
الهرمكة لسعيد رحيم

تبدأ رواية "الهرمكة " للكاتب سعيد رحيم، من أرضٍ لا ظلّ لها، ولا ذاكرة. مساحة خالية إلا من الريح والحصى وأحلام رجل غريب يدعى أنطوان مانيك، هارب من بطش فرانكو، حالم بصناعة بيئية نقيّة في بلدٍ تحت قبضة استعمار مزدوج. لكن الأرض، كما التاريخ، لا تمنح نفسها لمن يحاول رسم أحلامه عليها ببساطة… كانت "البوز" هناك، هامشًا جغرافيًا وتاريخيًا، لكنه في الرواية يصبح مركزًا لدوران مصيري يشبه دوران آلة الطحن: "الهرمكة".
أنطوان ليس فقط مهندسًا، بل رجل مكسور، يحمل مشروعه كمن يحمل قلبًا يريد زرعه في تربة غريبة، تربة المغرب المثخنة بجراح الاستعمار والتفاوت. وحين يجد الأرض المناسبة قرب مجرى الماء، يبني المعمل لا ليشتغل فقط، بل ليصنع من الفلين ذاكرة، وليُقيم حوله مجتمعًا صغيرًا سيتحول لاحقًا إلى خريطة بشرية بأحلامها المتناقضة وندوبها المتكرّرة.
لكن الرواية لا تبدأ من أنطوان، بل من كمال رشدي، ابن التهميش، المراهق الذي تسحقه آلة "الهرمكة" يومًا ما، ولا تسحق جسده فقط، بل توقظه على أسئلة الوجود والمصير، وتدفعه في دوامة البحث عن معنى الاسم، عن أصل المكان، عن التاريخ الذي جرى في الخلفية بينما انشغل الجميع بخبز اليومي.. يقرر كمال، رفقة صديقه إدريس، أن يفتّش في ذاكرة الأرض، في أصل تسمية "البوز"، في جذورها المغفلة، ويكتشف أن ما يبدو نقطة في الخرائط، كان ذات زمن نقطة عبور سلطانية، ومسرحًا لتاريخ طُمِس لصالح اقتصاد الحرب والاستعمار.
"الهرمكة" ليست فقط آلَةَ طحن، بل شخصية روائية بذاتها، لها إيقاعها، وقعها، صراخها. تطحن الفلين، لكن أيضًا تطحن الحالمين، العمال، الفقراء الذين انتقلوا من الحياة في ظل الفلاحة إلى زمن الآلة، زمن الأجور المحددة، زمن الذل المؤطَّر بالقانون. وفي خضم هذه التحولات، تتولد علاقات إنسانية هشّة، حب خجول بين كمال وعفيفة، رسائل مشتهاة في زحمة الحديد، وأحلام تُكتَب في دفاتر مدرسية ملطخة بزيت الماكينات.
تخطف عفيفة من عالم كمال كما تُخطف الأحلام في المجتمعات المتأرجحة. يختفي الحُبّ في ظروف غامضة، ويبدأ فصل البحث عنها، عبر صديقتها "حرية"، التي تمثل عنوانًا رمزيًا لما يتعقّبه كمال طوال الرواية: حرية الحب، حرية الذات، حرية الحلم وسط طاحونة التاريخ.
وفاة أنطوان ليست فقط موتًا لراوٍ سابق، بل إعلانٌ بتحول المعمل إلى مقبرة بطيئة، تبدأ "الهرمكة" عندها بطحن المعمل نفسه، وموظفيه، وأهل القرية. ومع غياب السر الصناعي الذي حمله أنطوان وحده، يتدهور كل شيء، وتتآكل المدينة الصغيرة من الداخل. ليس فقط البطالة، بل الوحدة، والكساد، والتهميش، وحتى البغاء والخمور يتضرران من خراب الاقتصاد الصغير الذي صنعه الفلين.
يلتحق كمال، الذي نضج في فرن الهرمكة، بحركات ثقافية وسياسية تحاول رفع الظلم عن هوامش المدن والقرى. لكنه سيصطدم بجدار القوى المتسلطة، وسيدفع الثمن، اعتقالًا، قمعًا، ثم وعيًا أوسع يزرع في ساكنة "البوز" شرارة التغيير. تتغير نتائج اللعبة للحظة، لكن تبقى القواعد نفسها: طاحونة الزمن تطحن دومًا من لا يملك سرّ دورانها.
"الهرمكة" رواية عن المجتمع حين يُبنى حول آلة، وعن الإنسان حين يُعجَن بمزيجٍ من الحب والحديد، وعن الفقر حين يتخذ أشكالًا حديثة، محاطة بأمل زائف… إنها رواية عن الطحن، عن التحوّل، عن الزمن الذي لا يتوقف عن التهامنا، نحن الذين نحاول فقط أن نحبّ، أن نعيش، أن نتذكّر.