1898). فهذا المؤتمر الأخير دعا إلى إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين، وحقق بعض أهدافه نسبيا، والمؤتمر القومي العربي ربما سيحقق أهدافه في تحقيق الوحدة العربية بعد مرور مدة قد تستغرق قرنا ...
– لم يحصل في التاريخ البشري أن بلغت مقاومة العدوان الخارجي هذا الشكل من التضحية والفداء، بحيث يتحول الإنسان ذاته إلى قنبلة بشرية.
– قلت قبل سنوات أن إسرائيل ستفشل في تحقيق حلمها في إنشاء دولتها على الأراضي الممتدة من النيل إلى الفرات، بعد عشر سنوات، وهذا ما حصل فعلا الآن. وإسرائيل عاجزة عن تحقيق أبسط متطلبات وجودها المتمثل بأمنها.
– يجب أن لا نتغنى بسقوط الغرب والحضارة الغربية، هناك الكثير ممن يتمنون هذا ويحولون التمني إلى تنبؤ بل إلى واقع.
– مكن أن نحقق اليوم الثورة بواسطة امتلاك العلم والمعرفة. والمؤشرات على أننا بدأنا في ولوج هذا الطريق واضحة، لا تحتاج إلى كد الذهن من أجل إبرازها.
– التاريخ يصنعه الحمقى أحيانا من أمثال بوش والمحافظين الجدد.
مقدمة
لئن يوصف الحديث بين الأصدقاء والأحباب بأنه "حديث ذو شجون"، ونعني به حديثا مشوقا، أكثر من أنه ذو "شجون" بالفعل، أي "أحزان"، فقد كان حديثي مع الجابري أكثر من ذلك بكثير. ولعل أقرب ما يمكن أن يوصف به هو أنه كان حديثاً ذا شجون وفنون وعيون، وآذان مرهفة، وفكر متعطش للفهم و التفهم، من جانب، وسيل من الفكر المتدفق والتحليل الدقيق من الجانب الآخر. فكاتب هذه السطور لم يقابل الجابري كصحافي أو إعلامي يوجه إليه أسئلة محددة سلفا، ويكتب أجوبته فينقلها إلى جمهوره، بل قابله بصفته إنسانا ً قوميا ً عربيا ً تقدميا ً، منهمكا ً بصرامة وعمق ، بهموم هذه الأمة ومستقبلها ومصيرها، منذ كان شابا. وإذ قارب خريف عمره، في الثمانينيات من القرن الماضي، اكتشف الجابري، فحرص على تتبع أعماله باهتمام شديد ووعي ناقد، بل أصبح يعتبره من أهم المفكرين العرب القلائل الذين يستحقون العناية والدراسة والفهم. خاصة لأنه ربما يُعتبر أول مفكر عربي عالج مسألة تخلفنا الحضاري من خلال معالجة "العقل العربي" ذاته. فقد نقد هذا العقل في رباعيته المشهورة"نقد العقل العربي"، التي تتألف من أربعة مجلدات، وذلك بعد أن أغنى المكتبة العربية بقرابة ثلاثين مؤلفا. وهكذا حرص كاتب هذه السطور على اعتبار هذا المفكر من أهم مراجعه الأساسية حينما كتب مؤلفه الأخير الذي صدرت طبعته الثانية مؤخراً تحت عنوان "العقل الفاعل والعقل المنفعل وأزمة التطور الحضاري في الوطن العربي؛الأمة العربية بين النهضة والانقراض ". علما أن بعض الأفكار والنظريات الواردة في هذا الكتاب لا تتفق بالضرورة مع نظريات الجابري، بل قد تتقاطع وتتعارض معها، وربما تكملها وتعدلها أحيانا.
وفي هذا الكتاب لاحظ المؤلف، بين أمور أخرى كثيرة، أن المفكر الجابري قد انتبه إلى نقطة جديرة بالاعتبار مفادها أن الكـُتاب والمفكرين العرب، الذين سبقوه، تعرضوا لمعالجة مختلف أسباب فشلنا في تحقيق نهضتنا بما فيها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، ولكن ميدانا واحدا لم يتطرق إليه أحد منهم ، بشكل جدي وصارم، ألا وهو ميدان "العقل العربي ذاته" (الخطاب العربي المعاصر، ط4، ص8). فإن كانت أداة النقد ومسطرة القياس، عاطلة أو مُعـَطـَّـلـَة، لسبب أو آخر، فإن نتائج التمحيص والتشخيص لابد أن تكون ناقصة أو فاشلة. لذلك فشلوا في تحقيق النهضة المنشودة.
ومن هذه المنطلق حرص كاتب هذه السطور، ليس فقط على تتبع كتابات الجابري بتفحص وإمعان، بل أخذ يمعن النظر أيضا بكل ما يكتشفه من كتابات ناقديه و"منتقديه" ومهاجميه. ومع احترامه لبعض هذه النقود (جمع نقد)، وبصرف النظر الآن عن مدى أهمية البعض الآخر، وسواء كانت عادلة أو ظالمة، فإن هذا الكمّ الهائل من المقالات والمؤلفات التي صدرت في نقد أعماله، سلبا أو إيجابا، قد يدل، بين أمور أخرى، على كثرة الأعصاب الحساسة، بل المتوترة، التي أصابها أو لمسها الجابري، من جهة، أو ربما يشكل بادرة صحة أو خِصب، ما تزال كامنة في الفكر العربي، استطاع مفكرنا المتميز أن يفجـِّرها، من جهة أخرى (انظر مقالنا الصادر في صحيفة القدس العربي في 5/ 5/2006 ،تحت عنوان" بمناسبة صدور كتاب "التراث والنهضة، قراءات في أعمال الجابري") .
وانطلاقا من هذه الرفقة الفكرية الحميمة، التي تربو على العقدين، استبشرتُ جدا بالدعوة التي تلقيتها من الأخ الكريم الأستاذ معن بشور، أمين عام المؤتمر القومي العربي، لحضور الدورة السابعة عشرة للمؤتمر(5-8/5/2006)، خاصة لأنها عقدت في الدار البيضاء، موقع إقامة المفكر الجابري، الذي كنت أتلهف للقائه، لاسيما وأنه عضو في هذا المؤتمر. وبهذه المناسبة لابد أن أتقدم بالشكر الجزيل لمفكرنا الجليل لتكريس هذا الوقت الطويل للقائي على انفراد، على الرغم من ضيق وقته وظروفه الشخصية الحرجة، في حين أنه اعتذر، لهذا السبب، عن القيام بأي نشاط مكرس للمؤتمر، بما فيه إلقاء محاضرة، أسوة بالمرة السابقة التي انعقد فيها المؤتمر في الرباط (1997). كما أشكر وأقدر بإخلاص الجهود التي قام بها صديقنا المشترك الأستاذ الفاضل عبد القادر الحضري، الذي يعود إليه الفضل في ترتيب هذين اللقائين(الأول في 5/5،والثاني في 7/5/2006).
وفي هذا النص سأرمز إلى الأستاذ الجابري بحرف "ج"، وإلى كاتب هذه السطور بحرف" أ ". علما أنني سأشير إلى بعض النقاط القليلة التي توسعت قليلا في شرحها في هذا النص، توضيحا للقارئ، أو وضعتها بين قوسين. علما أن كثيراً من النقاط التي طرحها المفكر الجابري بحاجة إلى توضيح وتعقيب أو رد ونقد، وهي أمور امتنعت عن القيام بها في هذا اللقاء عمدا، بسبب محدودية الوقت، وحرصي على استثماره إلى أقصى حد ممكن لنأخذ من أستاذنا الجابري أكبر قدر ممكن من فكر ورأي، مع احتفاظي بحقوقي في التعليق والنقد، الذي قد أتمكن أن أقوم بهما في مناسبة أخرى.
أهم ما جاء في اللقاء
كنت قد وجهت إلى الدكتور الجابري سؤالا محددا، في جلسة مختصرة سابقة، جرت على هامش افتتاح دورة المؤتمر القومي العربي في الدار البيضاء، المغرب في 5/5/2006 . وينصب السؤال على استشراف مستقبل الأمة العربية ومصيرها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأوضاع المتردية الراهنة، على صعيد الواقع المحسوس والمُعاش، وفي ضوء ما ذكره، على صعيد التنظير التاريخي، المؤرخ والمفكر البريطاني المعروف أرنولد توينبي Arnold J.Toynbee، في سياق تحليله وتصنيفه للحضارات، في كتابه الموسوعي"دراسة للتاريخStudy of History"(13مجلدا)، التي حصرها بإحدى وعشرين حضارة، انقرض منها 14 حضارة، وبقيت الآن ست حضارات في طريقها إلى الانقراض، منها الحضارة الإسلامية وبضمنها العربية طبعا . . .!! وقد فضَّلت التركيز على هذا السؤال، مع أنني كنت أحمل في حافظة ذهني سيلاً من محاور الحوار الأخرى، تتعلق بعضها بالمقارنة بين نظرياته ونظرياتي، لأنني اعتقدت أن هذا السؤال هو الأهم في نظري، انطلاقا من انشغالي الأشد بمصير هذه الأمة، وحرصي عليها، مع أخذي بنظر الاعتبار حدود الوقت المتاح للحوار.
وفي بداية الجلسة الثانية، التي عقدت في 7/5/2006، أعدت طرح نفس الموضوع موضحا بالقول:( أكرر أن ألف، تعني الأعرجي، وجيم، تعني الجابري).
– ------ في لقائنا الأول، الذي كان قصيرا ومرتجلا، إلى حد بعيد، حين سألتك عن استشرافك مصير هذه الأمة المنكوبة، وأنا أقول منكوبة ليس بالآخر فحسب، بل منكوبة بأهلها أيضا، فهمت من إجابتك، تلك الإجابة التي اعتبرتها غير شافية، آن ذاك، أنك كنت متفائلا، أكثر مني على الأقل، لو صح فهمي. فرجائي أن توضح وجهة نظرك اكثر في هذه المسألة الخطيرة.
– عندما يواجه الإنسان الواقع، وأنا هنا أنطلق بوصفي باحثا بالدرجة الأولى - باحث له علاقة بتاريخ الفكر وبالتطورات السياسية- لا بد له من أن ينتهي إلى أن الانطلاق من هذه الزاوية، يجعل التفاؤل والتشاؤم بدون معنى. والذي يجعلنا حبيسي هذه الثنائية، هو تأثير الإعلام الذي يضغط علينا بشدة ويقدم لنا فيضا من التفاصيل فيعرقل بذلك الفكر. فعندما نسمع مثلا عن نكبة دير ياسين، نكون إزاء حدث وقع وانتهى، منذ زمن بعيد نسبيا، لكن عندما نسمع اليوم عن الأحداث التي تقع في العراق أو في فلسطين ونراها ونعيشها، تأخذ منا الصورة حجما كبيرا من الوعي والوجدان، بحيث لا تترك مجالا للفكر. فالعالم اليوم محاط وملفوف بغطاء يتجلى في هذا الإعلام. ولذلك فيجب أن نحسب حسابا لهذا التضخيم الناتج عن هذه الوسائط الإعلامية.
نعم، أوضاعنا في العالم العربي سيئة ما في ذلك شك، لكنها ليست أسوأ من كثير من بلدان إفريقيا. في الماضي القريب كنا نسمع عن غانا التي كان يحكمها نيكروما والتي كانت مرتبطة بالأحلام والرغبة في الخروج من التخلف واللحاق بركب الحضارة، كما نسمع عن بلاد سيكوتوري. وأنا أتذكر أن أول حركة تحريرية في العالم سمعتها وأثرت فيَّ، هي حركة "الماوماو"، و صدى هذه التسمية ما زال إلى اليوم في أذني على أمواج الـ BBC في أواخر الخمسينيات. كانت هذه الحركة بالنسبة لنا هي فيتنام في وقتها. لكن الآن انظر إلى موطن هذه الحركة أي كينيا، إنها ليست في الوضع الذي كان يجب أن تكون عليه، مقارنة بالحركة التي انطلقت في مرحلة التحرير. أيضا ماذا نقول عن آسيا نفسها وعن الاتحاد السوفيتي؛ هذه الثورة التي جاءت لتغير التاريخ. سبعون سنة وهي القطب الثاني في العالم كله، بين ليلة وضحاها تغير الوضع مائة بالمائة. لا وجه للمقارنة إذن بين ما حصل لنا من انتكاس في السنوات الماضية وبين ما حصل للسوفييت. بل أكثر من ذلك في أواخر الخمسينيات والستينيات كان عندنا مجموعة نماذج على مستوى الفكر والحركة مثل ماوتسي تونغ في الصين وتيتو في يوغوسلافيا وهذا الأخير كان نموذجا ومثالا؟ فأين يوغوسلافيا اليوم من يوغسلافيا الأمس؟ بالنسبة لنا كان عندنا جمال عبد الناصر وسوكارنو وبن بلة... لكن التاريخ هو هكذا، يستحيل أن يكون خطا مستقيما. التاريخ، كما عبَّر عنه كبار الفلاسفة، يسير في خط لولبي حلزوني. هذا هو التاريخ.
ولكن هنا يجب أن نقف عند مسألة أساسية، وهي أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر. أنا عشت في سوريا في السنوات المتلألئة، أيام الوحدة وزيارة عبد الناصر، لكن وضع سوريا الحقيقي آنذاك، وليس وضع الأحلام ولا الإعلام، وضع الشعب المتميز بالكثير من المشاكل والمعيقات، لا يختلف عما هو عليه الآن. وفي المغرب نلاحظ نفس الشيء إذ نرى الآن عمرانا وتقدما على مستوى المظاهر، مقارنة بما كان عليه الأمر في الخمسينيات، لكن الشعب المغربي في البوادي، وضعيته هي هي، كما كانت قبل مئات السنين. وبالانتقال إلى البادية ننتقل إلى القرون الوسطى، وهذا شأن العالم العربي بأسره. ودليلنا هو أن المحراث الخشبي ما زال إلى اليوم مستعملا في كل أرجاء هذا الوطن. فماذا تغير؟
– هذا هو مغزى سؤالي لك، ماذا تغير؟" أقصد عندما سألتك عن استشراف مستقبل أمتنا ومصيرها،أخذت بنظر الاعتبار أن شيئا لم يتغير. وبينما العالم، على صعيد الطرف الآخر، يتغير بسرعة هائلة، ترانا ما نزال نعيش في القرون الوسطى أو قبلها، في كل شيء تقريبا، كما تقول الآن، باستثناء المظاهر السطحية مثل البنايات واستخدام الوسائل الحضارية الحديثة كمستهلكين وليس كمنتجين أو مبدعين.
– الذي تغير ويتغير هو الوعي، هو أن نعيش القضية على صعيد الوعي سواء في مرحلة الأحلام أو في مرحلة الآلام! والوعي، على كل حال، وجدان يتغير ومقياس غير ثابت، وهو لا يمثل الحقيقة، فالحقيقة شيء والوعي شيء آخر. لذلك يجب أن تكون هناك مراقبة عقلية للمقارنة والرصد. تصور العراق كما هو اليوم لا كهرباء ولا ماء، ومع ذلك هناك انشغال بقضايا فكرية، وأنا شخصيا تصلني رسائل إليكترونية يوميا تتضمن أسئلة وطلبات لمقالاتي وكتبي، وإخبار عن رسائل جامعية حول مؤلفاتي، وهذا الانشغال يطال كل الجهات بما في ذلك كردستان، وهذه علامة إيجابية لا تنكر.
– المسألة التي تؤرقني وأرى أن علينا مواجهتها ومعالجتها، هذه الفجوة الحضارية القائمة بيننا وبين الآخر التي تزداد في كل لحظة. فلو فرضنا جدلا أننا نتقدم فإن سرعة تقدمنا لا تتجاوز سرعة مسير الدابة، بينما يتقدم "الآخر" بسرعة الطائرة أو أكثر. هذه الفجوة تتزايد سعة وعمقا كلما تقدم الزمن، وتتضاعف كلما تقدم التاريخ ، مما يؤدي إلى زيادة تحكم الآخر بمقدرات الأمة العربية وسيطرته على مواردها، وبالتالي على كيانها بل وجودها، كما يحدث فعلا اليوم في مختلف ميادين العلاقة معه. فحتى لو تقدمنا بهذا القدر اليسير الذي تفضلتم بذكره، فسوف لن نستطيع اللحاق بالحضارة الغربية، أي ستظل هذه الفجوة قائمة بل ستتضاعف بمرور الوقت، الأمر الذي أسفر عن هذه النكبات المتوالية التي أصابت الوطن العربي، وقد يؤدي إلى ويلات أكثر هولا ً في المستقبل.
– ليس من الضروري أن يقرأ الإنسان الأمور بهذا الشكل. علماء النفس يتحدثون عن الإحساس، والإحساس يكون دائما إحساسا بالفارق، وتضخيم هذا الإحساس يجب أن نرجعه لسببين: أولهما هو أن الغرب قضى أكثر من ثلاث مائة سنة في الحروب الدينية والقومية، بينما انطلقت نهضتنا على أكثر تقدير في بداية القرن التاسع عشر، ونحن لم ننخرط في النهضة وطرح إشكالاتها إلا منذ مائة سنة. أما السبب الثاني، وهو أن الغرب عندما كان يتقاتل أو يحارب أو يتقدم ويبني نهضته لم يكن هناك خصم خارجي يتدخل لإحباطه أو لإعاقته، أما نحن فالخصم الخارجي يجب استحضاره دائما، إنه عنصر أساسي في المعادلة. يجب إذن أن لا نقيس الأمور بنفس المقياس لأن لنا وضعا مختلفا.
ففي المغرب ومصر مثلا: مَن الذي أفسد المشروع الوطني الليبرالي الذي يدعو إليه الجميع الآن؟ إنه الاستعمار، فالحكومة التي كانت قائمة في أواخر الخمسينيات في المغرب، والمخطط الذي وضعته ما بين الستين وأربعة وستين، وكان من المفروض أن يقضي على الأمية وأن يسهم في إعطاء دينامية اقتصادية وتصنيعية قوية... لكن الاستعمار تدخل وأقنع المسؤولين آنذاك بأن هؤلاء الذين يدعون إلى الإصلاح، ليس غرضهم التصنيع، بل هدفهم النهائي هو خلق طبقة عاملة تقوم بالثورة مثل تلك التي وقعت في روسيا، وتسقط بذلك النظام! لقد كانت هناك شبه حرب باردة. هذه الفروق يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وذلك حتى لا يهيمن على رؤانا الإحباط واليأس والتشاؤم. الغرب نفسه له مشاكله، وأنا لاحظت عند زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية أن عدد المتسولين في نيويورك يفوق عددهم في الدار البيضاء، ناهيك عن المشردين الذين يبيتون في الشوارع، فضلا عن السود وذوي الأصول الإسبانية الذين يعيشون في وضعية مزرية لا تعكس مستوى الحضارة الأمريكية. أنا بصراحة لا أخاف على العالم العربي من الانهيار، لأن المسافة بينه وبين الانهيار ليست بعيدة، أما الانهيار الحقيقي فهو الذي قد يلحق الغرب، لأنه شديد التقدم وشديد الرقي وبالتالي فإن انهياره سيكون له دوي كبير.
...